ههنا تقع المفاجآت الكبرى التي قد يكون لبعضها تأثيرات ارتكاسية غير متوقعة، ويصفها العقل البارد بكونها خارجة عن المنطق، أو أن المجتمع قد أصابته علّة ما، أو أن التاريخ نفسه بات غير مفهوم بالنسبة لأبنائه.
أصبح من يمتلكون هذه القوى، أشبه بالأقدار الموجهة لحياة الجماعات، إن لم نقل الأمم والدول. وفي عالمنا العربي وضواحيه الإسلامية الُموغلة حتى العمق الآسيوي، تروِّج ثقافة التديّن، كأنها تعويض ايديولوجي وسياسي عن الفشل النهضوي. وما نعنيه بالفشل النهضوي ليس متمثلاً في مظاهر التنمية العمرانية ومشتقاتها، ولكن في عجز النهضة، أو تعجيزها بالأحرى، عن إنتاج المجتمع المدني والدولة العادلة والإنسان السوي الحر. ذلك أنه، في ظل هذا الفشل البنيوي تستردّ عوامل الانحطاط القديم فعاليتها، وتضاعف تأثيراتها بما تتواصل معه من وسائل التدمير العصرية. فحين تهبّ رياح الثورة على هكذا واقع، المتخم بأضاليله وأسوائه المزمنة، يحدث ذلك الالتباس الاجتماعي الثقافي الكبير ما بين المشروع الثوري ونقائضه الهائلة على الأرض، حتى يمكن لبعض الفكر العلمي أن يشير بكل صراحة الى أن الثورة في المجتمع المتخلّف سوف ينتهي بها الأمر لكي تغدو ثورة متخلّفة هي كذلك من جنس بقية ظواهره المتردية؛ إذ أن التخلّف الذي يستولي على بعض الأفعال الثورية أو رموزها، وحتى بعض أهدافها، لا يقوم فقط بسرقة أو اختطاف الحدث التغييري العام الذي يستنفر القوى الشابة الصاعدة، لا تشكل اعتداءاته تلك مجرد ثورة مضادة حسب ما يُفهم عادة من هذا المصطلح، فإن زحوف التخلّف على اندفاعة الحياة الجديدة لن تقهر قواها الفتية بين يوم وليلة، لكنها قد تحرِّف مسار المشروع، تجعله يفتح ضده جبهات جانبية، تبعده قليلاً أو كثيراً عن هدفه الأصلي.
إنها عملية إغراق الظاهرة الصحية بالأشباه الزائفة، على أمل أن يعْتلَّ الجسمُ السليم الأصلي نفسه، في هذه الحالة لا يفقد المجتمع فرصة تقدمه المأمول فحسب، بل يجرّ عليه هذا التقدم المسروق هولاً من الصراعات العقيمة، من نوع تلك التي عرف نماذجَ لها كثيرة في ذاكرة ماضيه الغريب. فالحركات النهضوية الكبيرة التي حَفَلَ بها تاريخ المنطقة المعاصر، زاخرة بشواهد التشرذم السياسي والأيديولوجي، إن أفكاراً/أحداثاً عن القومية العربية، ثم عن الماركسية، ثم عن الثورة الفلسطينية، رسمت عصوراً صاخبة من العمل النخبوي والاستنفار الجمهوري، وقد اختلقت فيما بينها عواصف من كل نماذج الصراعات الفئوية الممكنة، لكنها باءت جميعها بالخيبات الصامتة والمدوية.
وها نحن أخيراً مع الاسلامويات، يكرّر المجتمع المتخلّف قوانين تشرذمه لكل ظاهرة مستحدثة بين ربوعه، ويكون لها بعض الرنين والإشعاع، ما يجعلها تتمتع بجاذبية التجنيد والتحشيد في صفوف فصائلها، وكان يمكن لهذه الإسلامويات أن تسود أعلامها السوداء سماوات وصحارى العالم العربي وجواره، حيثما يختم المجتمع المتخلّف مسيرةَ الإنهيار بعودة مظفَّرة شاملة لثقافة القرون الوسطى.. متأججة بالنيران والدخان المظلم مافوق دمويات حروب المئة عام أو أكثر.. كان ذلك تاريخاً أوربياً بائساً قبل قرون، وقد يقع اليوم أو الغد في هذا القرن لمن يسمّى بأمة الإسلام كونياً.
هل كان محصول النهضة الفاشلة رهاناً متفقاً عليه، وهو هذا الانحراف والاستغراق في وحول المستنقع اللفظوي الغيبي. هل كان محكوماً على هذه الأمم بحروب المئة أو مئات الأعوام، حتى يصير هذا الحكم أشبه بخاتمة تراجيدية، تعيد أمور العرب جميعها إلى نصابها القديم الأزلي..
ولكن حدث ما لم يكن في حسبان الدهر أو الإنسان، لقد انطلقت ثورة الربيع باسم الحرية وحدها، فلم يكن المصير إذن هو في الردّة الشمولية للغرق في المستنقع الأزلي، الباقي والمستمر وراء ظهور الجميع بانتظار الجميع. لم يكن في حسبان الاستراتيجيا الكونية وأدواتها المحلية أنه يمكن للنهضة الفاشلة أن تنتهي إلى غير مصيرها في مستنقعها الغيبوي العتيق. أما الثورة فهي الموعد الأقصى والحلم المعجز حقاً، ومع ذلك سوف تدمر ثلاثة أو أربعة أهرامات للطواغيت الأزلية، وسوف تهدد كل أخواتها.
هذا الربيع العربي كان هو الرد التاريخي على النهضة الفاشلة. كان هو الضيف الفجائي الذي قَلَبَ حسابات كبار تجّار ثلاثي الجبروت العصري: المال والسلاح والدين، فما أن انشغل الربيع بإطاحة أوائل طواغيت الرعب الجماعي، حتى نشطت كواليس الغرف المظلمة في إعداد الصفقات المعطلة لمواسم الربيع واحداً بعد الآخر. لم يعد مركب الاستبداد/الفساد قابضاً على قمم الدول جميعها، فقد تساقط عن بعضها الأكبر الأخطر، لكنه أولَدَ توأماً له قابضاً على أعناق المجتمعات. ههنا يبرز الاستبداد المحايث، في أرضية المجتمع، متصادياً مع الاستبداد المتعالي الجاثم على هامة الدولة.
النهضة الفاشلة التي تفاءلت بفقدان صفتها المشؤومة تلك، لتعود نهضة معافاة من الانهزام اليائس، مع فتوحات الربيع العظيمة. هذه النهضة عينها تواجه من جديد أحد أمراضها القديمة الأشبه بالأوبئة. إنها عودة الإيديولوجيا، عارية ـ هذه المرة ـ من أية أثواب ثقافوية أو سياسوية. إنها الايديولوجيا الخام التي تستخدم أخيراً ذخيرة الدين، مباشرة: ما يتصدى للربيع في عز موسمه، وفي صميم حقوله، هي هذه (الايديولوجيا) تحاول أن تنافسه في عقر داره، تصطنع معاركه مع أعدائه لتجهض نتائجها مقدماً، أو لتستولي عليها وحدها، فقد تهاجمه كونه لا جواب لديه عن كل المشكلات سوى حكمة الحرية، بينما هي تعتبر أن مقياسها هو في إعطاء كل مشكلة جوابَها المطلوب، لكن الربيع يردّ أن مقياس الايديولوجيا ليس بعدد الأجوبة التي يمكنها أن تعطيها، لكن بالقضايا التي يمكن أن تخفيها وتحجبها.
لعل أخطر ما تحجب هذه الايديولوجيا هي حواملها الثلاثة التي هي المال والسلاح و (مفردات)الدين؛ إنها تستعمل كل هذه الوسائط السحرية، لكنها لا تدّعيها لنفسها، في حين أنها توظفها في خدمة السياسة التي تتنكر لها باسمها الصريح، بينما تسخّر المجتمع كله وراء هدف السيطرة على حرياته وثرواته في وقت واحد.
يعترف مؤدلجو الغيبيات العصريون أن الشعوب يمكن أن تُخدع دائماً، فتُساق فيما تجهله، وتُفاجأ بما لم تكن تتوقعه وبالتالي صار يحق لأصحاب الغيبيات أن يمتطوا صهوات الجياد الثائرة، وأن يدخلوا بها ومعها إلى كل المعارك الفاصلة. هناك يتخلون عن الجياد المطهّمة، ويخرجون وحدهم محملين بالغنائم، وجارين وراءهم أرتالاً من العبيد الجدد. لكن شعوب الربيع العربي لن تقدم جيادها الباسلة مطايا لفرسان الصفوف الأخيرة أو المتخلّفة، باتت هذه الشعوب على دراية كافية بتجارب الثورات المخطوفة أو المغدورة أو المحرّفة.
التقدم الحقيقي، هو ما يُشغل شعوب الربيع، بالرغم من كل المعترضات الطفيلية. التقدم هو نار القلق المبدع الذي يدفع بالنُخب إلى اللحاق به دائماً. يجعلهم يشعرون كأنهم مقصِّرون عن أشواطه، فيضاعفون من الجهد والإرادة حتى يتمكنوا من القفز مافوق الهاوية التي تفصلهم عن اليوم الأخير.. للإشراق وحده.
أصبح من يمتلكون هذه القوى، أشبه بالأقدار الموجهة لحياة الجماعات، إن لم نقل الأمم والدول. وفي عالمنا العربي وضواحيه الإسلامية الُموغلة حتى العمق الآسيوي، تروِّج ثقافة التديّن، كأنها تعويض ايديولوجي وسياسي عن الفشل النهضوي. وما نعنيه بالفشل النهضوي ليس متمثلاً في مظاهر التنمية العمرانية ومشتقاتها، ولكن في عجز النهضة، أو تعجيزها بالأحرى، عن إنتاج المجتمع المدني والدولة العادلة والإنسان السوي الحر. ذلك أنه، في ظل هذا الفشل البنيوي تستردّ عوامل الانحطاط القديم فعاليتها، وتضاعف تأثيراتها بما تتواصل معه من وسائل التدمير العصرية. فحين تهبّ رياح الثورة على هكذا واقع، المتخم بأضاليله وأسوائه المزمنة، يحدث ذلك الالتباس الاجتماعي الثقافي الكبير ما بين المشروع الثوري ونقائضه الهائلة على الأرض، حتى يمكن لبعض الفكر العلمي أن يشير بكل صراحة الى أن الثورة في المجتمع المتخلّف سوف ينتهي بها الأمر لكي تغدو ثورة متخلّفة هي كذلك من جنس بقية ظواهره المتردية؛ إذ أن التخلّف الذي يستولي على بعض الأفعال الثورية أو رموزها، وحتى بعض أهدافها، لا يقوم فقط بسرقة أو اختطاف الحدث التغييري العام الذي يستنفر القوى الشابة الصاعدة، لا تشكل اعتداءاته تلك مجرد ثورة مضادة حسب ما يُفهم عادة من هذا المصطلح، فإن زحوف التخلّف على اندفاعة الحياة الجديدة لن تقهر قواها الفتية بين يوم وليلة، لكنها قد تحرِّف مسار المشروع، تجعله يفتح ضده جبهات جانبية، تبعده قليلاً أو كثيراً عن هدفه الأصلي.
إنها عملية إغراق الظاهرة الصحية بالأشباه الزائفة، على أمل أن يعْتلَّ الجسمُ السليم الأصلي نفسه، في هذه الحالة لا يفقد المجتمع فرصة تقدمه المأمول فحسب، بل يجرّ عليه هذا التقدم المسروق هولاً من الصراعات العقيمة، من نوع تلك التي عرف نماذجَ لها كثيرة في ذاكرة ماضيه الغريب. فالحركات النهضوية الكبيرة التي حَفَلَ بها تاريخ المنطقة المعاصر، زاخرة بشواهد التشرذم السياسي والأيديولوجي، إن أفكاراً/أحداثاً عن القومية العربية، ثم عن الماركسية، ثم عن الثورة الفلسطينية، رسمت عصوراً صاخبة من العمل النخبوي والاستنفار الجمهوري، وقد اختلقت فيما بينها عواصف من كل نماذج الصراعات الفئوية الممكنة، لكنها باءت جميعها بالخيبات الصامتة والمدوية.
وها نحن أخيراً مع الاسلامويات، يكرّر المجتمع المتخلّف قوانين تشرذمه لكل ظاهرة مستحدثة بين ربوعه، ويكون لها بعض الرنين والإشعاع، ما يجعلها تتمتع بجاذبية التجنيد والتحشيد في صفوف فصائلها، وكان يمكن لهذه الإسلامويات أن تسود أعلامها السوداء سماوات وصحارى العالم العربي وجواره، حيثما يختم المجتمع المتخلّف مسيرةَ الإنهيار بعودة مظفَّرة شاملة لثقافة القرون الوسطى.. متأججة بالنيران والدخان المظلم مافوق دمويات حروب المئة عام أو أكثر.. كان ذلك تاريخاً أوربياً بائساً قبل قرون، وقد يقع اليوم أو الغد في هذا القرن لمن يسمّى بأمة الإسلام كونياً.
هل كان محصول النهضة الفاشلة رهاناً متفقاً عليه، وهو هذا الانحراف والاستغراق في وحول المستنقع اللفظوي الغيبي. هل كان محكوماً على هذه الأمم بحروب المئة أو مئات الأعوام، حتى يصير هذا الحكم أشبه بخاتمة تراجيدية، تعيد أمور العرب جميعها إلى نصابها القديم الأزلي..
ولكن حدث ما لم يكن في حسبان الدهر أو الإنسان، لقد انطلقت ثورة الربيع باسم الحرية وحدها، فلم يكن المصير إذن هو في الردّة الشمولية للغرق في المستنقع الأزلي، الباقي والمستمر وراء ظهور الجميع بانتظار الجميع. لم يكن في حسبان الاستراتيجيا الكونية وأدواتها المحلية أنه يمكن للنهضة الفاشلة أن تنتهي إلى غير مصيرها في مستنقعها الغيبوي العتيق. أما الثورة فهي الموعد الأقصى والحلم المعجز حقاً، ومع ذلك سوف تدمر ثلاثة أو أربعة أهرامات للطواغيت الأزلية، وسوف تهدد كل أخواتها.
هذا الربيع العربي كان هو الرد التاريخي على النهضة الفاشلة. كان هو الضيف الفجائي الذي قَلَبَ حسابات كبار تجّار ثلاثي الجبروت العصري: المال والسلاح والدين، فما أن انشغل الربيع بإطاحة أوائل طواغيت الرعب الجماعي، حتى نشطت كواليس الغرف المظلمة في إعداد الصفقات المعطلة لمواسم الربيع واحداً بعد الآخر. لم يعد مركب الاستبداد/الفساد قابضاً على قمم الدول جميعها، فقد تساقط عن بعضها الأكبر الأخطر، لكنه أولَدَ توأماً له قابضاً على أعناق المجتمعات. ههنا يبرز الاستبداد المحايث، في أرضية المجتمع، متصادياً مع الاستبداد المتعالي الجاثم على هامة الدولة.
النهضة الفاشلة التي تفاءلت بفقدان صفتها المشؤومة تلك، لتعود نهضة معافاة من الانهزام اليائس، مع فتوحات الربيع العظيمة. هذه النهضة عينها تواجه من جديد أحد أمراضها القديمة الأشبه بالأوبئة. إنها عودة الإيديولوجيا، عارية ـ هذه المرة ـ من أية أثواب ثقافوية أو سياسوية. إنها الايديولوجيا الخام التي تستخدم أخيراً ذخيرة الدين، مباشرة: ما يتصدى للربيع في عز موسمه، وفي صميم حقوله، هي هذه (الايديولوجيا) تحاول أن تنافسه في عقر داره، تصطنع معاركه مع أعدائه لتجهض نتائجها مقدماً، أو لتستولي عليها وحدها، فقد تهاجمه كونه لا جواب لديه عن كل المشكلات سوى حكمة الحرية، بينما هي تعتبر أن مقياسها هو في إعطاء كل مشكلة جوابَها المطلوب، لكن الربيع يردّ أن مقياس الايديولوجيا ليس بعدد الأجوبة التي يمكنها أن تعطيها، لكن بالقضايا التي يمكن أن تخفيها وتحجبها.
لعل أخطر ما تحجب هذه الايديولوجيا هي حواملها الثلاثة التي هي المال والسلاح و (مفردات)الدين؛ إنها تستعمل كل هذه الوسائط السحرية، لكنها لا تدّعيها لنفسها، في حين أنها توظفها في خدمة السياسة التي تتنكر لها باسمها الصريح، بينما تسخّر المجتمع كله وراء هدف السيطرة على حرياته وثرواته في وقت واحد.
يعترف مؤدلجو الغيبيات العصريون أن الشعوب يمكن أن تُخدع دائماً، فتُساق فيما تجهله، وتُفاجأ بما لم تكن تتوقعه وبالتالي صار يحق لأصحاب الغيبيات أن يمتطوا صهوات الجياد الثائرة، وأن يدخلوا بها ومعها إلى كل المعارك الفاصلة. هناك يتخلون عن الجياد المطهّمة، ويخرجون وحدهم محملين بالغنائم، وجارين وراءهم أرتالاً من العبيد الجدد. لكن شعوب الربيع العربي لن تقدم جيادها الباسلة مطايا لفرسان الصفوف الأخيرة أو المتخلّفة، باتت هذه الشعوب على دراية كافية بتجارب الثورات المخطوفة أو المغدورة أو المحرّفة.
التقدم الحقيقي، هو ما يُشغل شعوب الربيع، بالرغم من كل المعترضات الطفيلية. التقدم هو نار القلق المبدع الذي يدفع بالنُخب إلى اللحاق به دائماً. يجعلهم يشعرون كأنهم مقصِّرون عن أشواطه، فيضاعفون من الجهد والإرادة حتى يتمكنوا من القفز مافوق الهاوية التي تفصلهم عن اليوم الأخير.. للإشراق وحده.