وفجأة رنّ جرس الهاتف. سمع صوت أبيه متقطع الأنفاس... أخبره بالفاجعة. لم يقو على الفهم والإدراك. كلّ ما تذكره قبل أن ينهار فاقداً وعيه: أنه لم ينج من المذبحة إلا أبوه وأخوه الصغير؛ فقد كانا خارج البيت يبحثان عن جرّة غاز في السوق السوداء، عندما هجم الشبيحة وعصابات الأمن على البيت، وقتلوا أمه وأخته وأخاه وخالاته وأولادهن بالسكاكين والرصاص.... وعندما استيقظ من صدمته ومن هول الفاجعة، قطع تذكرة سفر..ووصل إلى الحدود، ووجد نفسه ينتسب باقتناع كامل إلى الكتائب المقاتلة، وينخرط في معركة إسقاط نظام الأسد وعصاباته. ماعاد يخاف على نفسه وماعاد يخاف على مستقبله. تجمدت مشاعره عند الفجيعة وتسمرت أحاسيسه عند الفقدان الجبري الموجع حتى الهلاك.. وأصبح انكساره لا في الذين فقدهم؛ بل في تقاعسه عن حماية من بقي من أهله وأصدقائه وأقاربه ووطنه... وعن محاربة المجرمين الإرهابيين.
هذه حادثة حقيقيّة من الواقع، وأعرفها من قرب. وهناك أحداث كثيرة مشابهة لها...وهي قصص واقعيّة طبيعية لا شذوذ فيها عن نهج الإنسانيّة والبشريّة، وليس فيها تطرّف الوحوش، وليس في أي منها سوى الألم؛ لكنّها كانت النواة لتكوين العمل المسلح وبناء الكتائب المقاتلة في سوريا تحت مسمى واسع " الجيش الحر"...وربما جرّت إليها بعض المتعاطفين والمتطرفين وبعض الجهاديين من الخارج؛ لكنّها في الحقيقة وليدة الحرب القاتلة التي يشنّها نظام الأسد الإرهابي وعصاباته بدعم من قوى خارجيّة كبرى؛ فلماذا تهويل المخاوف من هذا الجيش التحرري التحريري؟ ولماذا لا يكون الخوف أشد من النظام الاستبدادي الأسدي الذي أسس لهذا الكفاح المسلّح وللحالة الجهاديّة الدينيّة المرافقة له، بممارساته الإجراميّة والعنصريّة والطائفيّة.
وأيضا؛ فإنّه في الوقت نفسه، منذ أن قتل أزلام النظام الأبرياء والمسالمين، واعتقلوا المطالبين، سلما لاعنفا، بالحرية والعدالة والكرامة، ومنذ أن ارتكبوا أبشع المجازر بالمدنيين من الأطفال والنساء والشيوخ والشباب والرجال، ومع كل بيت تهدم على رؤوس الأبرياء، ومع عشرات الآلاف من الجرحى، ومئات الآلاف من النازحين واللاجئين، وعشرات الآلاف من القتلى، كان هؤلاء الخائفون ومازالوا، يتكلمون عن خوف الأقليات من الثورة... ويسوّغون عدم انخراطهم الكامل بالثورة بحجة أسلمة الثورة. لكن عن أي خوف يتكلمون!؟ وماهي حقيقة هذا الخوف؟ وهل من مسوغات؟
إذا ذهبنا إلى هناك، إلى المخيمات، على سبيل المثال، حيث بعض نتائج حرب التقتيل والتهجير التي يمارسها، وبدأنا من نقطة خوف صغيرة في الاتجاه المعاكس لما يقوله المتفرجون والصامتون الخائفون المتخوّفون؛ فقد نفهم بعض جوانب المسألة؛ وندرك الوضع على نحو أدق. فهناك في مخيمات الشتات، فوجيء أحد أطباء النفس السوريين، الذي كان قد تطوّع لتقديم العون للاجئين السوريين والمتضررين، والتخفيف من آثار الصدمة ونتائج كوارث حرب نظام الإرهاب الأسدي عليهم، ليتمكنوا من العيش على نحو أفضل؛ فوجىء عندما رأى أن الأطفال والمراهقين والنساء والعجائز في المخيمات ، يزدحمون حوله بشكل كبير، كمن يزدحم على طابور الخبز، ويسرعون إليه بلا خجل أوتردد أو حياء، يطلبون المساعدة النفسية والعلاج والإرشاد؛ لكي يتخلصوا من عبء ثقيل تعلق في الذاكرة وهدّها بمشاهد الفجائع وصور المخاوف. كانوا يشرحون باضطراب شديد الصدمة، ويسهبون في وصف متقطّع لما رأوه من أهوال، مصممين على نقل مشاعرهم وذكرياتهم و مخاوفهم وآلامهم وتجاربهم المؤلمة. نعم لهؤلاء مخاوفهم الكثيرة، ترافقهم في أرقهم، وفي نهارهم، وهي مخاوف منطقية في ظروفهم الواقعية، فمن الطبيعي أن يخافوا من صوت الطائرات، لأنها تذكرهم بالقذائف، وأن يخافوا من الأصوات العنيفة ومن منظر الدم، ومن الغد، وأن يخافوا على أهلهم وعلى أنفسهم، وان يفقدوا الثقة بالآخرين؛ لأنهم تعرضوا لمحنة نفسية شديدة القسوة، بسبب ما عايشوه من فظائع الحروب وويلاتها ومحنها وحوادثها المخيفة وأحداثها المروعة، عندما واجهوا، هم وأهلهم، الموت المخيف، وجها لوجه، وكانوا قاب قوسين أو أدنى منه. هؤلاء معرضون لأن يصابوا بالإحباط وأن تسحقهم المخاوف وأن يفقدوا الأمن، وأن تختفي الفرحة من حياتهم وأن يضيع الأمان... لكنْ، ماهي التجارب الجديدة التي خبرتها الأقليات حتى تخاف من الثورة وترفضها وتحاربها بحجة الخوف من إرهابها الديني ومن نتائجها التي تهدد وجودهم بالخطر؟ هل رأينا، عبر المعركة المسلحة، قرية علوية أو مسيحية أو درزية إو إسماعليّة أو أرمنية تباد على أيدي المسلمين"السنة"، كما يصرون على التسمية، وعلى أيدي الكتائب التي يتهمونها بالجهاديّة؟
عندما ينشأ الخوف من مخاطر حقيقية؛ فإنّ ذلك يستدعي التفكير الجدّي في حالة الخوف. أما عندما لا يكون هناك مخاطر حقيقية محسوسة وواضحة، تهدد حياة الإنسان وأمنه، وليس لها مسوغاتها الواضحة الدامغة؛ فإن الخوف يصبح مرضا ورهابا وعصابا ووهما. وتكون له أسبابه الأخرى. وقد تكون الأسباب عللا نفسية أو اجتماعية أو أخلاقية أو سياسية أو تاريخيّة أو محض عبث.
حين تبدو حالة الخوف ظاهرة مؤثرة سلبا في قيام الإنسان بوظائفه وواجباته؛ فإن ذلك يستدعي الوقوف والتأمل الجدي. وهو واقع الحال في موقف جموع كثير الأقليات، وبعض الأكثريّة، من الثورة السورية. نعم إنهم يخافون، بل يخافون جدا، لكنْ، لا علاقة لخوفهم بمواقف الثوار وأعمالهم أو تصريحاتهم. فالثوار لم يؤسسوا لمنهج التصفية العرقيّة، ولم يهاجموا السكان الآمنين وفق سياسة عنصريّة سكانيّة ممنهجة، على عكس ما يفعل النظام. ولا علاقة، أيضا، لخوفهم بتهديد جهادي سيطالهم في الغد مادموا أبرياء. إنّهم حقا يخافون: يخافون على مصالحهم أن تتضرر، وعلى مكتسباتهم الفئوية أن يخسروها.. يخافون، لأنهم، يشعرون بالذنب، بسبب تورطهم في سياسات النظام الإجرامية والناهبة والفاسدة، ويخافون من فكرة العقاب والملاحقة القانونية؛ فقد كانوا جزءا من ارتكاب الجرائم، اوجزءا من الاستبداد والطغيان والفساد. سواء شاركوا، بشكل مباشر وتلوثّت أيديهم بالدم والجريمة، أو اكتفوا بالفرجة والصمت تحت تبريرات الخوف من سلفيّة الثورة، حتى قبل أن يظهر في الثورة أطياف سلفيّة دخلت متأخرة. هم صمتوا أمام مشاهد الدماء المروّعة...ولذلك يخافون.
إنّ موضوعة الخوف مرتبطة، للأسف، ارتباطا جذريا في تسويغ التخاذل والانعزالية، وهي متجذرة في فكر تاريخي فئوي أصرّ الغرب الاستعماري وحلفاؤه على دعمه لتمرير صفقات مصالحهم. وقد أظهرت الثورة عري الكاذبين الملتحفين زورا وتزويرا بكثير من شعارات العلمانية والليبرالية، ومن عدّة أطياف، مختلفة المنابت، كانت أسهمت في التآمر داخليّاً أو خارجيّاً على الثورة والشعب السوري الصامد الذي كان ومازال وحيدا يواجه وحده المآسي اليومية.
للأسف مازالت تجاربنا السياسية ومواقفنا أسيرة تاريخ حاقد على بعضنا، في كل متناقضاته وسلفياته اليمنية واليسارية. تأتمر بمرجعيات مفصولة عن سياق مجتمعي مدني قد تعداها التاريخ وتعداها الفكر الوطني.
مايحصل في الوطن العربي هو ثورة وستكون شاملة وستطال الجميع عاجلا أو آجلا. وإن كان الشيء المشترك بين الثورات العربية، كما يرى كثيرون، هو التوجه الإسلامي، فهذا أمر طبيعي، ولا حجة لإطلاق نداء المخاوف؛ لأن الشعب بمعظمه من هوية إسلامية جامعة، لكنّ ذلك، لن يكون أيضا سهلا ومقبولا، لسيطرة قطعية ونهائيّة وحتميّة للحركات السلفية والتقليدية الإسلامية؛ فهي قاصرة على استيعاب متناقضات الواقع الجديد ومستجداته، بسبب نمطية ثابتة راسخة في فكرها، بالإضافة إلى أن شكل الثورات الحقيقي لم يتبلور ويكتمل، ومازال المشهد الثوري في شق التحرر من الاستبداد السياسي. وماحصل من تصاعد التأييد الشعبي للفكر الإسلامي التقليدي، فهو ردة فعل تعويضيّة مؤقتة، وهو تمثيل حاضر لما هو على الساحة الشعبية، بعد شيوع الأمية السياسية والثقافية الناتجة عن الاستبداد السياسي لأنظمة فاسدة عنصريّة تجذرت عقودا.
لا مسوّغ للمبالغة في المخاوف وفي تصاعد الرهاب النفسي عند الأقليات وغيرها، لأن أعداء الثورة سيجدون فيها مجالا خصبا للنيل من الثورة، ويقومون، إعلاميّا، وعلى منابر الدين والثقافة بتجييش طائفي ومذهبي أشد احتقانا، خصوصا، عندما يصرون على نقل صورة سلبية جدا وطائفية عن الثورة لتشكيل رأي عام مضاد للثورة بتمرير المخاوف وتضخيمها ونشرها.
الأجدى للخائفين، أن يحموا أنفسهم وأوطانهم ومستقبلهم، بالتعاون مع أبناء وطنهم، الشركاء في الوطن، والانفتاح عليهم لفهمهم، بدل التباكي والاحتماء بإثارة الشفقة لحصد التعاطف وتمرير تخاذلهم وتقاعسهم عن خدمة الثورة والوطن، وإيجاد المسوغات لجبنهم. الأفضل لهم أن يكسبوا ثقة الآخرين بالعمل معهم على إسقاط نظام الاستبداد المخيف؛ وتحقيق مشروع نهضوي حضاري للمستقبل، خصوصا أن المتناقضات القادمة، ستقوم من رحم الشعوب العربية والإسلامية على تفجير ضروري لحركات دينيّة جديدة تقدميّة ومختلفة عن المعهود في عصور الجهل والاستبداد والتبعيّة والضعف؛ لها أبعاد فكرية وسياسية وثقافيّة متطوّرة ومتنوّرة ومنفتحة على بناء دولة مدنية.
ثورتنا هي ثورة على كل شيء، وخصوصا على وضع البشر الوجداني والعقائدي والاجتماعي بعد أن وصل إلى قاع التهاوي...حيث صرنا في العموم: لا مباديء لا فكر أصيل. لا نزاهة. لا وفاء. لا إبداع حقيقي. لا إنتاج مفيد لا علم. لا انتماء. لا خلق وابتكار. إنها الثورة. والثورة لا بدّ أن تنشيء مع الزمن، وبوحدة أبنائها، مناخات الحريّة والفكر والإبدع الجديدة. إنها ثورة المواطن المقهور والمحروم والمهمّش ليبحث عن وجود وكيان وموقع وهوية. فلا خوف عليهم. ولا نحن بخائفين.