العنصر الحاسم في تحديد سياسات النظام الداخلية والخارجية هو الولاء للنظام ولا شيء سواه، لذا يقوم خطابه على اعتبار كل من هم خارج دائرة الولاء بأنهم "عملاء" للإمبريالية والصهيونية، ويشترك جميع الموجودين داخل دائرة الولاء بالخطاب ذاته. هذا أمر معروف في سورية، لكن المدهش هو حالة عدم الخجل في تعاطي النظام ومواليه مع تحولات الموقف والخطاب، بخاصة عندما تتبدل الرؤية تجاه أحد الأشخاص من "عميل" إلى "وطني" أو العكس.
ما نزال نذكر تلك المسرحية الهزلية التي أقامها النظام ضد عبد الحليم خدام بعد انشقاقه عليه. فهذا الرجل كان من الأركان الأساسية للنظام وتدرج في مواقعه حتى أصبح في موقع نائب الرئيس، وفجأة أصبح عميلاً وخائناً وفاسداً وقبيحاً، وخرجت أصوات مجلس الشعب بعد 24 ساعة فقط على انشقاقه لتنفذ سياسة الباب العالي على هيئة "جوقة ردح" وقحة مهمتها الشتم والتحقير لا غير، وهم الذين ما كانوا ليجرؤوا على النطق باسمه قبل أيام على انشقاقه. والغريب أن كل ما قالوه يشكل إدانة للنظام ذاته قبل غيره، فالمعادلة بسيطة هنا، فإما أن أركان النظام كانوا يعرفون بفساد الرجل منذ وقت طويل لكنهم صمتوا بحكم ولائه أو أنهم أغبياء إلى درجة أنهم لم يكتشفوا فساده إلا بعد أربعين عاماً.
لم يتعامل النظام وموالوه مع أي أمور من هذا القبيل بصيغة خلاف سياسي أو تعارض مصالح أو تعارض في جانب معين، إنما كانوا يتبعون دائماً صيغة "الكل أو لا شيء"، إما أن تكون معنا جملة وتفصيلاً أو تكون عميلاً. لذلك يصدق بالفعل توصيف "البوق" على الكثيرين من موالي النظام، لأن الموالي يكون في حالة يرثى لها من انعدام الشخصية وفقدان الحواس الخمس والتفكير الحر والهبوط الحاد في الكرامة وارتفاع معدلات الوقاحة والفجور في الدم.
منذ دخول الجيش السوري إلى لبنان في عام 1975 وحتى اليوم تبدلت لوائح اللبنانيين المصنفين كوطنيين وعملاء مرات عديدة، لكن الحاسم فيها كان دوماً هو معيار الولاء للنظام لا غير، وفي كل مرة كان موالو النظام في سورية ولبنان يرقصون لخيارات النظام وتصنيفاته، ويشنون الحملات التشهيرية ضد خصومه، ولا يخجلون من تغيير آرائهم ومواقفهم بين ليلة وضحاها.
كان ميشيل عون خلال الفترة من عام 1989 وحتى عام 2005 "عميلاً" للإمبريالية والصهيونية والرجعية في عرف جماعة "الممانعة"، وكانت زمرة "المقاومة" ونادي موسكو للعجزة والمساكين وتيار الجعجعة القومية يردِّدون الكليشة ذاتها. بعد العام 2005 أصبح ميشيل عون بطلاً وطنياً ومقاوماً بقدرة قادر. على الرغم من أن الرجل كان يقود من باريس وواشنطن المعركة ضد النظام السوري، وكان الفاعل الرئيس وراء قانون محاسبة سورية، وعاد إلى لبنان على حصان أبيض أميركي.
في مرات عديدة كان وليد جنبلاط زعيماً وطنياً مقاوماً، وفي مرات أخرى كان عميلاً ومتخاذلاً ومستسلماً، وكذا الأمر بالنسبة لرفيق الحريري وغيرهم، ومن قبلهم طالت اللعبة المخجلة ذاتها ياسر عرفات وقيادات فلسطينية عديدة. أما خالد مشعل فتحول من "مقاوم" إلى "عميل صهيوني" في إعلام النظامين السوري والإيراني بعد موقفه الإيجابي من الثورة السورية.
وكذا الأمر على مستوى الدول، فقد كانت السعودية في السابق بالنسبة للنظام السوري الضلع الثالث في مثلث العمل العربي المشترك الذي يضم سورية ومصر، ثم أصبح ملوكها وأمراؤها "عملاء" للغرب وإسرائيل بعد اغتيال رفيق الحريري، ثم عادت العلاقات الطبيعية، ليعود الخطاب ضد السعودية إلى سابق عهده بعد الثورة. أما قطر، فلم يكن هناك شيء ضدها عندما كانت الشراكات المالية بين أمرائها وأركان "الممانعة" قائمة، بل إنهم بالغوا وقتها بإطلاق اسم "أمير المقاومة" على أميرها، وملأ سادة "المقاومة" شوارع لبنان وساحاته بعبارة "شكراً قطر" قبل أشهر قليلة من الثورة السورية مقابل مبالغ مالية دفعها الأمير لإعمار الضاحية الجنوبية ومعاقل حزب الله في الجنوب. لكن الوضع تغير بعد الثورة، فإن أردت أن تكون وطنياً في عيون "المزعبرين" فما عليك إلا أن تشتم قطر والسعودية. باختصار، يريدون منك أن تصفق لهم عندما كانوا يصفقون لقطر والسعودية، وأن تصفق لهم أيضاً عندما يشتمونها. هذا ما يمكن تسميته بممارسة السياسة كفن تشبيحي لا أكثر ولا أقل.
السيد المالكي وزمرته كانوا يوصفون بأنهم مجموعة من "العملاء" الذين جاؤوا على الدبابات الأميركية في إعلام النظام السوري وعموم آل "الممانعة" ومعظم أهل اليسار الذي يرضع من موسكو، واللفيف الأكبر من جماعة القومية الميكروفونية. فيما كان النظام السوري في خطاب نظام المالكي يعد نظاماً إرهابياً، وقد حمّله في أكثر من مناسبة مسؤولية خلق ودعم الجماعات الإرهابية في العراق. فجأة أصبح المالكي رجلاً "وطنياً" ومدافعاً عن نظام "الممانعة" وأصبح يعطي النصائح ضد التدخل العسكري ويحذر من الفتنة الطائفية، وكأنه ليس ذلك الرجل الذي جاء إلى الحكم ممتطياً صهوة الدبابة الأميركية، أو ليس ذلك الشخص الكريه الذي يدير التحالفات الطائفية المقيتة منذ مجيئه إلى الحكم.
أنت وطني بمقدار ما أنت موال للنظام وتسبح بحمده. هكذا هي الحقيقة ببساطة لا أكثر ولا أقل. أنت وطني بمقدار ما تنبح وتعوي وتصفق وتطبل وترقص. أنت مواطن صالح عندما تستغني عن عقلك وتفكيرك وتعطل حواسك الخمس. أنت مفخرة الوطن بمقدار ما تكون عديم الكرامة وساذجاً وسطحياً وتردِّد الشعارات المباركة حتى لو كان ما يجري على الأرض على النقيض منها.
لطالما كانت هذه التحولات الصارخة في المواقف والخطاب تشكل مصادر غنية للنكتة لدى الشعوب التي كانت تسخر بصمت من هذه الترهات، فيما اليوم تمارس هوايتها في العلن ضد كل هذه الأشكال من العهر السياسي. وبات البشر يعرفون أنه لا يحق للصوص والفاسدين توجيه تهمة العمالة أو نزع الصفة الوطنية عن أي مواطن، حتى أنهم باتوا يسخرون من أولئك الذين ما يزالون يطبلون ويزمرون ويرقصون. حقاً إن أردت أن تكون إنساناً، فإن قليلاً من الخجل لا يضر!.