والقرضاوي البالغ من العمر 86 عاماً كان قد غادر مصر واستقر في قطر عام 1961 وأصبح منذ ذلك الحين رجل دين يحظى بشهرة واسعة بين القيادات الدينية الإسلامية. وقد ألّف ما يربو على 100 كتاباً تباع في جميع أنحاء العالم الإسلامي، ويستقطب برنامجه التلفزيوني الذي يُبث على قناة "الجزيرة" عشرات الملايين من المشاهدين. ويرجع فضل ما يتمتع به القرضاوي من نفوذ واسع إلى قدرته على الموازنة بشكل يكسوه الدقة بين النهج الشعبوي والسياسة المحافظة. ويسعى القرضاوي إلى الجمع، على سبيل المثال، بين وجهات النظر المتشددة إزاء إسرائيل مع إدانة قوية لـ تنظيم «القاعدة». وقد نجح القرضاوي في بناء سمعة كشخص يقول الحق عند من بيدهم الحل والعقد ويحتفظ طوال الوقت بميزات عديدة -- من بينها إدارته لبرنامج تلفزيوني والحصول على درجة الأستاذية -- لكونه قريباً من المؤسسة الدينية. وبمعنى آخر، فهو بالنسبة للمسلمين السنة أقرب ما يكون إلى البابا بالنسبة للمسيحيين.
وقد ألقى القرضاوي تصريحات مثيرة للجدل في خطبة الجمعة في الدوحة في 31 أيار/مايو. ففي خطاب مؤثر حول محنة أهل السنة في سوريا، صرح القرضاوي بأن "أي شخص قادر ومدرب على القتال...عليه التوجّه إلى سوريا؛ أنا أدعو جموع المسلمين إلى التوجّه ودعم إخوانهم في سوريا." وتُعد هذه إحدى الرسائل البارزة التي وجهها القرضاوي، خاصة لأنها من الرسائل التي لم تأتِ على لسان رجال الدين ممن هم في مكانة القرضاوي. وكثيراً ما يصرح رجال المؤسسة الدينية الإسلامية أن الكفاح المسلح المعني هو جهاد مشروع، بيد أنهم نادراً ما يقولون بأنه يتوجب على المسلمين في جميع أنحاء العالم الانضمام إليه. ومن المعروف أن رجال الدين المتشددين يتحدثون عما يطلق عليه فرض عين، والذي يعني أن كل رجل مسلم قادر يجب عليه القتال ومن يتوانى عنه يكون بذلك قد ارتكب إثماً. وفي المقابل نجد أن رجال الدين المعتدلين مثل القرضاوي عادة ما يتحدثون عن "فرض الكفاية"، وهو ما يعني ضمناً أن الأجانب يمكنهم القتال في ظل ظروف معينة لكن دون وقوع أي إلزام عليهم. وحتى في أوج الحرب على الأفغان في ثمانينات القرن العشرين، صرح الشيخ السعودي عبد العزيز بن باز بأنه "لا يجب على المسلمين سوى مد يد العون"— ولا يتعين أن يكون "القتال -- مع المجاهدين الأفغان -- فرض عين عليهم". وقد ترك الأمر إلى أكثر الشخصيات تطرفاً مثل المعلم الخاص المزعوم لأسامة بن لادن -- عبد الله عزام، للقول بأن القتال كان يتوجب على جميع المسلمين.
ويقيناً، لم يستخدم القرضاوي مصطلح "فرض عين"، وقد قيّد دعوته بأن على الرجال الذين تلقوا تدريباً عسكرياً في المقام الأول الذهاب للقتال. ولكن في المناطق التي يُعد فيها التجنيد الإجباري عرفاً سائداً، فإن ما تقدم ينطبق على الجميع. ولم يردد القرضاوي من خلال دعوة جميع رجال السنة القادرين إلى القتال في سوريا، ما يتناوله المنظرون الجهاديون فحسب، بل إنه يتعارض أيضاً مع ما صرح به في وقت سابق. فقد ألف كتاباً بعنوان "فقه الجهاد"، والذي رفض فيه إطلاق حكم فرض العين على الجهاد في فلسطين والعراق وأفغانستان. كما أن استعداده لتقديم استثناءاً لسوريا اليوم هو مؤشر على مدى ما يشعر به العرب السنة بشدة خارج تلك البلاد حيال الصراع.
وكان رجال دين آخرون قد أطلقوا أيضاً دعوة العام الماضي مفادها بأن الجهاد فرض عين في سوريا، لكن ليس لأحدهم نفس تأثير القرضاوي. وبالتالي كان للتصريح الذي أدلى به القرضاوي تأثير مهم في تحديد المعايير لغيره من رجال الدين: إذ جعل من السهل عليهم التحدث بلهجة صارمة حيال الشأن السوري وجعل من العسير عليهم لعب دور الحمائم. ووفقاً لذلك، شهد شهر حزيران/يونيو سلسلة من تصريحات أدلى بها كبار رجال الدين في جميع أنحاء المنطقة يدعون فيها إلى الجهاد في سوريا. فعلى سبيل المثال، بعد أيام فقط من تصريح القرضاوي، أيد مفتي المملكة العربية السعودية، عبد العزيز آل الشيخ، علناً ذلك الجزء من خطبة القرضاوي الذي أدان فيه «حزب الله» واصفاً إياه بـ "حزب الشيطان". ولم يتناول المفتي صراحةً مسألة المقاتلين الأجانب لكنه أعرب عن استحسانه للتصعيد الخطابي للقرضاوي. وبالمثل، بعد مرور أسبوع على ذلك، أصدرت مجموعة من العلماء اليمنيين فتوى جماعية تدعو إلى "الدفاع عن المظلومين" في سوريا. وعلى غرار مفتي الديار السعودية، لم يكرر رجال الدين اليمنيون دعوة القرضاوي لغير السوريين إلى القتال، لكنهم لم ينتقدوها كذلك. وبعد مُضي أسبوعين من خطبة القرضاوي، صرح رجل الدين السعودي سعود الشريم من على منبر المسجد الحرام في مكة أنه يجب على المؤمنين دعم الثوار ضد النظام في سوريا "بكل الوسائل." وفي اليوم التالي، تحدث الرئيس المصري (الذي خُلع مؤخراً) محمد مرسي أمام حشد من الجماهير في القاهرة، ملوحاً بعلم المعارضة السورية ومُديناً كل من نظام الأسد و «حزب الله». وقد نظم ذلك الحشد الهائل عدد من رجال الدين المتشددين ممن يدعون إلى اتخاذ موقف أكثر صرامة تجاه الشأن السوري، وعلى الرغم من أن مرسي لم يؤيد تدخل المقاتلين الأجانب صراحةً، إلا أنه قد جرى -- على نطاق واسع -- تفسير ظهوره أمام الجماهير على أنه إشارة إلى أولئك الذين يرغبون في خوض غمار تلك الحرب.
وبالنظر إلى كل هذا، نجد أنه سينجم عن هذه التصريحات توافد المزيد من المتطوعين السنة في هذه الحرب لخوض خضم المعارك في سوريا-- وهو الأمر الذي لن يثير الكثير من القلق إن لم تكن سوريا تعج بالفعل بالمقاتلين الأجانب. ووفقاً للبيانات التي جمعها كاتبا هذه السطور على مدى الأشهر التسعة الماضية من مئات المصادر الأولية والثانوية، فقد انضم ما يقرب من 5000 مقاتلاً سنياً من أكثر من 60 دولة مختلفة إلى الثوار السوريين منذ بدء الانتفاضة في عام 2011. وهذا يجعل سوريا ثاني أكبر وجهة للمقاتلين الأجانب في التاريخ الإسلامي الحديث (في ثمانينات القرن الماضي، جذب الجهاد الأفغاني ما يقرب من10,000 متطوع ولكن على مدى فترة دامت عشر سنوات).
وكل هذا قبل الأخذ بنظر الاعتبار الأجانب الذين يقاتلون على الجانب الآخر. فبالإضافة إلى المستشارين من "الحرس الثوري الإسلامي" الإيراني وعناصر «حزب الله» اللبناني، ينضم عدد متزايد من المقاتلين الأجانب الشيعة من العراق ولبنان للقتال في صفوف نظام الأسد. ووفقاً لتقارير غير مؤكدة، بدأ الشيعة من اليمن وأفغانستان والهند في الوصول إلى هناك أيضاً. ويعزي العديد منهم مجيئهم إلى حماية الأضرحة الشيعية فقط، مثل مسجد "السيدة زينب" في دمشق، بيد أن بعضهم يشارك في أنشطة أكثر إجراماً. وقد كان «حزب الله» اللبناني عاملاً أساسياً في استعادة السيطرة على بلدة القصير الشهر الماضي وهم يخوضون الآن معركة لاستعادة حمص. كما شهد الشهر الماضي أيضاً تدفق شيعة العراق التابعين لجماعتي "كتائب «حزب الله»" و"عصائب أهل الحق"، التي يعود تاريخهما إلى الاحتلال الأمريكي للعراق. وقد خاضت كلتا الجماعتين معارك ضد الثوار السنة في دمشق وحولها.
والآن مع تدخل القرضاوي، فمن المرجح أن تزداد وتيرة وصول الثوار السنة. ولا يتعلق الأمر باتخاذ جميع أتباعه قراراً بحزم أغراضهم فجأةً، بل من المتوقع أن يتأثر عدد معين ممن هم على الحياد جراء تصريحاته. وبهذه الطريقة، هناك احتمالاً قوياً أن يكون هناك أكثر من 10,000 مقاتل أجنبي على جانبي القتال في الحرب السورية في غضون عام أو عامين.
إن تدخل الجهات العسكرية الخارجية بهذا المستوى سيخلق مجموعة من التحديات الأمنية في سوريا وخارجها. إذ سيؤدي تواجد المقاتلين الأصوليين الأجانب في البلاد إلى جعل مفاوضات السلام وجهود إعادة الإعمار بعد انتهاء الصراع أكثر تعقيداً. وعلى المستوى الإقليمي، توجد بالفعل عداوات طائفية آخذة في الانتشار من سوريا إلى لبنان والعراق المجاورتين. وبعيداً عن ذلك، فإن الديمقراطيات الوليدة في تونس وليبيا ومصر سيكون لها رأيها عندما يعود مئات الجهاديين المتمرسين في المعارك إلى وطنهم. كما أن الحكومات الغربية في كل من أوروبا وأمريكا الشمالية سيكون لديها أسبابها لتقلق بشأن المواطنين المسلمين الذي عادوا من سوريا متشبعين بالفكرٍ الأصولي. كما أن المشاهد الأكثر إزعاجاً من ذلك كله هي أن الدول في المنطقة ستتدخل بشكلٍ مباشر في الحرب للدفاع عن ما تعتبره إخوانها المتضررين. وقد يؤدي ذلك إلى اندلاع حرب شاملة بالوكالة بتبعات لا يعلم مداها إلا الله.
ويوجد بالفعل شيء من التنافس بين الدول السنية للتأثير في الحرب السورية. وفي الواقع، هناك طريقة واحدة لتفسير بيان الشيخ القرضاوي وهي أنه أحد أعراض الصراع بين قطر والمملكة العربية السعودية بشأن رعاية الثوار السوريين. وقد يسعى القرضاوي، المصري الجنسية ولكن مقيم في قطر، إلى المزايدة على أقرانه المحافظين في المملكة العربية السعودية، ومعظمهم قد جادل بأنه ينبغي على غير السوريين ألا ينضموا إلى القتال بل دعمه من خلال وسائل أخرى. فمن خلال الحديث بشكل أكثر تشدداً، قد يأمل الشيخ القرضاوي أن يحظى ببعض النفوذ لمضيفيه القطريين بين الثوار السوريين بالإضافة إلى حصوله على مزيد من الأتباع في المجتمع السني الأوسع. وقد رأينا مثل هذه المزايدات في العديد من الصراعات السابقة في العالم الإسلامي. على سبيل المثال، في الثمانينيات، تنافست دول الخليج العربية على دور المانح الأكثر سخاءاً للمجاهدين الأفغان، وفي التسعينيات تنافست المملكة العربية السعودية مع إيران حول البلد الذي يمكن أن يرسل أكبر كمية من الأسلحة للمسلمين في البوسنة. وغني عن القول، إن هذه عملية فضلت التصعيد العسكري على الحل الدبلوماسي.
وبطبيعة الحال، ينبغي على المرء أن لا يبالغ في دور القرضاوي في الأزمة السورية -- فقد كانت هناك نار تحت الرماد قبل أن يقوم هو بسكب الزيت عليها. ومع ذلك، فإن بيان القرضاوي من 31 أيار/مايو يعتبر، على أقل تقدير، مؤشراً هاماً يدل على رأي رجال الدين السنة في الحرب السورية. بل هو علامة على أن ما اعتاد أن يطلق عليه صفوة رجال الدين والسياسة السنيين بأنه ثورة، أصبح الآن يتصدر المشهد. وعلى الرغم من أن العديد من المعلقين الإعلاميين، بما في ذلك بعض العرب السنة، قد انتقدوا القرضاوي واتهموه بتشجيع العنف الطائفي، إلا أن انتشار الإدانة لم يلق صدى واسعاً. كما أن القرضاوي نفسه لم يظهر أي نية للتراجع عن بيانه. وحتى لو فعل، فقد خرج شبح الفتنة الطائفية من قمقمه.
-------------------
فورين آفيرز
-------------
توماس هيجهامر هو زميل زوكرمان في "مركز الأمن والتعاون الدولي" في جامعة ستانفورد. هارون ي. زيلين هو زميل ريتشارد بورو في معهد واشنطن.