كان الرجل على غاية من التهذيب والتفهم ولم يطلب مني شيئا سوى أن يبقى هذا الموضوع طي الكتمان طالما أنني لم أقبل العرض فوعدته بذلك. وطالما أن هذا المستشار لم يعد ضمن فريق الرئيس فقد رأيت أنه بات بالإمكان رواية القصة، مع الاحتفاظ باسمه، ولكن ما هي المناسبة؟
المناسبة هي ما بات عليه الظهور الإعلامي المتعدد للرئيس سعيّد هذه الأسابيع من هنات زادها فداحة تزلف المتزلفين وتطبيل المطبّلين. الرئيس اليوم لا يحاور الصحافيين ولا يلتقي بهم ولا يكلّف نفسه عناء الجلوس مع إعلامه الوطني ليشرح له لماذا فعل ما فعل، ويسمح بطرح الأسئلة عليه ومجادلته، عسى يتضح الخيط الأبيض من الخيط الأسود، لأنه يفضل للأسف الحديث منفردا.
الرئيس الآن، في مكتبه أو في زياراته إلى بعض المواقع، تحوّل إلى ما يشبه جهازا مبرمجا سلفا للإرسال فقط ويرفض استقبال أي شيء، إنه يبدو كمن أدمن الحديث مع نفسه وإلى نفسه. يستقبل الوفود والمسؤولين ليلقي عليهم المحاضرة تلو الأخرى باستعارات مختلفة، دينية وتاريخية، وبحث عن سجع لغوي لا داعي له ولا فائدة. ربما هو لهذا السبب يكره كلمة حوار ويكرّر معارضته لها، ليس مع الفاسدين فقط كما يسميهم بل مع الجميع، فالواضح أنه لا يستطيع إلاّ أن يحاضر، كما كان يفعل لسنوات أمام طلبته في الجامعة، دون نقاش أو تعقيب. وإن كان ذلك مقبولا، جدلا، مع طلاب علم فما الداعي له مع فاعلين سياسيين واقتصاديين تشفق عليهم وهم يجلسون أمامه صامتين لا حول لهم ولا قوة.
الرئيس الآن، في مكتبه أو في زياراته إلى بعض المواقع، تحوّل إلى ما يشبه جهازا مبرمجا سلفا للإرسال فقط ويرفض استقبال أي شيء، إنه يبدو كمن أدمن الحديث مع نفسه وإلى نفسه
ترسّخت هذه الشخصية للرئيس تدريجيا طوال الأشهر الماضية لكنه، ومنذ قراره في 25 يوليو- تموز الماضي الانقلاب على الدستور الذي أقسم عليه ومجاراته في ذلك من قبل المؤسستين الأمنية والعسكرية، بات يشعر بنوع من الثقة والمتعة في أن يظل كذلك. هو يفعله الآن بأكثر حماسة طالما أن أغلب الشعب، كما يقال، يؤيده مزهُوا بشعار «كُلنا قيس سعيّد» الذي يردده أنصاره في كل محفل بدعوى أن الرجل أراحهم من عفن المرحلة الماضية وسياسييها النزقين والفاسدين.
ترى ماذا كان عساي أفعل لو كنتُ اليوم مسؤول الإعلام في القصر وعليَّ نصح الرئيس حول أفضل الطرق للحديث إلى الإعلام والشعب؟ وكيف يمكن لي أن أفلح في إقناعه بأن التعامل مع الإعلام فن يُدرّس ومهارات يتدرّب عليها الساسة في كل دول العالم حتى تصل رسائلهم بوضوح إلى الرأي العام ويتجنبوا، في نفس الوقت، المطبّات وحتى الحماقات؟ لقد عرفت تونس قادة ملكوا موهبة الحديث إلى الناس فالحبيب بورقيبة خطيب مفوّه، والباجي قايد السبسي من نفس المدرسة، أما بن علي فقد كان مدركا لحدوده لذا فضّل في الغالب الخطب المكتوبة بعناية.
ما يزيد من صعوبة، أو استحالة، أن ألعب أنا، أو غيري، مثل هذا الدور أن كل من عرف الرئيس سعيّد يجمع على أنه شخص عنيد للغاية لا يحب الاستماع إلى أحد، وهو ما يبرر ربما استقالة معظم المستشارين الذين عملوا معه. إنها صفة مخيفة لكنها كارثية إن هي كانت لدى رجل في مثل منصبه لذا لا فائدة في ذكر النهايات المأساوية للكثير منهم.
أما ما يزيد الأمر قتامة فهو أن «حليمة» التي تعرفونها لعقود في الإعلام التونسي عادت إلى عاداتها القديمة: دعاية فجة، هذيان محموم، مديح مبتذل، كذب بواح، لم يسهم فقط في النفخ المفتعل والمنافق في الرجل وتشويه خصومه بل وصل إلى حد توتير علاقات تونس بدولة جارة مثل ليبيا بناء على تقارير مفبركة هي السخف بعينه. وإذا كان هذا النهج اقتصر سنوات بورقيبة، وإلى حد ما سنوات بن علي، على بعض الصحف المعروفة والأقلام الموصومة فإنه مع قيس سعيد أصبح على نطاق واسع وخانق بعد أن انضم إلى ما سبق جيش جرار في مواقع التواصل الاجتماعي.
هؤلاء بنفخهم في صورة الرجل عن غير هدى إنما يصنعون منه تدريجيا صنما من الشكولاتة قد لا يمانعون يوما في التهامه إذا تغيّرت الأوضاع، أو صنما من الحجر سيسقط يوما على رؤوسهم ورؤوسنا جميعا.
---------
القدس العربي
عيون المقالات
حلقة برباغندا إيران انتهت مدة صلاحيتها
26/11/2024
- د. منى فياض
الفرصة التي صنعناها في بروكسل
26/11/2024
- موفق نيربية
(هواجس إيران في سوريا: زحمة موفدين…)
24/11/2024
- محمد قواص
مستقبل لبنان بعهدة شيعته!
23/11/2024
- فارس خشان
هل تخشى إيران من الأسد أم عليه؟
23/11/2024
- ضياء عودة
المهمة الفاشلة لهوكستين
23/11/2024
- حازم الأمين
نظام الأسد وحرب النأي بالنفس عن الحرب
21/11/2024
- بكر صدقي
الأسد الحائر أمام الخيارات المُرّة
17/11/2024
- مالك داغستاني
العالم والشرق الأوسط بعد فوز ترامب
17/11/2024
- العميد الركن مصطفى الشيخ
إنّه سلام ما بعده سلام!
17/11/2024
- سمير التقي
تعيينات ترامب تزلزل إيران ورسالة خامنئي للأسد تتعلق بالحرب التي لم تأتِ بعد
17/11/2024
- عقيل حسين
هذا التوجس التركي من اجتياح إسرائيلي لدمشق
16/11/2024
- عبد الجبار عكيدي
السوريات في الحياة الأوروبية والتجارب السياسية
15/11/2024
- ملك توما
هل دقّت ساعة النّوويّ الإيرانيّ؟
13/11/2024
- أمين قمورية
بشـار الأسـد بين علي عبدالله صـالـح وحسـن نصر الله
13/11/2024
- فراس علاوي
“وقف الحروب” اختبارٌ لترامب “المختلف”
13/11/2024
- عبد الوهاب بدرخان
( ألم يحنِ الوقتُ لنفهم الدرس؟ )
13/11/2024
- عبد الباسط سيدا*
قنبلة “بهتشلي”.. ماذا يحدث مع الأكراد في تركيا؟
13/11/2024
- كمال أوزتورك
طرابلس "المضطهدة" بين زمنين
13/11/2024
- د.محيي الدين اللاذقاني
حين تمتحن سورية تلك النبوءات كلّّها
12/11/2024
- ايمن الشوفي
|
«كُلُّنا قيس سعيّد»
|
|
|