... لم تتدخل موسكو في سورية لإنقاذ النظام، من دون حساباتٍ تتعلق بمصالح استراتيجية بعيدة المدى، ظهرت تفصيلاتها لاحقا من خلال جملة مكاسب حققتها روسيا، من دون أن تواجه تحدّيات جادّة أو عوائق ذات أثر، سواء من الغرب، أو من القوى الإقليمية. ويمكن إجمال ذلك في ثلاثة مكاسب أساسية.
أولاً، وجود عسكري ضخم ومؤثر، ففي خلال السنوات السبع الماضية، عادت روسيا بقوة إلى قاعدة طرطوس التي كانت بنتها عام 1971، وقامت بتوسيعها لتكون قادرة على استقبال السفن الحربية الكبيرة، وكي تصبح نقطة إمداد رئيسية، وميناء رئيسياً لقواتها البحرية في شرق البحر المتوسط. وفي الوقت ذاته، اقتطعت روسيا لنفسها قاعدةً جويةً في حميميم في منطقة اللاذقية شمال غربي سورية، وأبرمت مع النظام عقداً للوجود المجاني فيها خمسين عاماً، وقامت بتوسيعها لتستوعب المقاتلات الاستراتيجية.
ثانياً، توفير قدرات إضافية لروسيا في إطار علاقة معقدة مع تركيا، تتجسّد في تاريخ مضطرب، وفي تنافس جيوسياسي في مناطق البحر الأسود والقوقاز ووسط آسيا وليبيا وعضوية تركيا في حلف الناتو، وصولاً إلى أوكرانيا، وقد هيأ الوجود الروسي في سورية فرصة مثالية لموسكو بالوجود قرب الحدود التركية الجنوبية المضطربة، والحصول على عناصر ضغط جوهرية تمسّ مباشرة الأمن القومي التركي. ويمكن أن تتحكّم، إلى حد كبير، بوتيرة العلاقة مع أنقرة. وقد تبدّى، خلال السنوات الماضية، جهد روسي واضح، لمزاحمة تركيا على ملفات الشمال السوري، سواء المتعلقة منها بالفصائل المسلحة، أو التسويات الأمنية والسياسية، أو في صراع تركيا مع "وحدات حماية الشعب الكردية"، واستخدامها فزّاعةً دائمةً لتهديد أنقرة وابتزازها.
ثالثا، هيأ الوجود العسكري لروسيا أن تصبح لاعبا مهما في ملفات المنطقة، بعد أن تراجع دورها ثم اختفى تقريبا منذ الغزو السوفييتي أفغانستان مطلع ثمانينات القرن الماضي، ففي عام 2015 أصبحت روسيا جزءا من لجنة رباعية لتبادل المعلومات في مجال مكافحة الإرهاب، إلى جانب العراق وسورية وإيران، وذلك في غمرة سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على مناطق واسعة في سورية والعراق. وأصبحت روسيا مسؤولة عن المجال الجوي السوري، وباتت تتحكّم بقدرة إسرائيل على استخدامه في عملياتها ضد أهداف تابعة للحرس الثوري أو المليشيات التابعة لإيران في سورية. وفي الملف الخليجي، تطوّرت العلاقة مع بعض دولها، ولاسيما السعودية والإمارات، بشكل غير مسبوق، وتجسّد بتعاون اقتصادي وعسكري، وبتنسيق في الملفات الأمنية، وملف النفط، من خلال تحالف "أوبك بلس" بقيادة السعودية وروسيا، والذي ظهر خلال الحرب الأوكرانية أقوى مما كان متوقعاً، حيث تصرّ السعودية على احترام قراراته التي اتخذها في مواجهة ضغط أميركي لزيادة إنتاج النفط من أجل كبح أسعار الخام المتصاعدة، فضلاً عن أنّ السعودية لم تبدِ أيّ موقفٍ من الحرب في أوكرانيا، في تطور يعكس من جديد مدى خلافها مع الحليف الأميركي التقليدي. وانتهجت الإمارات الرؤية نفسها تقريباً، لكنّها كانت أكثر قرباً من روسيا، إذ امتنعت الامارات عن التصويت في مجلس الأمن، بوصفها عضواً غير دائم، على مشروع قرار أميركي ضد الغزو الروسي لأوكرانيا، إلى جانب الصين والهند، كما أن وزير خارجيتها عبدالله بن زايد اتصل بنظيره الروسي، لافروف، قبل ساعات من الغزو، ليؤكد"على "علاقات الصداقة والشراكة الاستراتيجية" حسب وكالة أنباء الإمارات، الرسمية. وبطبيعة الحال، لن يبتعد هذا التنسيق بين البلدين عن تطبيع الإمارات العلاقات مع النظام السوري المدعوم روسياً.
وقد فرض الوجود العسكري الروسي في سورية تحقيق جزء مهم من هذه المصالح الكبيرة والمهمة في المنطقة، لكنّ ذلك يبدو معرّضاً للتغيير أو التعزيز، حسب نتائج الحرب في أوكرانيا، وما يمكن أن تحققه روسيا أو تخسره في هذه المواجهة الكبيرة.
... وستكون لنتائج الحرب الحالية في أوكرانيا آثار محتملة بقوة على النفوذ الروسي في سورية والمنطقة بشكل عام، حتى وإن كان هذا التأثير غير فوري. وبحساب الأهداف المعلنة المرتفعة للغزو الروسي، والمواقف المقابلة المتشدّدة من الغرب ومجريات المعارك، هناك احتمالان للمواجهة الحالية، مع ضعف بارز لاحتمال ثالث للخروج بصيغة لا غالب ولا مغلوب. الأول، تحقيق روسيا تقدّماً في المعارك، يقود إلى نجاح عسكري واضح المعالم يحقق أهداف روسيا المعلنة، وأبرزها نزع سلاح أوكرانيا، ووقف سعيها إلى الانضمام للاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، وربما الأكثر من ذلك اعترافها باستقلال الجمهوريتين الانفصاليتين في الشرق وبضم موسكو شبه جزيرة القرم. وستؤدي هذه النتيجة، بشكل مباشر، إلى منح موسكو الثقة والرغبة لتعزيز مكاسبها واستثمارها في ملفات دولية مختلفة، ومنها وجودها في سورية. ومع احتمالات قوية باستمرار العقوبات الغربية المشدّدة وحملات عزل روسيا على المدى القريب، وحتى المتوسط، مهما كانت نتيجة المعارك، ربما ستصبح موسكو أكثر شراسة في استثمار وجودها في سورية، لمشاكسة المصالح الغربية في المنطقة، وربما حتى في شرق المتوسط، واستخدام ذلك ورقة ضغط، من بين أوراق متعدّدة لفك العزلة وإجبار أوروبا على إنهاء العقوبات. وسيكون ملفا الطاقة والإرهاب أبرز ما يمكن أن تستخدمه موسكو ضد الغرب ومصالحه، فضلا عن إجراءات أخرى تتعلق بمصالح تركيا وأمنها اعتماداً على موقف أنقرة في الأزمة.
الاحتمال الثاني، فشل روسيا في تحقيق أهدافها، فمجرد انتهاء الحرب من دون تحقيق أهداف روسيا، سيتسبب بتراجع خطير وجوهري للتأثير الروسي في العالم، وانهيار صورتها قوة كبرى، وخسارة الرئيس بوتين رهانه على هذه الحرب. وسيمثل سيناريو الهزيمة فشلاً مركباً لروسيا، تغذّيه العقوبات الاقتصادية والعزلة الدولية، وقد يعقبه تراجع الدول التي ظلت خارج نظام العقوبات، وأبرزها الصين والهند والبرازيل، وكذلك فشل الرئيس بوتين في تقديم نفسه زعيماً دولياً، وما أبداه من عدم مسؤولية في الإجراءات التي اتخذها، سواء في الغزو أو في تلويحه باستخدام السلاح النووي. ستتسبب الهزيمة بإهانة سمعة روسيا العسكرية وتقليل قيمة سلاحها، وكلّ هذ العوامل ستفرض ضغوطاً شديدة على موسكو لإيجاد منافذ يمكن أن تعيد بناء صورتها في العالم. وهنا أيضاً لن تتغير المقاربة الروسية مع الملف السوري، لأنّه من الملفات الأساسية والنادرة التي تسيطر عليها روسيا بقوة، ويمكن أن تنظر إليه فرصة متبقيةً، تقدم لها أملاً في البقاء ضمن دائرة النفوذ وترميم ما تحطم من قدراتها الدولية.
إذا كانت كلّ احتمالات الحرب في أوكرانيا ستقود إلى تشدّد روسيا في الاحتفاظ بالملف السوري، فذلك ليس هو المتغير الوحيد في العلاقة بين القضيتين، إذ يبرز التشدّد الغربي غير المسبوق بمواجهة روسيا ليمثل فرصة سانحة بقوة، لإعادة تشكيل القضية السورية دوليا، وتحويل الوجود الروسي من مصدر قوة للنظام إلى أبرز أسباب استهدافه غربيا بوصفه سببا لشرعنة وجود روسي مضرّ بالمصالح الغربية. وسيكون نجاح الحملة الروسية في أوكرانيا سببا مباشرا لمخاوف غربية جدّية، من أن تكون سورية قاعدة متقدّمة لإجراءات روسية عدائية، أمنية وعسكرية واقتصادية، مدفوعة بزخم تفوقها الأوكراني لتحقيق مكاسب استراتيجية أكبر، تجبر الغرب على رفع العقوبات والإقرار بالنفوذ الدولي لروسيا قوة عظمى. وفي حال الفشل، سيكون الغرب أكثر حماسة للتضيق على روسيا في الشرق الأوسط، منطلقا من مستقرّها السوري، بوصفه عنصر الجذب الأساس الذي وفر لها فرصة النفاذ لملفات المنطقة.
ومن المهم الإشارة هنا إلى أنّ إدراك الغرب أهمية تجريد روسيا من الورقة السورية كان مطروحاً من مدة، بمعزل عن الأزمة الأوكرانية. لكن، من خلال مقاربة التطبيع مع النظام السوري لتشجيعه على الابتعاد عن روسيا، غير أن مجريات الحرب ربما أقنعت الأوساط الغربية بأن النظام بات حالة ميؤوساً منها، وأنّه صار خاضعاً بالكامل للإرادة الروسية، ولا يمكن التعويل عليه مستقبلاً، وهو ما يجعل من إعادة تنظيم الجهد الغربي لدعم المعارضة السورية سياسياً احتمالاً ممكناً وواقعياً، بعد سحب هذا الملف من روسيا تماماً.
إقامة سلطة شرعية بديلة عن نظام بشار الأسد، ولو في المنفى، تمثل قوى المعارضة وتحصل على اعتراف غربي، سيمثل قوة دافعة كبيرة تحول الوجود الروسي إلى قوة احتلال، وتضعف النظام بشكل كبير. أما إذا أضيف إلى ذلك دعم فصائل سورية معينة بأسلحة نوعية، فإنّ روسيا ستواجه مأزقاً أكبر لها وللنظام. لكنّ مثل هذا السيناريو سيكون بحاجة الى جهد سوري حقيقي، لتسويق الفكرة غربياً، واستثمار الحشد الغربي الضخم ضد روسيا والحالة النفسية للرأي العام الدولي المعادي لغزو أوكرانيا، من أجل عرض القضية السورية، وفضح الضرر الجسيم الذي تسبّبت به روسيا للشعب السوري، وللثورة السورية. ويفرض هذا كله مسؤولية مباشرة على قوى المعارضة السورية، وهيئاتها ومجالسها وشخصياتها.
في حقيقة الأمر، توفر مجريات الحرب في أوكرانيا وتداعياتها المتوقعة فرصة سانحة للثورة السورية، كي تعيد ترتيب أوضاعها، وسيكون ذلك أول خطوةٍ على طريق نجاح طال انتظاره، ووفاءً مستحقا للملايين من الشهداء والمعتقلين والمهجّرين من أبناء الشعب السوري
-----------------
العربي الجديد