على مستوى الإشكالية العامة (مجتمعاتنا إسلامية، والحكم لـ «الإسلام» فيها، أي للإسلاميين) لا تمايز فعلياً بين الإسلاميين، ليس هناك معتدلون ومتطرفون، هناك متطرفون (الإخوان) وهنا متطرفون جداً (سلفيو الجبهة الإسلامية) ومتطرفون جداً جداً (جبهة النصرة)، ومتطرفون جداً جداً جداً (داعش). هناك اعتدال ذاتي عند بعض الإسلاميين، لكنه بلا سند فكري وبلا إشكالية تخصه، ولذلك لا يستطيع المنافسة، وبالكاد يدافع عن شرعية وجوده.
وإن شئنا التحديد، هناك أربعة مستويات تجمع الإسلاميين، فلا يتمايزون فيها عن بعضهم.
أولاً، ليس بينهم من يفصل فصلاً قطعياً ونهائياً بين الدين والعنف، أو من يقول إن ممارسة العنف باسم الإسلام غير شرعية، ويقبل تالياً بحرية الاعتقاد الناجزة، بما فيها حرية عدم الاعتقاد وحرية تغيير الاعتقاد. على هذا المستوى، لا قطيعة بين «المعتدلين» المفترضين وبين «داعش». هذه نقطة يتعين على الإسلاميين التفكير فيها باستقامة ومنطق. إن تفكيرهم متهافت حين يعترضون على عنف «داعش» المنفلت، بينما هم لا يعترضون على جوهرية العلاقة بين الدين والعنف وعلى «تطبيق الشريعة»، ويتطلعون إلى السيطرة على الدولة والمجتمع معاً، مثلما تفعل المنظمات الشمولية.
ثانياً، يشترك الإسلاميون في مخيلة امبراطورية وفي ذاكرة امبراطورية، متمركزة حول فتح البلدان وغزو الأراضي والسيطرة العالمية، والمجد الحربي الإسلامي أو العزة الإسلامية. المخيلة الإسلامية الموروثة مخيلة قوة وسيطرة، وفي الذاكرة الإسلامية حضور قوي للأبطال والملاحم والأمجاد والسلاطين، وحضور ضعيف لليومي والعامي والنساء. ولم تجر يوماً مراجعة تقول إن الفتوح والغزو من عوارض التاريخ، وإنه ليست هناك علاقة ضرورية بينها وبين دين المسلمين.
ثالثاً، يشترك الإسلاميون السياسيون والعسكريون في ضعف حضور الدولة الوطنية في تفكيرهم، مقابل تصور الأمة الإسلامية، الخيالي والامبراطوري. الإسلاميون العسكريون (الجهاديون) لا وطنيون تكوينيا وجوهريا، بمعنى أنهم يذيبون الدولة الإقليمية القائمة، وهي مصلحة عامة عمرها قرن أو قرون في بلداننا، في الأمة الإسلامية المتخيلة، التي عمّرت فعلياً أقل من أكثر دولنا المعاصرة، وبمعنى أنهم طائفيون، يقصرون الأمة على المسلمين السنيين، والسلفيين منهم (نسخة طبق الأصل عن البعثيين، من حيث توسل ما فوق الدولة العربي لحجب أولوية ما تحتها الطائفي). ولهذا الكلام في السياق السوري دلالات مباشرة. فاللاوطنية المبدئية للسلفيين أضعفت الثورة السورية، والمجتمع السوري ككل، في مواجهة النظام، ولو لم يكن هذا بمستواهم من حيث الطائفية واللاوطنية والتطرف لاستطاع أن يكسب قطاعات من السوريين إلى صفه بفضلهم.
فهل وجد الإسلاميون «المعتدلون»، الإخوان المسلمون السوريون مثلا، ما يقولونه على هذا التكوين اللاوطني؟ ولا كلمة واحدة. لماذا؟ لأنهم شركاء في الإشكالية، لأن ما قالوه في وثائق سابقة للثورة لم يختلط بإشكاليتهم: الإسلامية الماهوية لمجتمعاتنا، واستنتاج اسحقاق الحكم فيها من ماهيتها المفترضة، حكمهم هم طبعا.
«التطبيق» هو مستوى الشراكة الرابع بين مختلف الإسلاميين، يضاف إلى الإكراه والمخيلة الامبراطورية والاستهانة بالدولة الوطنية والتاريخ الوطني. التاريخ نتاج لتطبيق عقيدة ناجزة معطاة على مجتمعات حية، أو هو «تنزيل» «الثابت» على المتغير، وتثبيته. التثبيت هو فعل إكراه حتما. وبينما قد تلزم «اجتهادات» تفصيلية، فإن كل ما هو أساسي معطى سلفا. ويندرج ضمن هذا التصور للتاريخ والسياسة مفهوم «تطبيق الشريعة»، حيث السياسي مُطبّق، مهندس اجتماعيا. ومهندسو المجتمع المقدسون يبترون الحياة البشرية ويقطعونها مثلما يفعل مهندسو الأشياء. ولا يبعد عن التصور التطبيقي أيضا الميل المتواتر إلى اتهام المسلمين مقابل تبرئة الإسلام من أية أوضاع متدهورة معاصرة. كأن هناك إسلاما بلا مسلمين، وكأن المسلمين جاهلون بدينهم، لا يصدرون عن نصوصه ومخيلته وذاكرته.
ما نرتبه على مجمل هذه االمناقشة هو قوة الاستعداد الداعشي عند الإسلاميين عموما، وانعدام السند الفكري لاعتدال إسلامي يعتد به. وفي غياب سند فكري قوي لمفهوم وممارسة إسلاميين مختلفين، يشعر شبان مسلمون متحمسون بأن دينهم يتمثل في داعش وما يشبهها، وليس في معتدلين خائرين، يرفضون داعش ذاتيا، لكن لا يستطيعون قول كلام واضح في شأن الفكر الداعشي.
فهل يكون السند الفكري للاعتدال الإسلامي غائبا لأنه ممتنع بكل بساطة؟ وهل يكون التطرف هو الإسلام الصحيح، و «المعتدل» المزعوم مجرد انتهازي مرواغ؟ هذا يستحق تناولاً مستقلاً.
والخلاصة أن الإسلاميين «المعتدلين» لا يدافعون عن دينهم ضد تطبيق وحشي له لأنهم شركاء في مفهوم التطبيق، وفي شرعية العنف ووجوبه، وفي الخيال المنشدّ إلى أمة إسلامية وهمية، بعيداً من واقع الدولة الوطنية الحديثة. وهذا لا ينطبق على جبهة النصرة والجبهة الإسلامية، بل على الإخوان المسلمين. ولذلك فإن أي صراع محتمل بين هذه المجموعات هو صراع محض سياسي، لا يثمر عدلاً أكبر أو يفتح أبواباً أوسع للكرامة الإنسانية.
----------
الحياة