كان هذا الموقف واضحاً في اجتماع جدة، الذي شاركت فيه تركيا، إلى جانب دول «مجلس التعاون الخليجي» ومصر والأردن والعراق ولبنان والولايات المتحدة (11/9).
لا يخفى على أحد أن ثمة دولاً أخرى أبدت تحفظها عن «الخطة» الأميركية، التي تبشّر بحرب جوية، طويلة الأمد، وغير حاسمة، بيد أن تركيا هي الدولة الوحيدة التي عبّرت عن ذلك علناً، وطرحت تصوراً واضحاً، وأبدت تصميماً لذلك، ويبدو أن غالبية هذه المواقف هي التي غيرت الموقف الأميركي، الذي كان تحدث، في البداية، عن استهداف «داعش» في العراق فقط. كما لا يخفى على أحد أن تركيا، كانت عبرت مراراً وتكراراً عن تبرّمها من تردد إدارة أوباما في التعامل مع الملف السوري، وتحميله المسؤولية عن إطالة أمد مأساة السوريين.
ويبدو من ذلك أن تركيا تتحرك في مواقفها هذه وفقاً لقناعة مفادها أن هذه هي اللحظة المناسبة التي يمكنها فيها الضغط على الإدارة الأميركية لتعديل سياساتها في الشرق الأوسط، بعدما انكفأت، وبعدما فتحت الأبواب على مصراعيها للنفوذ الإيراني، من لبنان إلى اليمن مروراً بالعراق وسورية، والتجاوب مع مطالب دول الإقليم لصدّ هذا النفوذ.
هذا يفيد بأن تركيا، وبغض النظر عن تقويمنا لأدوارها الإقليمية بعد «الربيع العربي»، لا تستطيع العمل منفردة، على رغم قوتها العسكرية، وقدراتها الاقتصادية، وأن قيادتها تتصرف من واقع ادراكها لمدى تعقيد البيئات المحلية والإقليمية والدولية، والأعباء الكثيرة، والتداعيات الخطيرة، التي يمكن ان تنجم عن ذلك. يفاقم من كل ذلك وجودها على حدود واسعة مع مجتمعين وكيانين (سورية والعراق)، يعيشان انفجاراً على الكثير من الصعد، ويتعرضان لخطر التفكك وربما الانهيار.
على الصعيد الداخلي، نحن إزاء دولة تشتغل وفقاً لآليات النظم الديموقراطية، أي أن الحزب الحاكم لا يستطيع التفرد بقرار الانخراط في حرب إقليمية لمجرد أنه يريد ذلك، حتى لو تحققت له الغالبية البرلمانية. وفي ذلك، فإن حزب «العدالة والتنمية» يتحسّب من استغلال المعارضة التركية لأي خطوة قد يأخذها في ما يتعلق بالوضع السوري، ولا سيما لجهة اتهامه بشبهة العمل لإسقاط نظام الأسد لمصلحة حلفائه الإسلاميين، أو اتهامه من المعارضة الكردية بشبهة خنق الطموحات القومية للكرد في سورية. ويمكننا معرفة مدى تعقد الوضع من رفض بعض أطراف المعارضة الكردية، في تركيا وسورية، لأي تدخل تركي في الشأن السوري، ثم مطالبتهم تركيا ذاتها، إبان محنة عين العرب (كوباني) بالتدخل لوقف زحف «داعش» عليها، أو تسهيل وصول الامدادات إليها من الجهة التركية. وعدا عن المطالبات القومية المشروعة للكرد في تركيا، ثمة مشكلة لـ «حزب العدالة والتنمية»، في دوره السوري، مع الطائفة العلوية - التركية المتعاطفة مع نظام الأسد، كما ثمة مشكلة له، كحزب إسلامي، مع التيارات العلمانية، التي تعارض أي موقف له لأغراض المنافسة السياسية وتعزيز المكانة.
وبالطبع، فإن الصورة على الصعيد الإقليمي لا تقلّ تعقيداً، إذ ثمة دولتان تظهران فاعلية إقليمية، سياسية واقتصادية وعسكرية، معطوفة على أوضاع مجتمعية (طائفية)، هما تركيا وإيران، بعد أن انكفأت إسرائيل، على ما يظهر، عن العمل في هذا المجال، ربما بانتظار ما ستؤول اليه المنازعات الإقليمية والمحلية. ومع علمنا بأن تركيا اليوم هي غيرها بالأمس، بعد تضعضع علاقتها بإسرائيل، منذ الحرب الإسرائيلية الأولى على غزة (أواخر 2008)، فإن تركيا تجد نفسها في مواجهة حامية ومباشرة مع النفوذ الإيراني في المنطقة، عند حدودها الجنوبية مع العراق وسورية. والمشكلة أنها في هذه المواجهة لا تشتغل في بيئة مواتية لها، بسبب التجاذبات الحاصلة بينها وبين بعض الدول العربية، مثل مصر، وبعض دول مجلس التعاون الخليجي، على رغم التقاطع مع سياسات هذه الدول في ما يخص الموقف من النظامين السوري والإيراني.
وحقاً، فإن هذا الأمر يستحق التوقف والتساؤل، إذ إن تركيا هي الدولة الوحيدة التي استطاعت، وتستطيع الحد من نفوذ ايران، فهي تمتلك قوة النموذج السياسي والاقتصادي، كدولة ديموقراطية، وكدولة تتعايش فيها التيارات الإسلامية والعلمانية، وكدولة ناجحة اقتصادياً. ووفق «تقرير التنمية البشرية 2014» فقد بلغ الناتج المحلي لتركيا حوالى 1.344 تريليون دولار، و 18.2 ألف دولار للفرد في السنة، وهي ليست دولة نفطية، في حين بلغ بالنسبة الى إيران، حوالى 1.181 تريليون دولار، و 15.5 ألف دولار للفرد (معدل دخل الفرد في إسرائيل 30 ألف دولار سنوياً). ووفق التقرير الاقتصادي الصادر عن «منظمة العالم الإسلامي 2011»، فقد بلغت القوة التصديرية لتركيا 114 بليون دولار في السنة، 78 في المئة منها سلع مصنعة. في المقابل، فإن إيران، وعدد سكانها يقارب عدد سكان تركيا، بلغت قيمة صادراتها 102 بليون دولار، وهي دولة نفطية.
على الصعيد الدولي، واضح أن تركيا تشتغل في القضايا الإقليمية، وبما يخص العراق وسورية، بتفاهم اكثر مع فرنسا، ومع الدول الأوروبية عموماً، لكنها تتحسّب أيضاً لتبعات الخصومة مع روسيا، المتحالفة مع إيران، في الشؤون الدولية والإقليمية، لذا فهي تتصرف أيضاً على أساس أن موازنة تبعات هذه الخصومة تتطلب تنسيقاً مع حلف الاطلسي (الناتو)، ومع الولايات المتحدة الأميركية، ما يفسر هذه التجاذبات بين انقرة وإدارة باراك اوباما.
هكذا، فإن كل هذه التعقيدات تفسّر، إلى حد ما، التلكؤ التركي في دعم الثورة السورية، طوال السنوات الماضية، وعدم قدرة حكومة حزب «العدالة والتنمية» تجاوز السقف الذي حددته الولايات المتحدة لدعم جماعات «الجيش الحر»، إذ ان تركيا (والسعودية وقطر) لم تستطع تسليم مضاد طائرات واحد للجماعات العسكرية السورية، على رغم كل ما تعرض له السوريون من أهوال، وعلى رغم الدمار الذي أحاق بمدنهم، نتيجة القصف بالصواريخ والبراميل المتفجرة، وعلى رغم تشريد الملايين من بيوتهم. ولعل هذا الوضع هو ذاته الذي يفسر التلكؤ التركي، غير المقبول، في نجدة أهالي عين العرب (كوباني)، والتي واجه مقاتلوها ببسالة هجمات «داعش».
هكذا، فإن تركيا، سواء اختلفنا معها او اتفقنا، تتصرّف من واقع أنها معنية أساساً بمواجهة أية ارتدادات سلبية عليها، من العراق وسورية، ولأنها دولة إقليمية يحق لها تقرير مصير الأوضاع من حولها، وأنها لهذا وذاك تحتاج إلى خطة واضحة، وقرار حاسم، لا سيما مع وجود إدارة أميركية، تعودت تمييع كل الملفات والتهرب منها.
الآن، كل المؤشرات تفيد بأن تركيا تقف إزاء استحقاقات استراتيجية في غاية الأهمية لها وللمنطقة، بيد أن من الصعب التكهن بكيفية تعاملها مع هذه الاستحقاقات، او التداعيات الناشئة عنها، لكن ما يمكن قوله ان مصير السياسة التركية، في ظل اردوغان، بات مرتبطاً بمآلات الوضع في سورية، سلباً او إيجاباً.
طبعاً، نحن نتحدث في ظل غياب نظام عربي فاعل. وإزاء هذا الفراغ، فإن الدول الإقليمية، أي ايران وتركيا وإسرائيل، تتحرك لفرض أجنداتها، وتعزيز مكانتها، وتعظيم مصالحها، مع هامش الاستقلالية الذي تتمتع به، والذي تحدده رؤيتها لذاتها، ولأمنها ولأدوارها الإقليمية. مع ذلك، فإن ما ينبغي الانتباه إليه أن لا أحد يستطيع، لا تركيا ولا إيران ولا حتى إسرائيل، ان تتحرك منفردة لتغيير خرائط المنطقة، السياسية أو الديموغرافية او الجغرافية، فهذا الأمر لا بد له من توافق دولي، وهو يحتاج إلى أكثر من رضى الولايات المتحدة، أي إلى سكوتها أو مساهمتها ودعمها.
--------------
الحياة