منذ أشهر، تم إلقاء القبض على رجل سوري في مطار باريس، دخل فرنسا بجواز سفر مزور، وكان الرجل معرضًا للسجن والترحيل، فاستنجد بميشيل كيلو، ولم يطلع النهار حتى حوّل الأستاذ ميشيل هذا الرجلَ من متهم مهدد بالسجن إلى لاجئ سياسي يتمتع بحماية فرنسا، هذا هو ميشيل السوري النبيل والإنسان، وما بين ميشيل الرمز الكبير والإنسان، يحاول غلمان التدين الموازي الإساءة إليه باسم الدين، يوم رحيله!
أحاول في هذه الورقة أن أدافع عن كل إنسان نبيل كميشيل، لأبين مدى الخواء الإنساني عند بعض المتدينين، البعيد عن هدي القرآن الكريم، عندما يحاولون الإساءة إليهم، بذريعة فتاوى تاريخيانية تقول: “لا يجوز الترحّم على غير المسلم”!
في الأصل كلنا مسلمون
يتذرعون بأن الله لا يقبل عمل أي إنسان، ما لم يكن مسلمًا من مِلة محمد ﷺ، مستدلين بالآية الكريمة: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} آل عمران:85. ونقول: لقد أكد القرآن أن أتباع الرسل كلهم مسلمون، من نوح إلى إبراهيم ويعقوب وموسى وعيسى، في آيات واضحة الدلالة، منها: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَـهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} البقرة:133. {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} آل عمران:52. ولم تُذكر كلمة دين بصيغة الجمع في آي القرآن كلها، لأنه دين واحد، فلا يُعقل أن يكون الإله واحدًا، وله ثلاثة أديان، إنما هي مِلل، كما أكد القرآن: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} النساء: 125. وفي موضع آخر، لا لبس فيه، يؤكد القرآن أن مثلث النجاة يوم القيامة يقوم على الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، من أي مِلةٍ كانت، وما تبقى ليس إلا تفاصيل دونها، حيث يقول: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} المائدة:69. هذا من حيث أصل الإيمان، فكلنا مسلمون، وبذلك نفهم الآية {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ}.
إبطال القراءة العضينية في عدم الجواز الترحم على الآخرين
يستدلّ أصحاب الخواء الإنساني، في عدم جواز الترحم على الآخرين، بفتوى لابن تيمية والنووي وغيرهما من أئمة الدين الموازي، تستند إلى آية في سورة التوبة يجتزئونها من سياقها، تقول: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} 113.
لنضع هذه الآية في سياقها، وندرس سورة التوبة: سورة التوبة من أكثر السور التي ذُكر فيها (المشركون) وهذا المصطلح لا يُراد به أهل الكتاب من يهود ونصارى، لأن القرآن إذا ذكرهم، أطلق عليهم (أهل الكتاب أو اليهود أو النصارى)، وأما المشركون هنا، فهو يقصد جماعة محددة موصوفة من العرب، عاهدوا رسول الله زمن الرسالة، ونكثوا عهدهم معه، ونقضوا ميثاقهم، لذلك لم تبدأ السورة التوبة بالبسملة، إنما تبرأ الله منهم، ومع ذلك منحهم فرصة أربعة أشهر، ليراجعوا أنفسهم، وهذا يعني أن الآية زمكانية تتحدث عن واقعة تاريخية حدثت زمن الرسالة، وليست عامة إطلاقًا، ومطلع السورة يؤكد ذلك: {بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ}.
وجميع الأحكام الواردة في سورة التوبة، كالبراءة من المشركين والنهي عن موالاتهم وإقامة العلاقات الاجتماعية معهم وعدم الاستغفار، مناطها ليس الشرك، إنما نقض العهد والنكث به والغدر، لذلك تقول السورة بعد البراءة منهم مؤكدة غدرهم: {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًا وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ}10. فالتبرّؤ منهم عِلَتُه الغدر والنكث والعدوان، وليس الشرك، بدليل أن السورة تقول: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} 6.
فكيف تقاتلهم كلهم ولا تستغفر لهم، ثم تطلب السورة منك إجارته؟! إذن سياق الآية يؤكد أنها تتحدث عن واقعة تاريخية، لا تأخذ في أحكامها صفة الديمومة، حتى نُسقطها على آخرين، وتنتفي فيهم صفات أولئك المشركين الذي نكثوا وغدروا واعتدوا، بانتفاء عدوانهم علينا.
الترحّم غير الاستغفار
لو قبلنا جدلًا بأن الآية لها صفة الديمومة، فالآية تتحدث عن الاستغفار لا عن التَرَحّم، والفرق بينهما كبير {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ}، وبالتالي يجوز الترحّم على من هو من غير ملتنا، لأن الترحم فيه صلة رحم مع الآخر، كي تذوب الحساسيات الدينية بين الملل، فالتّرحم من الرّحمة، وقد عرّفه الراغب الأصفهاني: “الرّحمة رقة تقتضي الإحسان إلى المرحوم، وتستعمل تارّة في الرّقة المُجردة، وتارّة في الإحسان المُجرد عن الرّقة، نحو رحم الله فلانًا”. وحتى لو كان استغفارًا، فقد ثبت بنص القرآن، أن الله أمر ملائكته بالاستغفار لأهل الأرض كلهم: {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ} الشورى:5. و(مَن) هنا لعموم الناس، إلا إذا جاءت قرينة تُخْرِج أحدهم من عموم هذا الاستغفار الملائكي. ونحن لا نستغفر لهؤلاء المشركين الذين ذكرتهم السورة، الموصوفين تاريخيًا، إنما نستغفر ونترحم على إنسان قدّم خيرًا لوطنه وللإنسانية، وما كان فاسدًا ولا مفسدًا. فكيف بمن هو إنسان ناضل ضد الاستبداد ونادى بالحرية لنا جميعًا، على مدار أكثر من نصف قرن، كالأستاذ ميشيل، ومثّل الثورة في المحارب الإعلامية والدولية خير تمثيل، بل وقف حتى ضد الكنيسة التي ناهضت ثورات الربيع العربي، كما في لقائه الشهير مع محطة (فرانس24).
محاجّة عقلية
القرآن الكريم أباح مصاهرة أهل الكتاب وزيارتهم وأكل طعامهم والمتاجرة معهم، فهل يُعقل أن يبيح الأعلى، ويمنع الأدنى كالترحم!؟ إذ قال: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} المائدة:5. ولا ينهانا القرآن عن الإحسان والبرّ إلى من هم من غير مِلتنا، ما داموا ليس معتدين ولا مفسدين: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} الممتحنة:8. والبِر أرقى أنواع الوصل الآدمي، وأكثرها إحسانًا من حيث الإنسانية، ومنه جاء برّ الوالدين، ومن سلوكاته المعاملة بما هو أقوم إنسانيًا، وأما القسط فهو مرحلة سلوكية أعلى من العدل مع الآخر. إنْ في المعاملة أو المعاشرة، وهذا أقل ما يجب أن نقوم به تجاه أستاذنا ميشيل فارس الحرية الذي ناضل عقودًا ضد الاستبداد، فهل يُعقل أن نكافئه بعد موته، بفتاوى لا إنسانية تمنع الترحم على هذا السوري النبيل؟!
الحقوق المشتركة
يطرح القرآن مبدأ الحقوق المشتركة مع الآخرين، بحيث لا يكون جزاء الإحسان لهم إلا بالإحسان، ومن الحقوق المشتركة أن إخوتنا في الوطنية من المكونات الأخرى يهنئوننا في أعيادنا ومناسباتنا الدينية، ويشاركوننا في أفراحنا وأتراحنا، والقرآن يطالبنا برد الإحسان بالإحسان، ويستنكر على من ينكره بقوله {هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}. ويطالبنا برد الحقوق المشتركة من تهنئة ومباركة وتعزية بقوله: {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} النساء:86. وإن أي رفض في رد التحية للآخر دليلٌ على عنصرية دينية، مرفوضة في دائرة الإيمان، ومسيئة للإسلام. ثم إن القرآن حض على ثقافة التشاركية، ونبذ ثقافة القطيعة، بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} الحجرات:13. وقوله (لتعارفوا) هنا دعوة للتشاركية، أليست التهنئة والتعزية واللقاءات والحوارات والترحم على الموتى، تدخل في قيمة (لتعارفوا). وتكفير الآخر، ورفض الترحم عليه، والإساءة إلى الرموز الوطنية والثورية، هي مخالفة لمبدأ التعارف! وكيف إذا كان المتوفى رمزًا وطنيًا لم تشهد مواقع التواصل طوال العشرية السوداء إجماعًا سوريًا على شخصية ثورية، كالإجماع الذي ناله الفارس الوطني ميشيل، إذ حزن على وفاته السواد الأعظم من الشارع الثوري، فبأي ميزان تزنون إيمانكم المغشوش؟
القرآن يقدم الولاء السياسي على الولاء الديني!
يطرح القرآن قضية الولاء، بطريقة مدهشة، إذ يقدم الولاء السياسي على الولاء الديني، بين قومين بينهما حرب، وربما يستغرب كثير هذا الاستنباط، فتعالوا لنقرأ ذلك: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ} الأنفال:72. إن هذه الآية تؤكد أن الولاء السياسي مقدم على الولاء الديني، وهذا ما يمارسه كلّ البشر، ففي الحرب لا يقيم المتحاربون وزنًا للعلاقة الدينية في قضية وطنية، فلا قيمة لإيمان إنسان شارك ضدك في معركة الحرية والاستبداد، ولذلك لم يكن ميشيل كيلو منحازًا للحرية والعدالة الاجتماعية فحسب، إنما كان أهم قادتها التاريخيين، وفارس الثورة إعلاميًا وسياسيًا، ولا يستطيع أحد أن ينكر ذلك. ولكون أتباع الدين الموازي لا يقبلون الدليل القرآني، ويفضلون الدليل التراثي، فإني أقدّم لهم دليلًا على تقديم الولاء السياسي على الديني من التراث، حيث ذكر الطبري في تفسيره ذلك: لما أسرَ المسلمون العباسَ وعقيلَ ونَوْفل في معركة بدر، قال رسول الله ﷺ للعباس: افدِ نفسك وابني أخيك. قال: يا رسول الله، ألم نصَلِّ قبلتك ونشهد شهادتك؟ قال: “يا عبّاس، إنكم خاصمتم فَخُصِمتم”! هنا الرسول لم يقبل من العباس إيمانه برسالته وشَهِد له وصلى معه وهو عمّه، إنما قدم الولاء السياسي على الديني، وطالبه أن يفدي نفسه كأسرى مشركي قريش. فهل قرأ أتباع الدين الموازي القرآن أو تراثهم؟ أم أنهم قوم لا يعقلون؟
إن الراحل ميشيل كيلو صفحة مشرقة في تاريخ سورية المعاصر، ولا يستطيع المشاغبون أن يسيئوا إليها، ولكنهم بالتأكيد يسيئون إلى أنفسهم وإلى تدينهم، وهو فارس الحرية على مدار أكثر من نصف قرن، وقد أثبت وطنيته وإنسانيته، ولم ينسَ أبناء وطنه، وهو على فراش الموت، حيث كان يقدّم خلاصة تجربته، ونصائحه، دون كلل ولا ملل، وكان يحلم بسورية حرة مستقلة لكل أبنائها، حتى غلبه ذلك الفيروس اللعين، وجعله يترجل إلى دار الخلود عن فرسه. ألف رحمة ونور على روح أستاذنا ميشيل كيلو السوري النبيل.
وختامًا أقول: مَنْ فقد إنسانيته؛ بَطَلَ تَدَينُه.
-----------
موقع سوريتنا
أحاول في هذه الورقة أن أدافع عن كل إنسان نبيل كميشيل، لأبين مدى الخواء الإنساني عند بعض المتدينين، البعيد عن هدي القرآن الكريم، عندما يحاولون الإساءة إليهم، بذريعة فتاوى تاريخيانية تقول: “لا يجوز الترحّم على غير المسلم”!
في الأصل كلنا مسلمون
يتذرعون بأن الله لا يقبل عمل أي إنسان، ما لم يكن مسلمًا من مِلة محمد ﷺ، مستدلين بالآية الكريمة: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} آل عمران:85. ونقول: لقد أكد القرآن أن أتباع الرسل كلهم مسلمون، من نوح إلى إبراهيم ويعقوب وموسى وعيسى، في آيات واضحة الدلالة، منها: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَـهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} البقرة:133. {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} آل عمران:52. ولم تُذكر كلمة دين بصيغة الجمع في آي القرآن كلها، لأنه دين واحد، فلا يُعقل أن يكون الإله واحدًا، وله ثلاثة أديان، إنما هي مِلل، كما أكد القرآن: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} النساء: 125. وفي موضع آخر، لا لبس فيه، يؤكد القرآن أن مثلث النجاة يوم القيامة يقوم على الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، من أي مِلةٍ كانت، وما تبقى ليس إلا تفاصيل دونها، حيث يقول: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} المائدة:69. هذا من حيث أصل الإيمان، فكلنا مسلمون، وبذلك نفهم الآية {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ}.
إبطال القراءة العضينية في عدم الجواز الترحم على الآخرين
يستدلّ أصحاب الخواء الإنساني، في عدم جواز الترحم على الآخرين، بفتوى لابن تيمية والنووي وغيرهما من أئمة الدين الموازي، تستند إلى آية في سورة التوبة يجتزئونها من سياقها، تقول: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} 113.
لنضع هذه الآية في سياقها، وندرس سورة التوبة: سورة التوبة من أكثر السور التي ذُكر فيها (المشركون) وهذا المصطلح لا يُراد به أهل الكتاب من يهود ونصارى، لأن القرآن إذا ذكرهم، أطلق عليهم (أهل الكتاب أو اليهود أو النصارى)، وأما المشركون هنا، فهو يقصد جماعة محددة موصوفة من العرب، عاهدوا رسول الله زمن الرسالة، ونكثوا عهدهم معه، ونقضوا ميثاقهم، لذلك لم تبدأ السورة التوبة بالبسملة، إنما تبرأ الله منهم، ومع ذلك منحهم فرصة أربعة أشهر، ليراجعوا أنفسهم، وهذا يعني أن الآية زمكانية تتحدث عن واقعة تاريخية حدثت زمن الرسالة، وليست عامة إطلاقًا، ومطلع السورة يؤكد ذلك: {بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ}.
وجميع الأحكام الواردة في سورة التوبة، كالبراءة من المشركين والنهي عن موالاتهم وإقامة العلاقات الاجتماعية معهم وعدم الاستغفار، مناطها ليس الشرك، إنما نقض العهد والنكث به والغدر، لذلك تقول السورة بعد البراءة منهم مؤكدة غدرهم: {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًا وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ}10. فالتبرّؤ منهم عِلَتُه الغدر والنكث والعدوان، وليس الشرك، بدليل أن السورة تقول: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} 6.
فكيف تقاتلهم كلهم ولا تستغفر لهم، ثم تطلب السورة منك إجارته؟! إذن سياق الآية يؤكد أنها تتحدث عن واقعة تاريخية، لا تأخذ في أحكامها صفة الديمومة، حتى نُسقطها على آخرين، وتنتفي فيهم صفات أولئك المشركين الذي نكثوا وغدروا واعتدوا، بانتفاء عدوانهم علينا.
الترحّم غير الاستغفار
لو قبلنا جدلًا بأن الآية لها صفة الديمومة، فالآية تتحدث عن الاستغفار لا عن التَرَحّم، والفرق بينهما كبير {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ}، وبالتالي يجوز الترحّم على من هو من غير ملتنا، لأن الترحم فيه صلة رحم مع الآخر، كي تذوب الحساسيات الدينية بين الملل، فالتّرحم من الرّحمة، وقد عرّفه الراغب الأصفهاني: “الرّحمة رقة تقتضي الإحسان إلى المرحوم، وتستعمل تارّة في الرّقة المُجردة، وتارّة في الإحسان المُجرد عن الرّقة، نحو رحم الله فلانًا”. وحتى لو كان استغفارًا، فقد ثبت بنص القرآن، أن الله أمر ملائكته بالاستغفار لأهل الأرض كلهم: {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ} الشورى:5. و(مَن) هنا لعموم الناس، إلا إذا جاءت قرينة تُخْرِج أحدهم من عموم هذا الاستغفار الملائكي. ونحن لا نستغفر لهؤلاء المشركين الذين ذكرتهم السورة، الموصوفين تاريخيًا، إنما نستغفر ونترحم على إنسان قدّم خيرًا لوطنه وللإنسانية، وما كان فاسدًا ولا مفسدًا. فكيف بمن هو إنسان ناضل ضد الاستبداد ونادى بالحرية لنا جميعًا، على مدار أكثر من نصف قرن، كالأستاذ ميشيل، ومثّل الثورة في المحارب الإعلامية والدولية خير تمثيل، بل وقف حتى ضد الكنيسة التي ناهضت ثورات الربيع العربي، كما في لقائه الشهير مع محطة (فرانس24).
محاجّة عقلية
القرآن الكريم أباح مصاهرة أهل الكتاب وزيارتهم وأكل طعامهم والمتاجرة معهم، فهل يُعقل أن يبيح الأعلى، ويمنع الأدنى كالترحم!؟ إذ قال: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} المائدة:5. ولا ينهانا القرآن عن الإحسان والبرّ إلى من هم من غير مِلتنا، ما داموا ليس معتدين ولا مفسدين: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} الممتحنة:8. والبِر أرقى أنواع الوصل الآدمي، وأكثرها إحسانًا من حيث الإنسانية، ومنه جاء برّ الوالدين، ومن سلوكاته المعاملة بما هو أقوم إنسانيًا، وأما القسط فهو مرحلة سلوكية أعلى من العدل مع الآخر. إنْ في المعاملة أو المعاشرة، وهذا أقل ما يجب أن نقوم به تجاه أستاذنا ميشيل فارس الحرية الذي ناضل عقودًا ضد الاستبداد، فهل يُعقل أن نكافئه بعد موته، بفتاوى لا إنسانية تمنع الترحم على هذا السوري النبيل؟!
الحقوق المشتركة
يطرح القرآن مبدأ الحقوق المشتركة مع الآخرين، بحيث لا يكون جزاء الإحسان لهم إلا بالإحسان، ومن الحقوق المشتركة أن إخوتنا في الوطنية من المكونات الأخرى يهنئوننا في أعيادنا ومناسباتنا الدينية، ويشاركوننا في أفراحنا وأتراحنا، والقرآن يطالبنا برد الإحسان بالإحسان، ويستنكر على من ينكره بقوله {هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}. ويطالبنا برد الحقوق المشتركة من تهنئة ومباركة وتعزية بقوله: {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} النساء:86. وإن أي رفض في رد التحية للآخر دليلٌ على عنصرية دينية، مرفوضة في دائرة الإيمان، ومسيئة للإسلام. ثم إن القرآن حض على ثقافة التشاركية، ونبذ ثقافة القطيعة، بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} الحجرات:13. وقوله (لتعارفوا) هنا دعوة للتشاركية، أليست التهنئة والتعزية واللقاءات والحوارات والترحم على الموتى، تدخل في قيمة (لتعارفوا). وتكفير الآخر، ورفض الترحم عليه، والإساءة إلى الرموز الوطنية والثورية، هي مخالفة لمبدأ التعارف! وكيف إذا كان المتوفى رمزًا وطنيًا لم تشهد مواقع التواصل طوال العشرية السوداء إجماعًا سوريًا على شخصية ثورية، كالإجماع الذي ناله الفارس الوطني ميشيل، إذ حزن على وفاته السواد الأعظم من الشارع الثوري، فبأي ميزان تزنون إيمانكم المغشوش؟
القرآن يقدم الولاء السياسي على الولاء الديني!
يطرح القرآن قضية الولاء، بطريقة مدهشة، إذ يقدم الولاء السياسي على الولاء الديني، بين قومين بينهما حرب، وربما يستغرب كثير هذا الاستنباط، فتعالوا لنقرأ ذلك: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ} الأنفال:72. إن هذه الآية تؤكد أن الولاء السياسي مقدم على الولاء الديني، وهذا ما يمارسه كلّ البشر، ففي الحرب لا يقيم المتحاربون وزنًا للعلاقة الدينية في قضية وطنية، فلا قيمة لإيمان إنسان شارك ضدك في معركة الحرية والاستبداد، ولذلك لم يكن ميشيل كيلو منحازًا للحرية والعدالة الاجتماعية فحسب، إنما كان أهم قادتها التاريخيين، وفارس الثورة إعلاميًا وسياسيًا، ولا يستطيع أحد أن ينكر ذلك. ولكون أتباع الدين الموازي لا يقبلون الدليل القرآني، ويفضلون الدليل التراثي، فإني أقدّم لهم دليلًا على تقديم الولاء السياسي على الديني من التراث، حيث ذكر الطبري في تفسيره ذلك: لما أسرَ المسلمون العباسَ وعقيلَ ونَوْفل في معركة بدر، قال رسول الله ﷺ للعباس: افدِ نفسك وابني أخيك. قال: يا رسول الله، ألم نصَلِّ قبلتك ونشهد شهادتك؟ قال: “يا عبّاس، إنكم خاصمتم فَخُصِمتم”! هنا الرسول لم يقبل من العباس إيمانه برسالته وشَهِد له وصلى معه وهو عمّه، إنما قدم الولاء السياسي على الديني، وطالبه أن يفدي نفسه كأسرى مشركي قريش. فهل قرأ أتباع الدين الموازي القرآن أو تراثهم؟ أم أنهم قوم لا يعقلون؟
إن الراحل ميشيل كيلو صفحة مشرقة في تاريخ سورية المعاصر، ولا يستطيع المشاغبون أن يسيئوا إليها، ولكنهم بالتأكيد يسيئون إلى أنفسهم وإلى تدينهم، وهو فارس الحرية على مدار أكثر من نصف قرن، وقد أثبت وطنيته وإنسانيته، ولم ينسَ أبناء وطنه، وهو على فراش الموت، حيث كان يقدّم خلاصة تجربته، ونصائحه، دون كلل ولا ملل، وكان يحلم بسورية حرة مستقلة لكل أبنائها، حتى غلبه ذلك الفيروس اللعين، وجعله يترجل إلى دار الخلود عن فرسه. ألف رحمة ونور على روح أستاذنا ميشيل كيلو السوري النبيل.
وختامًا أقول: مَنْ فقد إنسانيته؛ بَطَلَ تَدَينُه.
-----------
موقع سوريتنا