فقد شكل نهاد قلعي مع رفيق دربه دريد لحام أول وأشهر ثنائي كوميدي في تاريخ السينما والدراما التلفزيونية العربية. لم تكن مفارقة أن يكون هذا الثنائي ينتمي لطائفتين مختلفتين: نهاد قلعي السني ابن حي سوق ساروجا الدمشقي العريق، ودريد لحام الشيعي ابن حي الأمين الدمشقي العريق أيضاً!
لم تكن هذه مفارقة بالتأكيد؛ فدمشق التي ينتمي إليها الفنانان حاضنة أصيلة للتعايش منذ قرون، وقيم الفن الحقيقي هي أيضاً حاضنة طبيعية تتجاوز انتماءات الطوائف وأي لغة طائفية.. وما يبدو أنه (نظام علماني قومي ممانع) عمل الاثنان في ظله، ردحاً من مسيرتهما الفنية التي بدأت في نهاية خمسينيات القرن العشرين، (نظام حافظ الأسد) كان يمكن أن يقمع أي رغبة في التفكير أن أول ثنائي كوميدي كان يمثل في انتماءاته الصغرى طائفتين متمايزتين، وإن لم يكن لذلك أي تأثير يذكر في ثقافة الاثنين ونتاجهما.. باستثناء أن دريد أدخل في مسرحية (غربة) لوحة غنائية مستقاة من طقوس الندب الشيعي، التقطها من جنازة أحد أقاربه كما قال لي يوماً.. تقول كلماتها الملحنة: راية السودا الحزينة.. رفرفرت فوق المدينة.. نار حزنك ما طفاها.. بحر ربان السفينة!
- سيناريوهات الجحود العفوية!
لكن في تأمل خلفية هذا الانتماء اليوم.. تثار الكثير من علامات الاستفهام عن الاحتفاء والتكريم الذي لقيه دريد لحام، مقابل الإهمال والجحود الذي لقيه نهاد قلعي حتى بعد محنته المرضية. فقد منح حافظ الأسد بعد مسرحية غربة (1976) وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى للفنان دريد لحام، في حين منع مثل هذا التكريم الرسمي عن نهاد قلعي الذي شهدت عروض مسرحية (غربة) ذاتها، محنته المرضية التي أنهت بشكل أو بآخر- مسيرته الفنية قبل أوانها.
لم يكن لدى سلطات النظام السوري أي شعور بالذنب من أن سبب هذه المحنة المرضية تلك، مشاجرة حدثت في أحد مطاعم حي القصاع الدمشقي، حين خاطب ضابطاً في سرايا الدفاع التابعة لرفعت الأسد في عز سطوتها وجبروتها، نهاد قلعي الذي كان يجلس في المطعم ذاته، بطريقة مهنية وساخرة.. فرد عليه نهاد قلعي مطالباً إياه أن يلتزم الأدب.. فما كان من الضابط إلا أن ضرب الفنان الكبير بكرسي على رأسه سقط مغميا علياً.. لتتفاعل الأزمة بعد وقت قصير حين كان يقدم نهاد قلعي عروض مسرحية (غربة) على المسرح فيسقط على المسرح في آخر لقاء له مع الخشبة التي أسس مسرحها القومي يوماً!
كان الفنانون المخضرمون الكبار، حين كنت شابا في مطلع حياتي الصحفية، يهمسون لي بهذه الرواية سراً.. وفي أحاديث خاصة كانت تتبع بعبارة تحذيرية أن الكلام ليس للنشر. ضاعت هذه الرواية في متاهات الصمت والهمس، لكنها لم تمت. أما نهاد قلعي فقد مات قهراً.. ليس بسبب منح وسام الاستحقاق لرفيق دربه دريد دوناً عنه، بل لأنه كان يظن أنه سيتجاوز محنته المرضية، ويعود للعمل والإبداع. وربما كان بإمكانه بعد عشر سنوات على التمام من هذه الحادثة أن يتمكن من العودة إلى العمل عبر مسلسل (عريس الهنا) الذي أنتجته شركة خاصة عام 1986 وقام نهاد قلعي بكتابته والمشاركة ببطولته، إلا أن الرجل المرح الذي يتفجر حيوية ونشاطاً وحضوراً وبدهية، بدا متعباً، أحنى الألم رأسه، وأعاق المرض طلاقته في الكلام.
واجهت الفنان دريد لحام في حوارات كثيرة أجريتها معه قبلأ، بتهمة الحجود التي أطلقها الكثير من السوريين عليه بسبب تخليه عن رفيق دربه في محنته المرضية، ومنهم أسرة الفنان الراحل نفسه، لكن دريداً كان بارعاً في الرد: أطلقت اسمه على الفرقة المسرحية التي كنا نقدم فيها أعمالنا المسرحية المشتركة، وحين قررنا تصوير مسرحية (غربة) للتلفزيون في استوديوهات التلفزيون الأردني في عمان، رفضت أن أصور النسخة التلفزيونية التي خلدت هذا العمل المسرحي إلا بوجوده، واستغرقنا وقتاً طويلاً في التصوير بسبب وضع نهاد قلعي الصحي الذي لم يكن يسمح له أن يصور لساعات طويلة.. فما الذي يمكن أن أصنعه أكثر من ذلك؟! هل الوفاء هو أن أتوقف عن العمل الفني بسبب مرضه؟! تساءل دريد لحام ذات مرة رامياً الكرة في ملعب من ينتقدون (جحوده)!
كان دريد فناناً ذكياً في إطلاق المبادرات الشعاراتية اللطيفة أو الممالئة على حد سواء. سمى فرقته المسرحية ذات مرة (أسرة تشرين) احتفاء بما سمي (حرب تشرين التحريرية) وحين مرض نهاد سماها فرقة نهاد قلعي لفترة من الزمن ثم نسي الأمر برمته. كان ذكياً أيضاً إلى درجة أنه أدرك حجم الخسارة الشخصية في أن يصور مسرحية (غربة) للتلفزيون بدون نهاد قلعي، بعد أن استعان بالفنان تيسير السعدي لأداء الدور البديل في العروض المسرحية. وقد كسب من هذا الإصرار أكثر مما كسب نهاد، الذي ظل يقول أنه لا يحب مسرحية (غربة) لأنها تذكره بمحنته المرضية!
وسام استحقاق وموت!
في رحلة البحث عن تلميع (مشروع الإصلاح) الذي ظل يقوده بشار الأسد احدى عشرة عاماً انتهت بالانفجار.. عاد نظام الأسد الابن لتذكر حجم الجحود والإهمال الذي تعرض له نهاد قلعي، فقرر منحه وسام الاستحقاق عام 2008 ثم منح دريد لحام وسام الاستحقاق مرة أخرى. على اعتبار أن وسام الأب أصبح من عهد مضى.. وإن لم يتغير على السوريين شيئاً يذكر!
من حسن حظ نهاد قلعي في قبره أن بشار الأسد الذي سيقتل فيما بعد أكثر من 200 ألف من الشعب السوري الذي أحبه نهاد، لم يحضر حفل منحه وسام الاستحقاق بعد موته في دار الأوبرا، ولا ألقى فيه كلمة، بل ناب عنه وزير الثقافة آنذاك رياض نعسان آغا، الذي لم يترك كلمة في قاموس تمنين أسرة الفنان الراحل بهذه اللفتة لم يقلها.. أما دريد فقد انتشرت صوره مع الجزار بشار الأسد ضاحكاً، معبراً بظرافة عن مفارقة الطول والقصر بين الفنان والديكتاتور. مفارقة تذكر بلقطة من أفلام شارلي شابلن وإشاراته الحادة التي لم يلامسها دريد لحام في العمق، حتى بعد أن رأى من منحه وسام الاستحقاق يولغ في دماء شعبه!
زمن دريد الجديد!
لم يكن زمن دريد ونهاد زمن الثنائي الكوميدي: السني- الشيعي بالتأكيد ولا يمكن أن يكون.. ولا يحق لنا في زمن الثورة وتشظي الهويات الطائفية أن نسقط ذلك على زمن جميل مضى.. ولا نستطيع مع كل الاحترام لتاريخ نهاد قلعي ونقائه وطيبته أن نتكهن ما سيكون موقفه لو عاش ليشهد هذه الثورة.. لكن بالتأكيد سيلحظ نهاد قلعي كيف انقلب رفيق دربه على كل قيم الحرية والكرامة التي تغنى فيها في مسرحياتهما المشتركة، وسيلحظ أيضاً انحياز دريد لحام لشيعيته وانتمائه الطائفي في موقفه المناوئ لثورة الشعب السوري، وفي تقديسه المهين لشخص السيد حسن نصر الله المشارك طائفياً في قتل السوريين، والذي حمل مقاتلوه (اللاطائفيون) في حقائبهم، لافتات (يا حسين) كي يرفعوها على مساجد مدينة القصير السورية التي اقتحموها بعد حصار دام شهر جوعوا فيها أهلها ثم أجهزوا على جرحاهم! ومع ذلك يجب علينا أن نتعامل مع هذه اللافتات باعتبارها (حالة عفوية) غير مقصودة، في حرب مؤازرة يخوضها محور المقاومة والممانعة لدعم (النظام العلماني الممانع)!
سيدرك نهاد قلعي دون شك، أن دريد لحام في مواقفه الأخيرة، ليس وطيناً ولا قومجياً، بل شيعياً يرى الكعبة في جنوب لبنان، كما صرح مؤخراً.. وربما سيحج ذات يوم إلى مزار قاتل عمر بن الخطاب في إيران ليرى فيه روضته الشريفة.. فيما سيدرك السوريون أي ظلم حاق بنهاد قلعي في زمن الصمت واللاطائفية!
كادر
نهاد قلعي: عطاء سيرة
بدأ نهاد قلعي نشاطه الفني في خمسينيات القرن العشرين حين أسس فرقة (النادي الشرقي) التي عرضت بعض أعمالها وأبزرها (ثمن الحرية) في مصر.. ولفتت اهتمام كبار الناقد كالناقد محمد مندور، وعندما تمت الوحدة بين مصر وسورية في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، كانت توصية وزير الثقافة في الإقليم الجنوبي أن تتم الاستفادة من عناصر النادي الشرقي في تأسيس الفرقة القومية المزمع إنشاؤها في الإقليم الشمالي (سورية) فاختير نهاد قلعي كأول مدير للمسرح القومي السوري، وقدم عرضاً افتتاحيا لهذه الفرقة الوليدة من إخراجه هو (المزيفون) عن نص للكاتب المصري محمد تيمور عام 1960.
وعلى مدار خمس سنوات تأسيسية، قدم نهاد قلعي أربعة للمسرح القومي عروض حملت توقيعه الإخراجي هي (المزيفون- ثمن الحرية- البرجوازي النبيل- مدرسة الفضائح) وفي هذه المسرحيات ظهر نهاد ممثلا أيضا، كما اشترك كممثل في بطولة أربعة عروض أخرى هي (المفتش العام- مروحة ليدي وندرمير- رجل القدر) إخراج هاني إبراهيم صنوبر و(الأخوة كارامازوف) إخراج أسعد فضة.
أما في التلفزيون فقد ظهر نهاد قلعي في أول برنامج منوعات في تاريخ التلفزيون السوري هو (الإجازة السعيدة) الذي أخرجه خلدون المالح عام 1960، كما التقى رفيق دربه الفنان دريد لحام ليشكلا أول ثنائي كوميدي فني في الوطن العربي (دريد ونهاد) وليبدأ رحلة الكوميديا الشعبية التي حملت اللهجة السورية إلى مختلف أصقاع المشاهد العربي على أجنحة الفن النظيف، والضحك العذب في أعمال خالدة تستعيدها المحطات الفضائية العربية حتى اليوم: (مقالب غوار- حمام الهنا- صح النوم- ملح وسكر) وجميعها من تأليف نهاد قلعي الذي ابتكر الشخصيات النمطية الكوميدية وزين بها الكوميديا التلفزيونية. كما جمعت نهاد قلعي مسيرة شراكة مسرحية وسينمائية مع دريد لحام بدأها في السينما بفيلم (عقد اللولو) عام 1964 مع المطربة اللبنانية صباح والمطرب السوري فهد بلان.. وتوالت على مدار أكثر من عشرين فيلماً شاركهما فيها البطولة العديد من نجوم الفن المصري آذناك: (شادية- هند رستم- كمال الشناوي- فريد شوقي) وغيرهم.. أما في المسرح فقد شارك نهاد قلعي في العديد من الأعمال المسرحية البسيطة مع دريد لحام كمسرحيتي (عقد اللولو) و(مساعد المختار) في الستينيات.. ومسرح (الشوك) الانتقادي اللاذع الذي ابتدع فكرته عمر حجو وترك صدى اجتماعيا وسياسيا كبيرا في سورية في مطلع السبعينيات.. قبل أن ينضم إليهما الكاتب محمد الماغوط في مسرحيتي (ضيعة تشرين) 1974و(غربة) 1976 في أجرأ وأبلغ إضافة للمسرح السياسي العربي في السبعينيات.. وقد كانت مسرحية (غربة) آخر عهد نهاد قلعي بالمسرح.. إذ تفاعلت أثناء إحدى العروض، حادثة الاعتداء التي كان قد تعرض لها في إحدى مطاعم دمشق، حين وبخ نهاد أحد الحضور لإساءته الأدب في مخاطبته أمام ضيوف كانوا معه من لبنان.. فما كان منه إلا أن رماه بكرسي على رأسه.. وسقط نهاد صريعاً.. ليتفاعل الحادث أكثر على المسرح ويسقط على الخشبة في محنة مرضية دفعت دريد لحام حينها لإطلاق اسم نهاد قلعي على الفرقة المسرحية لبعض الوقت.. من دون أن يدري لا هو ولا نهاد نفسه.. أن هذا (غربة) سيؤرخ لغربة وانفصال دريد عن نهاد في العمل الفني.
ومنذ عام 1976 لم يقيض لنهاد أي عمل فني، سوى مسلسل تلفزيوني كتبه وقام ببطولته بمشاركة (رفيق السبيعي وياسين بقوش) هو (عريس الهنا) الذي أخرجه محمد الشليان عام 1986.. وكانت رقابة التلفزيون السوري قد رفضت العديد من النصوص التي كتبها نهاد قلعي أثناء تلك الفترة الطويلة التي أقعده فيها المرض.. والتي انصرف فيها لكتابة السيناريوهات القصصية الفكاهية للأطفال في مجلة (سامر) اللبنانية، عبر شخصية حسني البورظان التي اشتهر فيها، إلى أن رحل في تشرين الأول (أكتوبر) من عام 1993، وسارت دمشق تودعه في جنازة مهيبة في ذلك اليوم الحزين.
--------------
- القدس العربي
--------------
- القدس العربي