آلاف ينتظرون ومعظمهم من الشباب الذين تجمعهم الرغبة في التمرد أو الصراخ مع أفكار يسارية طفولية هي أقصى ما يسمح به الشرط العام، لتصبح أغنيات مثل "شو هل الإيام اللي وصلنالا" أو "أنا مش كافر" نشيداً يجمع الواقفين في مجموعاتٍ عشوائية وكأنها حفلاتٌ موزعة عشوائياً أو كرنفالٌ قد يكون في لحظة ما أهم من الحفلة الأصلية، فالتجمع والغناء الجماعي في الشارع بكلمات احتجاجية طقس مغيب إلى حدود كبيرة، وهنا تبرز أهمية شخص كزياد فهو حاضر في حناجر هؤلاء الشباب أكثر من حضوره على الخشبة، ولعل الأمر أشبه بأسطورة جميلة يعيد الناس روايتها وقولبتها بحسب أحلامهم وأمزجتهم، يعيدون إنتاجها آلاف المرات وقد يحمّلونها ما يفوق قدرتها أحياناً أو ما يفوق مستواها أيضاً، فلعل موهبة زياد الموسيقية تتفوق على نضجه الفكري.
بعد انتظار طويل فتحت الأبواب مع إجراءات تفتيش مخابراتية معتادة مثل "صف على جنب" و" ارفع إيديك". من حسن الحظ أنهم لا يفتشون الحناجر والقلوب. ندخل إلى بهو قلعة دمشق لننتظر ساعتين إضافيتين تحملان حميمية بين الحاضرين ولقاءات سريعة مع عشرات الأصدقاء، والغرف العلوية تطل علينا محملة بذكريات ونظرات من سكنوها، والفراغ الأسود في النوافذ لا يقطعه غير حمامٍ يعيد الحياة له. مع رعب فكرة أن يكون هذا المكان الآسر معتقلاً سابقاً أليست جريمة بحق الإنسانية أن تُحوّل قلعة تاريخية إلى معتقل. تستمر الأفكار بالتسرب على مهلٍ حتى يصعد زياد وباقي أفراد الفرقة الذين يصل عددهم إلى الخمسين على الخشبة مع نوبة هستيرية من التصفيق والوقوف، يُبتدأ الحفل بمقطع من "أبو علي". يا إلهي موسيقى " أبو علي" حية. إنها تكثف مرحلة مهمة من حياتي فقد درست عاماً كاملاً على ثلاثة كاسيتات منها "أبو علي" و"كيفك إنت".كنت في الرابعة عشرة من عمري بأحلامٍ تبتلع العالم، وأمل وحشي بالقدرة على تغييره أو بالحد الأدنى صفعه. شاباً معبأً بأفكارٍ ثوريةٍ وطاقةٍ تتوزع في أشكالٍ عديدة والأهم روح غير مقولبة وترفض الانصياع. يصعد ألم في الحلق يسمونه غصة. يا إلهي أين صرتُ، مازلت أحلم وأكتب لكن اليأس ينبت كالطحالب على الروح، أراني في الرابعة عشرة من عمري وفي السابعة والعشرين ثم أبكي وحيداً بين عدة آلاف، لا أعلم بمَ يفكرون؟!، بمَ يحلمون؟!، لا أسمع غصاتهم أو أمسح دمعهم لكني أعلم أن لكلٍ منهم قصة ما مع هذا المتمرد، تستمر الحفلة في طقس حماسي يُغيّب جماليات الموسيقى التي حملت الكثير من التجديد في التوزيع بشكلٍ خاص. أجل من الواضح أن الناس تريد أن تغني أن يرتفع صوتها، إنها تريد أن تتنفس، حتى أن زياد قال ممازحاً: "أنتم تعرفون المقطوعة من أول علامة في حين احتاجت الفرقة شهراً من التدريب لهذه الحفلة". قلت في نفسي لا بأس أعلم أن هذا الحماس قد يسيء إلى المشروع الموسيقي، ولكنه الأهم في هذه اللحظة، آلاف من خيرة شباب دمشق في مكان واحد ولهم صوت واحد. تنتهي الحفلة بعد أن يحيي زياد محبيه، فيطلبون المزيد فيعيد المقطوعة الأخيرة ثم ينتهي الحلم أو تنتهي الفسحة لنخرج من سجن القلعة إلى دمشق القلعة لكن فرادى على غير ما دخلنا..
بعد عام عاد زياد إلى القلعة لكن بتمويل خاص هذه المرة، ومن الرعاة "بيبسي" التي كثيراً ما دعَونا لمقاطعتها بسبب دعمها للكيان الصهيوني و"فورد" الأمريكية، وهذه أول صفعة لنا، وبأسعار بطاقات وحشية لجمهوره الشاب أرخصها ألف ليرة سورية، ومع هذا كانت المحبة لزياد أكبر من المعوقات، فامتلأت القلعة مجدداً بنفس شروط عدم الاحترام السابقة من حيث التفتيش، وبكثير من الوحشية والرداءة من حيث التوزيع والتنظيم ليقسم الجمهور بحسب أسعار البطاقات، وليجلس ما يزيد عن نصف الجمهور على بعد 150 متراً مكتفين بشاشاتين جانبيتين قماشيتين تهتزان مع الهواء إحداهما سيئة الصورة لأن الراشق الضوئي غير مُبأّر جيداً. هناك الكثير من التفاصيل المسيئة التي يمكن ذكرها، لكنها لم تؤثر على حماسة الحضور، وبدأت الحفلة لكن ببرودٍ غريبٍ مع سيطرة للاستعراض بدل المشروع الموسيقي الهام، إذ لم يقدم زياد ما يدهش على المستوى الموسيقي وكأنه اتكل على الحماسة والتصفيق والتفاعل مع تعليقاته و"تنكيتاته"، لم نعرف بوجود الكمنجات إلا متأخراً لنكتشف أنها تعزف نفس العلامات دون جهد في التوزيع، تم تكرار عدد من المقاطع الكلامية التي نعرفها والتي تتكرر في الإذاعة، ثم انتهت الحفلة مع خيبة أمل كبيرة تحوِّل رمزاً لدينا إلى سلعة لكسب ما يقرب العشرين مليوناً في أربعة أيام، سلعة تباع لكننا لم نشترها، والكل يسأل لماذا يا زياد؟!. لقد كانت فسحة للحلم لكنها هذه المرة في سجن القلعة والقيود من الرأسمالين الذين كنا نغني ضدهم، تذكرت وقتها قصة حرق الأعلام الصهيونية ورفع الأعلام الفلسطينية في مظاهرات عربية في كندا، والتي عرف الناس بعدها أن بائع الأعلام كلها صهيوني يستثمر في كل شيء.
-------------------------------
صحيفة الغاوون العدد 23
بعد انتظار طويل فتحت الأبواب مع إجراءات تفتيش مخابراتية معتادة مثل "صف على جنب" و" ارفع إيديك". من حسن الحظ أنهم لا يفتشون الحناجر والقلوب. ندخل إلى بهو قلعة دمشق لننتظر ساعتين إضافيتين تحملان حميمية بين الحاضرين ولقاءات سريعة مع عشرات الأصدقاء، والغرف العلوية تطل علينا محملة بذكريات ونظرات من سكنوها، والفراغ الأسود في النوافذ لا يقطعه غير حمامٍ يعيد الحياة له. مع رعب فكرة أن يكون هذا المكان الآسر معتقلاً سابقاً أليست جريمة بحق الإنسانية أن تُحوّل قلعة تاريخية إلى معتقل. تستمر الأفكار بالتسرب على مهلٍ حتى يصعد زياد وباقي أفراد الفرقة الذين يصل عددهم إلى الخمسين على الخشبة مع نوبة هستيرية من التصفيق والوقوف، يُبتدأ الحفل بمقطع من "أبو علي". يا إلهي موسيقى " أبو علي" حية. إنها تكثف مرحلة مهمة من حياتي فقد درست عاماً كاملاً على ثلاثة كاسيتات منها "أبو علي" و"كيفك إنت".كنت في الرابعة عشرة من عمري بأحلامٍ تبتلع العالم، وأمل وحشي بالقدرة على تغييره أو بالحد الأدنى صفعه. شاباً معبأً بأفكارٍ ثوريةٍ وطاقةٍ تتوزع في أشكالٍ عديدة والأهم روح غير مقولبة وترفض الانصياع. يصعد ألم في الحلق يسمونه غصة. يا إلهي أين صرتُ، مازلت أحلم وأكتب لكن اليأس ينبت كالطحالب على الروح، أراني في الرابعة عشرة من عمري وفي السابعة والعشرين ثم أبكي وحيداً بين عدة آلاف، لا أعلم بمَ يفكرون؟!، بمَ يحلمون؟!، لا أسمع غصاتهم أو أمسح دمعهم لكني أعلم أن لكلٍ منهم قصة ما مع هذا المتمرد، تستمر الحفلة في طقس حماسي يُغيّب جماليات الموسيقى التي حملت الكثير من التجديد في التوزيع بشكلٍ خاص. أجل من الواضح أن الناس تريد أن تغني أن يرتفع صوتها، إنها تريد أن تتنفس، حتى أن زياد قال ممازحاً: "أنتم تعرفون المقطوعة من أول علامة في حين احتاجت الفرقة شهراً من التدريب لهذه الحفلة". قلت في نفسي لا بأس أعلم أن هذا الحماس قد يسيء إلى المشروع الموسيقي، ولكنه الأهم في هذه اللحظة، آلاف من خيرة شباب دمشق في مكان واحد ولهم صوت واحد. تنتهي الحفلة بعد أن يحيي زياد محبيه، فيطلبون المزيد فيعيد المقطوعة الأخيرة ثم ينتهي الحلم أو تنتهي الفسحة لنخرج من سجن القلعة إلى دمشق القلعة لكن فرادى على غير ما دخلنا..
بعد عام عاد زياد إلى القلعة لكن بتمويل خاص هذه المرة، ومن الرعاة "بيبسي" التي كثيراً ما دعَونا لمقاطعتها بسبب دعمها للكيان الصهيوني و"فورد" الأمريكية، وهذه أول صفعة لنا، وبأسعار بطاقات وحشية لجمهوره الشاب أرخصها ألف ليرة سورية، ومع هذا كانت المحبة لزياد أكبر من المعوقات، فامتلأت القلعة مجدداً بنفس شروط عدم الاحترام السابقة من حيث التفتيش، وبكثير من الوحشية والرداءة من حيث التوزيع والتنظيم ليقسم الجمهور بحسب أسعار البطاقات، وليجلس ما يزيد عن نصف الجمهور على بعد 150 متراً مكتفين بشاشاتين جانبيتين قماشيتين تهتزان مع الهواء إحداهما سيئة الصورة لأن الراشق الضوئي غير مُبأّر جيداً. هناك الكثير من التفاصيل المسيئة التي يمكن ذكرها، لكنها لم تؤثر على حماسة الحضور، وبدأت الحفلة لكن ببرودٍ غريبٍ مع سيطرة للاستعراض بدل المشروع الموسيقي الهام، إذ لم يقدم زياد ما يدهش على المستوى الموسيقي وكأنه اتكل على الحماسة والتصفيق والتفاعل مع تعليقاته و"تنكيتاته"، لم نعرف بوجود الكمنجات إلا متأخراً لنكتشف أنها تعزف نفس العلامات دون جهد في التوزيع، تم تكرار عدد من المقاطع الكلامية التي نعرفها والتي تتكرر في الإذاعة، ثم انتهت الحفلة مع خيبة أمل كبيرة تحوِّل رمزاً لدينا إلى سلعة لكسب ما يقرب العشرين مليوناً في أربعة أيام، سلعة تباع لكننا لم نشترها، والكل يسأل لماذا يا زياد؟!. لقد كانت فسحة للحلم لكنها هذه المرة في سجن القلعة والقيود من الرأسمالين الذين كنا نغني ضدهم، تذكرت وقتها قصة حرق الأعلام الصهيونية ورفع الأعلام الفلسطينية في مظاهرات عربية في كندا، والتي عرف الناس بعدها أن بائع الأعلام كلها صهيوني يستثمر في كل شيء.
-------------------------------
صحيفة الغاوون العدد 23