مُنحت الرياض الإشراف على الهيئة العليا للتفاوض، وتُرك لأنقرة الائتلاف مع ما تبقى من فصائل ومناطق تسيطر عليها. الرعاية السعودية والحسابات الروسية التقتا على ضم منصتي القاهرة وموسكو، فضلاً عن هيئة التنسيق والمستقلين، من أجل إقامة توازن مع النفوذ التركي ممثلاً بالكتلة الأكبر-كتلة الائتلاف. الخلاف السعودي-التركي كان لا بد أن يترك آثاره على هذه الشراكة الإجبارية، وأن يفسح مساحة لموسكو المتربصة بالجميع، لكن من المتوقع أن تكون إدارة ترامب قد حالت دون تفجر الخلاف.
منذ سنة على الأقل، كانت قد لاحت بوادر تفجير الهيئة العليا للتفاوض، لكن الخلافات التي ظهرت إلى العلن آنذاك جُمّدت وتُركت بلا حسم. تفاصيل الخلاف ليست هي الأهم، فالادعاءات المتعلقة بمخالفات تنظيمية أو بهيمنة الائتلاف، وعدم معالجتها في الغرف المغلقة، لهما منحى سياسي أكثر مما هو تنظيمي. لم يكن فتيل الخلاف في انتظار نار، النار موجودة أصلاً، والهدف حرق الائتلاف أو ما تيسر منه.
مع الشكوى ضد الائتلاف التي أُرسلت من قبل منصتي القاهرة وموسكو وهيئة التنسيق إلى المبعوث الأممي بيدرسون، وتجميد الرياض دعمها المالي لهيئة التفاوض، كانت أحضان وزير الخارجية الروسي لافروف جاهزة لاستقبال المحتجين. نقل المحتجون شكواهم إلى موسكو، التي تحركت لملاقاتهم بسرعة غريبة عن الدبلوماسية الروسية، وصارت في جيب لافروف ليطعن في شرعية وفد الهيئة إلى مفاوضات اللجنة الدستورية إذا تجاهل بيدرسون الشكوى.
انتشرت صورة على وسائل التواصل تجمع الذاهبين إلى موسكو بوزير خارجيتها، ولا نعلم مدى صحتها لأن الموجودين فيها لم يراعوا التباعد الجسدي ولم يضعوا الكمامات. حتى إذا كانت الصورة قديمة، يلفت الانتباه فيها تلك الابتسامات العريضة للافروف وضيوفه، وكأنه لقاء أحبة لا لقاء من يُفترض أنهم معارضون ينسبون لأنفسهم تمثيل شعب تحت الاحتلال الروسي، ودُكّت مدنه وبلداته بالطيران الروسي. بعيداً عن الصورة، من المؤكد بحسب موقع "روسيا اليوم" أن لافروف أكد "عطفاً على استقباله الوفد" استعداد بلاده لمواصلة تعزيز الحوار الشامل بين الأطراف السورية من أجل تسريع عودة الأوضاع إلى طبيعتها في سوريا. لا يحتاج أيّ منا نباهة لفهم ما تعنيه موسكو بـ"عودة الأوضاع إلى طبيعتها في سوريا".
باستبعاد فرضية المصادفة، أتت هذه التطورات مع انتهاء ولاية ترامب، وبدء ولاية بايدن وإدارته التي تنذر بعلاقة باردة أو متوترة بأنقرة. إذاً، الفرصة باتت سانحة للانقضاض على النفوذ التركي ممثلاً بالائتلاف، ولو أتى جزء من الانقضاض عبر موسكو. لا يغيّر من هذا السلوك الكيدي أن موسكو لن تكون حتى في وضعية الحكَم المنحاز إلى جانب ممن يدّعون تمثيل المعارضة، وأنها فقط ستستغل الشقاق الجديد لمصلحتها ورؤيتها التي تنص على "عودة" الأوضاع إلى طبيعتها في سوريا، أي عودتها إلى ما قبل آذار 2011، مع إضافة قواعدها ونفوذها.
كان قد أصبح من المسلّم به أن أعمال اللجنة الدستورية غير محدودة بسقف زمني، بعد استهلاك وقت طويل في المماطلة المبارَكة روسياً، وسيكون بشار مدعوماً من موسكو ليبدأ ولاية رئاسية جديدة في الصيف المقبل. يبدو أن هذا الحد لا يكفي، لأن موسكو تريد إظهار فشل الرعاية الأممية لأية عملية سياسية، وبعد اختزال الأخيرة إلى اللجنة الدستورية ربما أتت اللحظة المناسبة لإظهار تهافت المعارضة المشاركة في مفاوضاتها وعدم أهليتها، وهذا يحتمل الصواب بمعزل عن استخدامه من قبل سفاح غروزني أو سفاح سوريا. على أية حال، لو لم يكن هناك سجل حافل من التهافت لكانت زيارة هذا الوفد إلى موسكو للتشكي كافية، إذا اعتبرنا الشكوى المرفوعة إلى بيدرسون مبررة بوصفه ميسّراً للتفاوض بين جهات "المعارضة" كما هي مهمته بينها وبين وفد الأسد!
لا نستبعد أن تكون زيارة موسكو قد أتت كهدية لأعضاء الائتلاف، فهي بمثابة وصمة للزائرين تغطي على موبقات الائتلاف، وعلى ارتهانه المطلق للنفوذ التركي. آخر ما يكترث به هؤلاء حال المعارضة ككل، أو حال من يزعمون وجودهم في الجهة المضادة للأسد، فهم منشغلون بالمؤامرات التي لا تنتهي في كواليس الائتلاف نفسه، وفي كواليس حكومته المؤقتة، ولولا الإشراف أو الضغوط التركية لظهرت إلى العلن صغائر الصراع على المناصب، إذا لم يظهر التسابق والصراع على نيل رضا صاحب النفوذ.
قدّم الائتلاف المثل الأسطع على الارتهان، بموقعه المفترض كممثل لقوى الثورة، فهو لم يمثّل قيم الثورة، ولم يسعَ ليكون إطاراً جامعاً. الأهم من ذلك أنه كان طوال سنوات غارقاً بين صغائر القسم الأعظم من أعضائه وصغره الذي وضعه في أحضان الحسابات التركية بحذافيرها. بهذا المعنى، زيارة موسكو بمثابة استئناف "في اتجاه آخر" لنهج الائتلاف، لا أكثر ولا أقل. العلّة هي في القابلية المعممة للابتذال والارتهان، ولتغليب حسابات الآخرين على مصالح السوريين، بما في ذلك مصالح الأسد الظاهرة أو المستترة وراء توجهات إقليمية أو دولية.
لماذا لا يجتمع هؤلاء، أو لماذا لا يُجمعون، في طائرة تقلّهم لملاقاة بشار؟ لا نقول "طائرة تقلّهم إلى مطار حميميم الذي تسيطر عليه موسكو"، لأن هذه الخطوة من طينة زيارة موسكو الأخيرة. ليذهب الائتلاف وخصومه إلى بشار، لعله يلاقي حلاً لخلافاتهم المستعصية، أو يزجي بها فراغه الرئاسي. على الأقل، بذهابهم ترتاح كلمات مثل "الثورة" و"المعارضة" من التنكيل الذي لا يتوقف.
-------
المدن