قندهار، قاسم مخيف جداً، يرفض أي كائن عاقل أو طبيعي أو عادي أن يقترب منها. ذكرها يثير الرعب ويضع المرء في دوامة الكوابيس، ويخشى أن يزورها ولو بالحلم، كي لا يضبط فرحاً أو منشدا او مغنيا أو متجولاً. أما النساء، فهن بلا شكل ولا وجه ولا قامة. أشباح ترتدي عتمة وتسير أو تدب على قدميها، كي تنجو من عقاب تفرضه عليها أنوثتها الموروثة. فالنظام، وفق تصور طالبان، لا يعترف بالجمال.
غير ان جنيف في منتصف القرن السادس عشر، لم تكن كذلك، وقندهار في الأزمنة العباسية لم تكن كذلك. كانت جنيف محكومة بالفتاوى الدينية الصارمة، التي حوّلتها إلى قندهار، فيما كانت قندهار، ممتلئة بالتجارة الدولية التي تعبر فيها من الهند إلى طنجة، كما كانت مسرحاً للشعر والإنسان والجمال، وانتجت ما لا عدّ له من الأعمال الإنسانية الكبرى.
II ـ قندهار الجمال
فائض الشعر والجمال والحرية أفصحت عنه شاعرات أفغانيات معاصرات (ترجمها اسكندر حبش)، اقتطف منها ما يثير الدهشة والرعشة والحياة:
«ليؤذِّنِ الشيخُ صلاتَه عند الفجر
لن أنهضَ ما دام حبيبي يريدني»
و
«أكلتَ فمي من دون
أن تشفي غليلك
أيها الأبله
إحملني على ظهرك
أنا مستعدة لأن أتبعك»
و
«يتباهى الآخرون بثياب العيد
الجديدة
أما أنا فأحتفظ
بالثوب الحامل رائحة عشيقي».
جنيف، كانت تشبه قندهار منذ أربعة قرون، فيما كانت قندهار وشقيقاتُها من مطارح أفغانستان، مشتهى ومقصدَ التواقين إلى الشعر والحب والحياة.
المناسبة التي استدعت هذه المقارنة المفاجئة، ترجمة كتاب للروائي النمساوي ستيفان زفايغ «ضمير ضد العنف»، ترجمه فارس يواكيم بعنوان: «عنف الدكتاتورية» عن «الفرات». وتفتح المناسبةُ بابَ التطلع والنظر والمقارنة، بين مدينتين، تم فيها استدعاء الله ليكون حاكماً.
III ـ إقتحام الألوهة قتل للحرية
في زمن عربي ومشرقي يصار فيه إلى الألوهة و«اليوتوبيا» الدينية في السياسة والثورة والأنظمة والدساتير والإعلام، بواسطة إمام أو قسيس أو فقيه أو ولي أو تنظيم أو مذهب أو «اخوان» أو «أهل سلف» أو «نهضة»، من المفيد أن نستطلع حالات مشابهة، تم فيها توظيف الدين في السياسة.
من يظن أن الكهنوت المسيحي سبب في القران الفاسق والماجن، بين الدين والدنيا، وبين الكنيسة والسلطة، مخطئ وعن سابق عمد وتصوّر. فالكهنوت كسلطة دينية، موجود في كل الديانات. وإذا كانت الكاثوليكية قد حظيت بلعنة الزواج بين الديني والمدني، فإن حركة الاصلاح «البروتستانتية» الرافضة لنهج الكنيسة الديني والسياسي، قد أقامت ديكتاتوريات أشد فتكاً، ومنها ديكتاتورية القسيس كالفن، مؤسس أول سلطة بروتستانتية في جنيف المدينة ودولتها.
القصة التي يرويها ستيفان زفايغ في كتابه، تبدأ بقدوم كالفن إلى جنيف هاربا من فرنسا ومن محاكم التفتيش فيها، والاضطهاد الذي كان يتعرض له «الاصلاحيون». استقبلته جنيف، بعدما قام «الرعاع» بحملات قمع ضد الكاثوليك واحتلال لكنائسهم وافراغ ما فيها من ايقونات ولوحات وزخارف، وتعريتها من أي جمال او رمز ديني، اذ اعتبرت كلها من خطايا عبادة «الأصنام». لم يتمكن «الرعاع» من إقامة سلطة. «الميليشيات» و«البلطجية» و«الشبيحة»، بحاجة إلى قائد روحي، فكان ان استدعي كالفن كي يتولى شؤون الرعية الجديدة المنتصرة. وبعد توليه كرسي كاتدرائية سان بيار في جنيف، «أمسك بزمام الأمور وأصبح الحاكم الأوحد محولا المجتمع الديموقراطي إلى ديكتاتورية».
و«بحرفية فائقة التنظيم نجح كالفن في تحويل مدينة بأسرها، بل دولة بكاملها، بمواطنيها الذين كانوا أحراراً، إلى آلة ضخمة طوع يديه، مهمتها ان تستأصل كل استقلالية، وان تصادر حرية التفكير لصالح عقيدته الوحيدة».
أصبحت «البروتستانتية» السلطة العليا في المدينة بقيادة كالفن، بعد اقتحام الكنائس وتطهيرها من الكاثوليك. (يحدث الآن في أكثر من مكان في المشرق هجوم أو تفخيخ لأماكن العبادة التي لا تنتمي لمذهب الأكثرية. العراق نموذجاً. الباكستان كذلك). عندما تولى كالفن السلطة، أصرّ على الطاعة العمياء للنص الذي كتبه واعتبره نصاً تأسيسياً للروح والسياسة معاً... لم يسمح بالحرية، أكان في العقيدة أم في الحياة العامة. «واجب الكنيسة البروتستانتية أن تلزم بالطاعة المطلقة غير المشروطة، بل وأن تعاقب بلا هوادة ذوي الحماسة الباردة». مع كالفن انتصرت حرفية نص الاصلاح على المضمون... «ثمة ارادة واحدة في جنيف تسود على الجميع». فأمر كالفن بأن يصار إلى خفض مجلس المدينة (هيئة ديموقراطية) إلى مستوى هيئة تنفذ أوامره ومقترحاته.
IV ـ كالفن والفسطاطان
في المقارنة بين كالفن والديكتاتوريين القدامى والمعاصرين، أوجه شبه كثيرة، أبرزها اعتبار الديموقراطية منصة للديكتاتورية. من مجالس السوفيات (الديموقراطية) إلى الدكتاتورية الستالينية، ومن انتخابات «الرايخ» إلى الانقلاب النازي، من ترؤس الاحزاب (القومية والماركسية تحديداً) والانقلاب عليها، أما الحركات الدينية، فدليلها قيد التداول في تونس ومصر وليبيا و... حمام الدم في سوريا.
سلك كالفن بطريقة الفسطاطين. الخير من جهة والشر من جهة. «الخطيئة والإنسان صنوان. يلزم تخليص الإنسان من بشريته بإزالة ما فيه من «قمامة»... الإنسان مخلوق فاسد، هو من مخلوقات الله العاقة والفاشلة. لذلك ينبغي أن يُحجر عليه. فلا حرية له، لأنه يسيء استعمالها دائماً».
هذا التصور الديني المشوه والدنيء للإنسان، قضى بأن تكون مهمة الاصلاح بين يديه وحده. لذلك، «طالب بالكل أو لا شيء، السلطة الكاملة أو الامتناع التام. لا يقبل حلا وسطاً»، ومن البداهة انه وحده يعلم وعلى الآخرين ان يتعلموا منه: «فما أعلمه أتاني من الله وهذا ما يؤكده لي ضميري... أعطاني النعمة لأعلن ما هو جيد وما هو سيئ». وقد تجرأ بعد هذا الادعاء الذي يقترب من ادعاء النبوة، بواسطة الروح القدس، ان يتجاسر على أفضل اللاهوتيين والعلماء والأدباء، وان يقول إنهم: «أفاعٍ تفح ضده، كلاب تنبح ضده، بهائم، أوغاد وأتباع الشيطان».
كيف تحوّلت مدينة جنيف تحت امرته بصفته الحاكم بأمر الله؟
V ـ محاكم تفتيش بروتستانتية
بخطوة واحدة تفوق كالفن على محاكم التفتيش الكاثوليكية. فالديكتاتورية صفة لازمة لكل فكر شمولي، ديني أو سياسي أو ايديولوجي أو اجتماعي، والأديان أخطرها. وبلغت ديكتاتورية كالفن، ان دشن نظام العسس والمخابرات، قبل الأنظمة الشيوعية والبعثية والفاشية والنازية والعسكريتارية. كان نظام العسس يفرض على أهل جنيف ان تبقى منازلهم مفتوحة ليصار إلى تفتيشها، من دون سابق إعلام أو إنذار. كان «العسس» (المخابرات) يسألون الناس: «هل حفظوا الصلوات؟ لماذا تخلفوا عن حضور خطبة كالفن؟» وكالضابطة الأخلاقية يدس العسس أنوفهم في كل أمر: «هل أثواب النساء مزركشة؟ هل هي طويلة أم قصيرة أم ذات تفصيلة خطيرة (يعني سكسي)؟ تتفحص الشعر ان كان مسرحاً أو معقوداً. تعد الخواتم في الأصابع والأحذية في الخزائن. هل تجاوزت الوجبة في المطبخ طبق الحساء الصغير وشرحة اللحم المسموح بها؟ هل أخفيت حلويات ما؟ هل هناك كتاب ممنوع؟» يفتش «العسس» الجوارير لعله يجد فيها صورة لقديس أو مسبحة مخبأة.
الشوارع بعد البيت مرصودة لعيون العسس: «هل يغني أحد ما؟ هل فيه ترفيه؟ من يشرب النبيذ ويلعب بالنرد أو الورق؟ (حرام + حرام)» وقاعة الكنيسة تخضع للتفتيش أيضا. كل مكان داخل المدينة أو على علاقة بها مشكوك فيه. وفي هذه الأجواء، «تزهر النبتة المقيتة: الوشاية الطوعية. كل مواطن مخبر. ويسود الخوف على الجميع».
المسارح ممنوعة، الأعياد الشعبية والرقص واللعب، حتى الرياضة ممنوعة. (بالأمس أقدمت حماس على منع اختلاط الجنسين بعد سن التاسعة... هل قندهار في غزة؟ لم لا!).
لقد حظر كالفن على الفتيات ارتداء الفساتين المخملية أو المطرزة ومنع الأزرار والأشرطة والبروشات الذهبية: «ممنوع استخدام الهوادج والعربات. ممنوع حضور الاحتفالات العائلية لأكثر من 20 شخصا. ممنوع لحوم الطيور والطرائد والمعجنات وشرب الأنخاب. ممنوع تبادل الهدايا»... ولم يعد مسموحاً للأهل ان يختاروا بحرية الأسماء الأولى لأطفالهم.
ويمكن إضافة عشرات الممنوعات، بحيث تكون كل بهجة في الحياة مقتولة. فما هو مسموح في جنيف كان: العيش والموت فقط.
يقول ستيفان زفايغ تعقيباً على هذه اللوحة السوداء التي رسمها كالفن: «يا له من إيقاع مرعب». بالفعل، كانت جنيف اكثر رعباً من قندهار.
أما نظام العقوبات، فقد تفوق على أي نمط من أنماط ارهاب العصابات او ارهاب الدولة. تعذيب، سجن، حرق، نفي، شنق، قطع رؤوس، قطع أيدٍ، كل الفتك مسموح به، كي تقوم المدينة الفاضلة، كي تتطهر المدينة من أنجاسها وتصير مقدسة، كي تطبق ارادة الله وشريعته بحذافيرها، ولو أدى ذلك إلى اعتبار كل قصاص نعمة إلهية.
هل نعتبر؟
أليس من الأفضل عزل كالفن الحديث، أكان عربياً أم شرقياً أم إسلامياً أم مسيحياً، قبل أن تتحول الأرض إلى جحيم؟
هو كلام في السياسة فقط. لا علاقة له بالدين، المنزّه عن كل مكروه، فيما يشبه كل كاره، لبني جنسه من البشر.
غير ان جنيف في منتصف القرن السادس عشر، لم تكن كذلك، وقندهار في الأزمنة العباسية لم تكن كذلك. كانت جنيف محكومة بالفتاوى الدينية الصارمة، التي حوّلتها إلى قندهار، فيما كانت قندهار، ممتلئة بالتجارة الدولية التي تعبر فيها من الهند إلى طنجة، كما كانت مسرحاً للشعر والإنسان والجمال، وانتجت ما لا عدّ له من الأعمال الإنسانية الكبرى.
II ـ قندهار الجمال
فائض الشعر والجمال والحرية أفصحت عنه شاعرات أفغانيات معاصرات (ترجمها اسكندر حبش)، اقتطف منها ما يثير الدهشة والرعشة والحياة:
«ليؤذِّنِ الشيخُ صلاتَه عند الفجر
لن أنهضَ ما دام حبيبي يريدني»
و
«أكلتَ فمي من دون
أن تشفي غليلك
أيها الأبله
إحملني على ظهرك
أنا مستعدة لأن أتبعك»
و
«يتباهى الآخرون بثياب العيد
الجديدة
أما أنا فأحتفظ
بالثوب الحامل رائحة عشيقي».
جنيف، كانت تشبه قندهار منذ أربعة قرون، فيما كانت قندهار وشقيقاتُها من مطارح أفغانستان، مشتهى ومقصدَ التواقين إلى الشعر والحب والحياة.
المناسبة التي استدعت هذه المقارنة المفاجئة، ترجمة كتاب للروائي النمساوي ستيفان زفايغ «ضمير ضد العنف»، ترجمه فارس يواكيم بعنوان: «عنف الدكتاتورية» عن «الفرات». وتفتح المناسبةُ بابَ التطلع والنظر والمقارنة، بين مدينتين، تم فيها استدعاء الله ليكون حاكماً.
III ـ إقتحام الألوهة قتل للحرية
في زمن عربي ومشرقي يصار فيه إلى الألوهة و«اليوتوبيا» الدينية في السياسة والثورة والأنظمة والدساتير والإعلام، بواسطة إمام أو قسيس أو فقيه أو ولي أو تنظيم أو مذهب أو «اخوان» أو «أهل سلف» أو «نهضة»، من المفيد أن نستطلع حالات مشابهة، تم فيها توظيف الدين في السياسة.
من يظن أن الكهنوت المسيحي سبب في القران الفاسق والماجن، بين الدين والدنيا، وبين الكنيسة والسلطة، مخطئ وعن سابق عمد وتصوّر. فالكهنوت كسلطة دينية، موجود في كل الديانات. وإذا كانت الكاثوليكية قد حظيت بلعنة الزواج بين الديني والمدني، فإن حركة الاصلاح «البروتستانتية» الرافضة لنهج الكنيسة الديني والسياسي، قد أقامت ديكتاتوريات أشد فتكاً، ومنها ديكتاتورية القسيس كالفن، مؤسس أول سلطة بروتستانتية في جنيف المدينة ودولتها.
القصة التي يرويها ستيفان زفايغ في كتابه، تبدأ بقدوم كالفن إلى جنيف هاربا من فرنسا ومن محاكم التفتيش فيها، والاضطهاد الذي كان يتعرض له «الاصلاحيون». استقبلته جنيف، بعدما قام «الرعاع» بحملات قمع ضد الكاثوليك واحتلال لكنائسهم وافراغ ما فيها من ايقونات ولوحات وزخارف، وتعريتها من أي جمال او رمز ديني، اذ اعتبرت كلها من خطايا عبادة «الأصنام». لم يتمكن «الرعاع» من إقامة سلطة. «الميليشيات» و«البلطجية» و«الشبيحة»، بحاجة إلى قائد روحي، فكان ان استدعي كالفن كي يتولى شؤون الرعية الجديدة المنتصرة. وبعد توليه كرسي كاتدرائية سان بيار في جنيف، «أمسك بزمام الأمور وأصبح الحاكم الأوحد محولا المجتمع الديموقراطي إلى ديكتاتورية».
و«بحرفية فائقة التنظيم نجح كالفن في تحويل مدينة بأسرها، بل دولة بكاملها، بمواطنيها الذين كانوا أحراراً، إلى آلة ضخمة طوع يديه، مهمتها ان تستأصل كل استقلالية، وان تصادر حرية التفكير لصالح عقيدته الوحيدة».
أصبحت «البروتستانتية» السلطة العليا في المدينة بقيادة كالفن، بعد اقتحام الكنائس وتطهيرها من الكاثوليك. (يحدث الآن في أكثر من مكان في المشرق هجوم أو تفخيخ لأماكن العبادة التي لا تنتمي لمذهب الأكثرية. العراق نموذجاً. الباكستان كذلك). عندما تولى كالفن السلطة، أصرّ على الطاعة العمياء للنص الذي كتبه واعتبره نصاً تأسيسياً للروح والسياسة معاً... لم يسمح بالحرية، أكان في العقيدة أم في الحياة العامة. «واجب الكنيسة البروتستانتية أن تلزم بالطاعة المطلقة غير المشروطة، بل وأن تعاقب بلا هوادة ذوي الحماسة الباردة». مع كالفن انتصرت حرفية نص الاصلاح على المضمون... «ثمة ارادة واحدة في جنيف تسود على الجميع». فأمر كالفن بأن يصار إلى خفض مجلس المدينة (هيئة ديموقراطية) إلى مستوى هيئة تنفذ أوامره ومقترحاته.
IV ـ كالفن والفسطاطان
في المقارنة بين كالفن والديكتاتوريين القدامى والمعاصرين، أوجه شبه كثيرة، أبرزها اعتبار الديموقراطية منصة للديكتاتورية. من مجالس السوفيات (الديموقراطية) إلى الدكتاتورية الستالينية، ومن انتخابات «الرايخ» إلى الانقلاب النازي، من ترؤس الاحزاب (القومية والماركسية تحديداً) والانقلاب عليها، أما الحركات الدينية، فدليلها قيد التداول في تونس ومصر وليبيا و... حمام الدم في سوريا.
سلك كالفن بطريقة الفسطاطين. الخير من جهة والشر من جهة. «الخطيئة والإنسان صنوان. يلزم تخليص الإنسان من بشريته بإزالة ما فيه من «قمامة»... الإنسان مخلوق فاسد، هو من مخلوقات الله العاقة والفاشلة. لذلك ينبغي أن يُحجر عليه. فلا حرية له، لأنه يسيء استعمالها دائماً».
هذا التصور الديني المشوه والدنيء للإنسان، قضى بأن تكون مهمة الاصلاح بين يديه وحده. لذلك، «طالب بالكل أو لا شيء، السلطة الكاملة أو الامتناع التام. لا يقبل حلا وسطاً»، ومن البداهة انه وحده يعلم وعلى الآخرين ان يتعلموا منه: «فما أعلمه أتاني من الله وهذا ما يؤكده لي ضميري... أعطاني النعمة لأعلن ما هو جيد وما هو سيئ». وقد تجرأ بعد هذا الادعاء الذي يقترب من ادعاء النبوة، بواسطة الروح القدس، ان يتجاسر على أفضل اللاهوتيين والعلماء والأدباء، وان يقول إنهم: «أفاعٍ تفح ضده، كلاب تنبح ضده، بهائم، أوغاد وأتباع الشيطان».
كيف تحوّلت مدينة جنيف تحت امرته بصفته الحاكم بأمر الله؟
V ـ محاكم تفتيش بروتستانتية
بخطوة واحدة تفوق كالفن على محاكم التفتيش الكاثوليكية. فالديكتاتورية صفة لازمة لكل فكر شمولي، ديني أو سياسي أو ايديولوجي أو اجتماعي، والأديان أخطرها. وبلغت ديكتاتورية كالفن، ان دشن نظام العسس والمخابرات، قبل الأنظمة الشيوعية والبعثية والفاشية والنازية والعسكريتارية. كان نظام العسس يفرض على أهل جنيف ان تبقى منازلهم مفتوحة ليصار إلى تفتيشها، من دون سابق إعلام أو إنذار. كان «العسس» (المخابرات) يسألون الناس: «هل حفظوا الصلوات؟ لماذا تخلفوا عن حضور خطبة كالفن؟» وكالضابطة الأخلاقية يدس العسس أنوفهم في كل أمر: «هل أثواب النساء مزركشة؟ هل هي طويلة أم قصيرة أم ذات تفصيلة خطيرة (يعني سكسي)؟ تتفحص الشعر ان كان مسرحاً أو معقوداً. تعد الخواتم في الأصابع والأحذية في الخزائن. هل تجاوزت الوجبة في المطبخ طبق الحساء الصغير وشرحة اللحم المسموح بها؟ هل أخفيت حلويات ما؟ هل هناك كتاب ممنوع؟» يفتش «العسس» الجوارير لعله يجد فيها صورة لقديس أو مسبحة مخبأة.
الشوارع بعد البيت مرصودة لعيون العسس: «هل يغني أحد ما؟ هل فيه ترفيه؟ من يشرب النبيذ ويلعب بالنرد أو الورق؟ (حرام + حرام)» وقاعة الكنيسة تخضع للتفتيش أيضا. كل مكان داخل المدينة أو على علاقة بها مشكوك فيه. وفي هذه الأجواء، «تزهر النبتة المقيتة: الوشاية الطوعية. كل مواطن مخبر. ويسود الخوف على الجميع».
المسارح ممنوعة، الأعياد الشعبية والرقص واللعب، حتى الرياضة ممنوعة. (بالأمس أقدمت حماس على منع اختلاط الجنسين بعد سن التاسعة... هل قندهار في غزة؟ لم لا!).
لقد حظر كالفن على الفتيات ارتداء الفساتين المخملية أو المطرزة ومنع الأزرار والأشرطة والبروشات الذهبية: «ممنوع استخدام الهوادج والعربات. ممنوع حضور الاحتفالات العائلية لأكثر من 20 شخصا. ممنوع لحوم الطيور والطرائد والمعجنات وشرب الأنخاب. ممنوع تبادل الهدايا»... ولم يعد مسموحاً للأهل ان يختاروا بحرية الأسماء الأولى لأطفالهم.
ويمكن إضافة عشرات الممنوعات، بحيث تكون كل بهجة في الحياة مقتولة. فما هو مسموح في جنيف كان: العيش والموت فقط.
يقول ستيفان زفايغ تعقيباً على هذه اللوحة السوداء التي رسمها كالفن: «يا له من إيقاع مرعب». بالفعل، كانت جنيف اكثر رعباً من قندهار.
أما نظام العقوبات، فقد تفوق على أي نمط من أنماط ارهاب العصابات او ارهاب الدولة. تعذيب، سجن، حرق، نفي، شنق، قطع رؤوس، قطع أيدٍ، كل الفتك مسموح به، كي تقوم المدينة الفاضلة، كي تتطهر المدينة من أنجاسها وتصير مقدسة، كي تطبق ارادة الله وشريعته بحذافيرها، ولو أدى ذلك إلى اعتبار كل قصاص نعمة إلهية.
هل نعتبر؟
أليس من الأفضل عزل كالفن الحديث، أكان عربياً أم شرقياً أم إسلامياً أم مسيحياً، قبل أن تتحول الأرض إلى جحيم؟
هو كلام في السياسة فقط. لا علاقة له بالدين، المنزّه عن كل مكروه، فيما يشبه كل كاره، لبني جنسه من البشر.