والحقّ أنّ التعبير عن العنصريّة لدى بعض اللبنانيّين، حيال السوريّين والفلسطينيّين، كما حيال العمالة الأجنبيّة، لا ينفصل عن تردٍّ إجماليّ يصيب لبنان، ويصيب معنى اللبنانيّة على نحو تصاعديّ يبدأ بـ1975.
في الحدّ الأدنى والأبسط الذي لا يقتصر على اللبنانيّين في هذا العالم العربيّ الأوسع، يكفي أن نتذكّر ذاك التحسّر الشعبيّ العريض لعدم امتلاك جواز سفر أجنبيّ، أو تلك الرغبة الواسعة غير المكتومة بالسفر إلى الخارج والاستقرار فيه. وهذا وذاك أشكال من الإقرار بانخفاض سعر اللبنانيّة، وما يماثلها من وطنيّات مأزومة، في أسواق التداول الوطنيّ.
وفي لبنان يبدو السقوط أقوى لأنّ منصّة التباهي كانت دائماً أعلى. ذاك أنّه منذ أن انهارت الصورة الفولكلوريّة القديمة عن لبنان الذي هو «قطعة سما»، والذي «هنيئاً لمن يكون له مرقد عنزة فيه»، لم تنشأ صورة بديلة تكون على شيء من المطابقة لواقع الحال. وفي هذه الغضون، جُرّب تمريغ الجباه على نطاق واسع حيال «الأغراب» الأقوياء. وقد امتدّ التمريغ من المسلّح الفلسطينيّ في السبعينات إلى الجنديّ الإسرائيليّ في الثمانينات، مع تركّز وديمومة ملحوظين للجنديّ السوريّ.
في الآن نفسه كان للحروب المتّصلة أن كسرت الواحديّة اللبنانيّة المزعومة، لا تنافساً ضارياً بين الطوائف فحسب، بل أيضاً خضوعاً ذليلاً للمسلّحين ورجال الميليشيات من أبناء جلدتنا. لقد خرّجت «حضارتنا» قدرة على القسوة والجريمة يشتهي المرء ألاّ يكتشفها في نفسه.
وما إن انتهت الحرب نهايتها الرسميّة في 1989 – 1990، مع اتّفاق الطائف، حتّى وجدنا أنفسنا نحسد النماذج الاقتصاديّة والماليّة التي كانت تصعد في جوارنا، لا سيّما في الخليج. فلم يتبقّ لنا من «سويسرا الشرق» إلاّ ما تبقّى من «رسالة التعايش بين الأديان والطوائف».
وتحت هذه الأحداث الكبرى، وفي موازاتها، كان يتراجع كلّ شيء: من تمثيلنا البرلمانيّ إلى تعليمنا، ومن مدننا وعمرانها إلى صحافتنا ومشافينا، أي كلّ ما دار التباهي اللبنانيّ حوله عقداً بعد عقد. أمّا الفقر فراح، في هذه الغضون، يمتدّ ويتوسّع، بعدما امتلك لبنان حتّى 1975 أعرض طبقة وسطى في منطقة الشرق الأوسط.
وهذا واقع ليس من السهل الإقرار به، ناهيك عن التعامل الصحّيّ معه. فهو انكسار عميق في صورة الذات عن ذاتها، انكسارٌ يخفّف منه، ولو توهّماً، تحميل الآخرين المسؤوليّة. ألم تكن حروبنا نفسها، في نظر الوعي هذا، «حروب الآخرين على أرضنا»، علماً بأنّ «الآخرين» المسلّحين كانت لهم مسؤوليّاتهم التي لا تُنكر؟.
صحيح أنّ لبنان ما قبل حروبه لم يكن جنّة، لكنّه كان مشرعاً على احتمالات أغنى من التي تُركت له بسبب الحروب المذكورة. فالعنصريّة، وكانت فيه دائماً عنصريّة مثله مثل جميع البلدان، كانت مرشّحة لأن تنكمش وتتراجع فيما يتقدّم وعي أكثر كونيّة وعصريّة وتفاؤلاً. إلاّ أنّ كسر الدولة بالعنف، ابتداء بـ 1975، هو ما أسّس لكلّ كسر آخر، وهو ما مهّد لكلّ انحطاط من الأنواع التي نراها اليوم في مواجهة مدنيّين سوريّين وفلسطينيّين وعمّال أجانب.
وفي المعنى هذا تبدو استعادة الدولة، وهي المهمّة التي تتقهقر اليوم إلى سويّة الأوهام المحضة، المقدّمة والشرط للمدنيّة التي هي المناعة الأكفأ في مواجهة العنصريّة.
وفي لبنان يبدو السقوط أقوى لأنّ منصّة التباهي كانت دائماً أعلى. ذاك أنّه منذ أن انهارت الصورة الفولكلوريّة القديمة عن لبنان الذي هو «قطعة سما»، والذي «هنيئاً لمن يكون له مرقد عنزة فيه»، لم تنشأ صورة بديلة تكون على شيء من المطابقة لواقع الحال. وفي هذه الغضون، جُرّب تمريغ الجباه على نطاق واسع حيال «الأغراب» الأقوياء. وقد امتدّ التمريغ من المسلّح الفلسطينيّ في السبعينات إلى الجنديّ الإسرائيليّ في الثمانينات، مع تركّز وديمومة ملحوظين للجنديّ السوريّ.
في الآن نفسه كان للحروب المتّصلة أن كسرت الواحديّة اللبنانيّة المزعومة، لا تنافساً ضارياً بين الطوائف فحسب، بل أيضاً خضوعاً ذليلاً للمسلّحين ورجال الميليشيات من أبناء جلدتنا. لقد خرّجت «حضارتنا» قدرة على القسوة والجريمة يشتهي المرء ألاّ يكتشفها في نفسه.
وما إن انتهت الحرب نهايتها الرسميّة في 1989 – 1990، مع اتّفاق الطائف، حتّى وجدنا أنفسنا نحسد النماذج الاقتصاديّة والماليّة التي كانت تصعد في جوارنا، لا سيّما في الخليج. فلم يتبقّ لنا من «سويسرا الشرق» إلاّ ما تبقّى من «رسالة التعايش بين الأديان والطوائف».
وتحت هذه الأحداث الكبرى، وفي موازاتها، كان يتراجع كلّ شيء: من تمثيلنا البرلمانيّ إلى تعليمنا، ومن مدننا وعمرانها إلى صحافتنا ومشافينا، أي كلّ ما دار التباهي اللبنانيّ حوله عقداً بعد عقد. أمّا الفقر فراح، في هذه الغضون، يمتدّ ويتوسّع، بعدما امتلك لبنان حتّى 1975 أعرض طبقة وسطى في منطقة الشرق الأوسط.
وهذا واقع ليس من السهل الإقرار به، ناهيك عن التعامل الصحّيّ معه. فهو انكسار عميق في صورة الذات عن ذاتها، انكسارٌ يخفّف منه، ولو توهّماً، تحميل الآخرين المسؤوليّة. ألم تكن حروبنا نفسها، في نظر الوعي هذا، «حروب الآخرين على أرضنا»، علماً بأنّ «الآخرين» المسلّحين كانت لهم مسؤوليّاتهم التي لا تُنكر؟.
صحيح أنّ لبنان ما قبل حروبه لم يكن جنّة، لكنّه كان مشرعاً على احتمالات أغنى من التي تُركت له بسبب الحروب المذكورة. فالعنصريّة، وكانت فيه دائماً عنصريّة مثله مثل جميع البلدان، كانت مرشّحة لأن تنكمش وتتراجع فيما يتقدّم وعي أكثر كونيّة وعصريّة وتفاؤلاً. إلاّ أنّ كسر الدولة بالعنف، ابتداء بـ 1975، هو ما أسّس لكلّ كسر آخر، وهو ما مهّد لكلّ انحطاط من الأنواع التي نراها اليوم في مواجهة مدنيّين سوريّين وفلسطينيّين وعمّال أجانب.
وفي المعنى هذا تبدو استعادة الدولة، وهي المهمّة التي تتقهقر اليوم إلى سويّة الأوهام المحضة، المقدّمة والشرط للمدنيّة التي هي المناعة الأكفأ في مواجهة العنصريّة.