وقال كيسنجر، "إن المناقشة العامة حول الأزمة التي اندلعت وقتذاك كانت "تدور كلها حول مواجهة، لكن هل نعرف إلى أين نتجه؟".
وذكر وزير الخارجية الأميركي السابق (1973-1977) قراءه بأنه شهد في حياته المديدة (يبلغ في يومنا هذا 98 سنة) أربع حروب اندلعت "بكثير من الحماسة والدعم العام، لكننا لم نعرف في الحالات الأربع كيف ننهيها، وفي ثلاث منها، انسحبنا منها من طرف واحد"، مشدداً على أن "محك السياسة هو كيف تنتهي، لا كيف تبدأ".
وخلص إلى أن سعي أحد الطرفين، الروسي أو الغربي إلى الهيمنة على الآخر سينتهي آخر المطاف إلى حرب أهلية أو تفكك.
ولفت كيسنجر إلى أن المسألة الأوكرانية تُصوَّر كمواجهة، فهل تنضم كييف إلى الشرق أم إلى الغرب؟ لكنه رأى أن استمرار أوكرانيا وازدهارها يعتمد على عدم تحولها إلى "قاعدة أمامية" للشرق في مواجهة الغرب أو العكس بالعكس، "فهي يجب أن تعمل جسراً بين الطرفين". وأضاف، "على روسيا أن تتقبل أن محاولتها إجبار أوكرانيا على أن تكون دولة تدور في فلكها، بالتالي تحريك حدود روسيا مجدداً، سيحكم على موسكو بتكرار تاريخها من الدوران في حلقات مفرغة دورية من الضغوط المتبادلة مع أوروبا والولايات المتحدة".
وأردف يقول، "أما الغرب فيجب أن يفهم أن أوكرانيا في نظر روسيا لا يمكن أن تكون مجرد بلد أجنبي. فتاريخ روسيا بدأ في ما كان يُسمى روس الكييفية. والديانة الروسية انتشرت من هناك. وكانت أوكرانيا جزءاً من روسيا لقرون، وكان تاريخاهما متداخلين قبل ذلك. وخيضت بعض المعارك الأهم من أجل حرية روسية، بدءاً بمعركة بولتافا عام 1709، على التراب الأوكراني. ويقبع أسطول البحر الأسود الروسي (وسيلة روسيا لتوسيع السلطة في البحر المتوسط) في سيفاستوبول بالقرم، في مقابل إيجار بعيد الأجل. بل إن منشقين شهيرين مثل ألكسندر سولجنستين وجوزيف برودسكي أصرا على أن أوكرانيا جزء لا يتجزأ من التاريخ الروسي وفي الواقع من روسيا نفسها".
وكتب كيسنجر في "واشنطن بوست" يقول، "يجب على الاتحاد الأوروبي أن يدرك أن تمديده وإخضاعه البيروقراطيين للعنصر الاستراتيجي إلى السياسة المحلية في التفاوض في شأن علاقة أوكرانيا بأوروبا أسهما في تحويل المفاوضات إلى أزمة. فالسياسة الخارجية هي فن تحديد الأولويات. والأوكرانيون هم العنصر الحاسم. فهم يعيشون في بلاد ذات تاريخ معقد وبنية متعددة اللغات. فالجزء الغربي دُمِج في الاتحاد السوفياتي عام 1939 حين تقاسم ستالين وهتلر المغانم. ولم تصبح القرم، التي يُعد الروس 60 في المئة من سكانها، جزءاً من أوكرانيا إلا عام 1954، حين منحها نيكيتا خروتشيف، الأوكراني المولد، إلى أوكرانيا من ضمن الاحتفال بالذكرى الـ300 لاتفاق روسيا مع القوزاق".
ولفت إلى "أن الغرب كاثوليكي إجمالاً، والشرق أرثوذكسي روسي إجمالاً. وينطق الغرب بالأوكرانية، والشرق بالروسية إجمالاً. وأي محاولة يبذلها أحد الجناحين للهيمنة على الآخر (كما هي الحال) ستفضي في نهاية المطاف إلى حرب أهلية أو تفكك. وستعيق معاملة أوكرانيا كجزء من المواجهة الشرقية الغربية أي احتمال لوضع روسيا والغرب، لا سيما روسيا وأوروبا، في نظام تعاوني دولي".
ونبه كيسنجر إلى أن أوكرانيا لم تستقل إلا عام 1991، بعدما ظلت تحت أنواع من الحكم الأجنبي منذ القرن الرابع عشر، غير أن قادتها لم يتعلموا برأيه فن التسوية ناهيك عن المنظور التاريخي. واعتبر أن العمل السياسي في أوكرانيا بعد الاستقلال يبين بوضوح أن جذر المشكلة يقبع في جهود السياسيين الأوكرانيين المنتمين إلى فصيل لفرض إرادتهم على أجزاء معارضة لهم من البلاد، قبل قيام نظرائهم في الفصيل الآخر بالأمر نفسه مع أجزاء أخرى معارضة لهم. وقال إن فيكتور يانكوفيتش ويوليا تيموشنكو وقت كتابة مقالته كانا يمثلان هذين الفصيلين الرافضين لتشارك السلطة.
وحض كيسنجر الولايات المتحدة آنذاك على اتباع "سياسة حكيمة" إزاء أوكرانيا "تسعى إلى طريقة لتعاون الجزأين اللذين تتكون منهما البلاد مع بعضهما بعضاً. فنحن يجب أن نسعى إلى المصالحة، لا إلى هيمنة أحد الفصيلين". واعتبر "أن روسيا والغرب، ومختلف الفصائل في أوكرانيا، لا تعمل وفق هذا المبدأ. فكل طرف فاقم الوضع. لن تستطيع روسيا فرض حل عسكري من دون عزل نفسها في وقت تعاني فيه معظم مناطقها الحدودية اضطراباً. وبالنسبة إلى الغرب، ليست شيطنة فلاديمير بوتين سياسة، إنها ذريعة لغياب سياسة".
وإذ لام بوتين على التفكير في الحلول العسكرية منبهاً من اندلاع حرب باردة جديدة، وحض الولايات المتحدة على عدم معاملة روسيا كدولة ضالة يجب تعليمها قواعد سلوكية تقررها واشنطن، وضع نقاطاً عدة رأى أن تطبيقها كفيل بتوليد حل يناسب قيم الأطراف كلها ومصالحها الأمنية، "أولاً، يجب أن تكون لأوكرانيا حرية اختيار روابطها الاقتصادية والسياسة، بما في ذلك روابطها مع أوروبا. وعليها ألا تلتحق بحلف شمال الأطلسي، وهو موقف اتخذته قبل سبع سنوات حين طُرِح للمرة الأولى. ويجب منح أوكرانيا حرية إنشاء أي حكومة تتوافق مع الإرادة التي يعبر عنها شعبها قبل أن يختار القادة الأوكرانيون الحكماء سياسة مصالحة بين مختلف أجزاء البلاد. ودولياً عليهم السعي إلى موقف شبيه بموقف فنلندا التي لا تترك شكاً في استقلالها المتين وتتعاون مع الغرب في مختلف المجالات، لكنها تتجنب بحذر العداء المؤسسي إزاء روسيا".
ورأى كيسنجر "أن ضم روسيا للقرم لا يتوافق مع قواعد النظام العالمي القائم، لكن علاقة القرم بأوكرانيا يجب أن تكون أقل توتراً. ولهذا الغرض على روسيا الاعتراف بسيادة أوكرانيا على القرم، وعلى أوكرانيا تعزيز الاستقلال الذاتي للقرم في انتخابات تجرى بحضور مراقبين دوليين. وعلى العملية أن تشمل إزالة أي غوامض تتعلق بوضع أسطول البحر الأسود في سيفاستوبول". وقال، "هذه مبادئ، وليست وصفات علاجية. وسيعرف الخبراء في شؤون المنطقة أن الأفرقاء المختلفين لن يستسيغوا هذه المبادئ كلها. بيد أن المعيار ليس الرضا المطلق، بل عدم الرضا المتوازن [موازنة عدم الرضا]. وفي حال عدم تحقيق حل ما وفق هذه العناصر أو عناصر قريبة منها، سيتسارع الانجراف نحو المواجهة. وسيحل وقت المواجهة بسرعة".