بالنسبة الى الولايات المتحدة، ثمة ثوابت في هذا السياق، أولها ضمان أمن ممرات التجارة والطاقة العالمية بشكل مباشر. وهنا لا تجامل أميركا ولعلها لا ترحم، وسيكون من السذاجة الاعتقاد أن أميركا إذ تتجه الى مجابهة روسيا والصين ستتخلى لهما عن الشرق الأوسط، بل الطريق لذلك تمر عبر إغلاق الفضاء الاستراتيجي للإقليم بما فيه سوريا وإيران. تلك كانت السيرة قبل الحرب الباردة وأثناءَها. ومن هنا أهمية وجود أميركا في شرق الفرات وامتلاكها روافع استراتيجية في الشأن السوري.
لكن الثابت الآخر بالنسبة الى الإدارة الاميركية هو استنفاد النموذج الإيراني قدرته على المساهمة في إدارة مستوى مقبول من الاستقرار، بل ومستوى منخفض من الصراع في الإقليم. فلئن كانت الولايات المتحدة قد قبلت بتفويض حافظ الأسد أمر إدارة مستوى منخفض من الصراع على الجبهة الشمالية لإسرائيل بعد انسحاب المدمرة نيوجرسي من بيروت، ثم قبلت على مضض بتفويض سوريا وإيران و"حزب الله" بعد السابع والثامن من أيار (مايو)، فإنها تدرك أن نموذج الدولة التي تولدها إيران لم يعد قادراً على ضمان الحد الأدنى من الاستقرار في المجتمعات التي تهيمن عليها، لا في العراق، ولا في لبنان ولا في سوريا. فمن شقوق عدم الاستقرار والحروب الأهلية يدخل الروس وقد يدخل الصينيون. وهذا النموذج تم إسقاطه عملياً بفضل انهيار نموذج رأسمالية دولة الريع في الإقليم، وسيسقط! ووصل النموذج الرأسمالي "الثوري" في سوريا إلى الحضيض.
في حين لم يعد دور إيران (مع احتمال سلاحها النووي على الرف) مقبولاً تجاه تهديد إسرائيل، فانه لم يعد قابلاً للحياة كضامن للاستقرار الداخلي للدول الخاضعة. لذلك قد تقبل إيران شريكاً محتملاً في منظومة للأمن والسلام الإقليمي تساهم فيها الدول العربية وتركيا وطبعاً، إسرائيل، ولكن ليس في هيمنة نموذج رأسمالية تصدير الثورة.
تحتاج أميركا الى حسم سؤال النووي الإيراني قبل أن تستكمل ملامح استراتيجيتها. ومن أجل ذلك، تحتاج لعزل المؤثرات الإقليمية. وفي التركيز على التفاوض النووي، تجري محاولات واسعة لإعادة رسم التحالفات وسبر الفرص. ويجرى نشر ستارات هائلة من دخان المعلومات المغلوطة والهمسات التي لا تتعدى آذان السامعين، والتي لا ينقصها التناقض والتمويه العميق.
يجري الحديث عن وجود اتفاق وتفويض أميركي لروسيا في سوريا، في حين تعود الولايات المتحدة لتؤكد انها لن تنسحب من شرق الفرات، وأنها لن تعترف بالنظام الراهن في دمشق إلا في إطار تسوية سياسية شاملة. وفي حين من المؤكد أن الإدارة الراهنة ستعيد توجيه حربة العقوبات بحيث تطاول شخصيات ومؤسسات النظام وتخفف وطأتها على الناس، فإن المضحك أن يستنتج البعض أن الولايات المتحدة قد عدّلت موقفها من النظام السوري لأنها تنفي رغبتها في إسقاط بشار الأسد. فهل أعلنت الولايات المتحدة يوماً عن رغبتها في إسقاط النظام السياسي في الاتحاد السوفياتي، بل وحتى القذافي، أو ميلوسوفيتش أو البشير. لم ولن تعلن الولايات المتحدة يوماً أنها تريد إسقاط أي من هذه الأنظمة، ولكنها تسقط. وقصة شرقنا الأوسطي العاثر لن تنتهي بهذه البساطة.
ثم يجري الحديث عن أن روسيا ترغب في العمل مع الدول العربية لإنهاء النفوذ الإيراني في سوريا، ويا له من سراب، ولكن ها هو رامي الشاعر المستشار السياسي لوزارة الخارجية الروسية يصرح قبل يومين بأن إيران "تعتبر تعزيز مواقعها في سوريا ولبنان مرتبطاً بمواجهة الولايات المتحدة وإسرائيل، وإحباط مخططاتهما ضد إيران" بينما "تعتبر إيران تلك الجبهات في سوريا ولبنان خطوطاً أمامية للدفاع عن نفسها وعن أمنها القومي". بل يؤكد الروس حالياً أن الإيرانيين باقون ووجودهم هو الشرعي في سوريا.
بعد أن يصفّر الحكم وتنتهي المفاوضات النووية، باتفاق، أو بأقل من اتفاق، أو بفشل كامل، لن يتغير الكثير بالنسبة الى سوريا. سينتهي الوقت المستقطع، وسيعود الصراع عليها أكثر احتداماً. فأهم ما تراه أميركا أن ثمة منظومتين للأمن تتنافسان في الإقليم. وهي لم تعد تقبل بروسيا كوسيط قوة مهيمن ولا بسلام إقليمي بوتيني.
كذلك، فإن المعادلة التي بنت إيران عليها دورها الإقليمي الهجين لم تعد صالحة. فهي تضرب ضربات مماسية، بما يؤذي، ولكن بما لا يبرر الرد الحاسم، مع احتفاظها بالقدرة الدائمة على نفي المسؤولية. يستند المنطق الاستراتيجي الإيراني على تخويف الأطراف المناهضة من الحرب الشاملة. من جهتها طورت الولايات المتحدة وإسرائيل تكتيكاً مقابلاً أدى لشلل هذا المنطق تماماً.
لقد جرى أولاً سحب ذريعة الخوف من الحرب الشاملة مع إيران والانتقال للتصدي المباشر، إذ تضرب الولايات المتحدة وإسرائيل، عبر العمليات السرية والعلنية، وباستخدام الروبوتات والمسيّرات، في عمق المصالح الإيرانية وتحتفظ ايران بردود رمزية باهتة. وفي سوريا تستمر عمليات قص العشب الإيراني في حين يطفئ الروس راداراتهم.
وحين يصفّر الحكم لن تنتهي المباراة. كل ما هنالك أن الصراع الإقليمي سيصبح الحلقة الرئيسية ليكون أشرس حول سوريا وفيها. ذلك أنه ساذج من يقرأ الجرائد من دون أن يقرأ الوقائع على الأرض، ولا أحد يشتري سمكاً في الماء.
------------
النهار العربي