لكن، أياً كان قائل هذه الحقيقة فهي ستبقى ناقصةً، بل ومراوغة، ما لم تقترن بالتأكيد دوماً على أن النظام الأسدي هو العلّة الأولى وراء ما لحق بالبلاد من ويلات. فإنّ سوريا لم تكن لتبلغ ما بلغته اليوم من دمار وانحطاط، لولا تعنّت النظام وإجرامه وكيفية تعامله مع الثورة الشعبية منذ مظاهراتها السلمية الأولى، وما كان لها أن تُمزّق إلى مناطق نفوذ لدول وميليشيات، على النحو الذي آلت إليه، لو لم يفتح الأسدُ البلادَ على مصراعيها لداعميه القادمين من إيران والعراق ولبنان وروسيا وغيرها، قبل أن يقدّمها لهم ولمرتزقتهم ثمناً لحمايته من السقوط، ومكافأةً على دورهم في الإجهاز على الثورة.
في الوقت نفسه، ينبغي التذكير أيضاً بأن المعارضة السورية التي ما زالت تتصدّر المشهد وتزعم تمثيل الثورة سياسياً (أي “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة” بمكوناته كافّة)، تتحمل قسطاً غير قليل من المسؤولية عن هذا المآل. فقد كان من سقطاتها الكبرى أنّها سارعت إلى تعليق آمال وأوهام عريضة على تدخّل خارجيّ متخيّل، يقوم بإنجاز مهمّة إسقاط النظام، سواء كان تدخّلاً أميركياً وفق النموذج العراقي، أو “أطلسياً” يحاكي ما جرى في ليبيا خلال الأشهر الأولى من “الربيع العربي”، بدلاً من الحرص على العامل الثوري، أي السوري الداخلي، وتعزيزه ودعم صموده للبناء عليه.
ونتيجة ارتهانها لهذه الجهة أو تلك، وعملها بدلالة مصالح الداعمين لا مصلحة الثورة، انتهى بها الحال ألعوبةً في أيدي سفارات الدول الراعية ومخابراتها. وبالتالي، ليست مواصلة إلقاء كامل اللوم على القوى الإقليمية والدولية وتحميلها وزر الفشل إلّا شكلاً من أشكال تهرّب المعارضة من مسؤولياتها، فالقضية قضيتها أولاً كما يُفترض، وهي لم تفلح في توظيف تناقضات الدول وتباين مصالحها لتكون نقطة قوة في صالح الثورة لا العكس. ولا حاجة بنا للتذكير بخياراتها الكارثية في التغطية على الجهاديين والدفاع عنهم وعدّهم “جزءاً من الثورة”، على أرضيّة من العمى الأيديولوجي والخبل السياسي، بما قدّمه ذلك من خدمات جليلة للنظام.
أياً تكن الحال، من المؤكّد أن أحداً ممن استثمروا في المقتلة السورية، كباراً وصغاراً، لا يريد الخروج منها خالي الوفاض. وفي ظل عدم إمكانية إلغاء أحدهم للآخر، نظراً للتوازنات التي تحكم صراعاتهم وتشعّبها في ملفّات عدّة ليست سوريا (على تفاوت أهمّيتها بالنسبة لكلٍّ منهم) إلا واحداً من تلك الملفّات التي يؤثّر ويتأثّر بعضها ببعضها الآخر، فإنّ حفاظ كلّ منهم على “المكاسب” التي حققها مباشرةً أو عبر أدواته في الداخل السوري يتطلّب اعترافاً متبادلاً بالمصالح لا يبدو سهلَ التحقّق، وهذا من العوامل الحاسمة في تعطيل إمكانية التفاهم على إنهاء هذه الكارثة. أما حرصهم المزعوم على “وحدة وسلامة سوريا وشعبها” فهو غطاء زائف، ولفرط استهلاكه ما عاد ينفع في ستر مقامراتهم القذرة بهذه البلاد وناسها.
كل هذا والعصابة الحاكمة تواصل توظيف ما تبقّى من سلطتها من أجل التفنّن في إفقار السوريين ونهبهم وإذلالهم، وفوق هذا تحصي عليهم أنفاسهم وتمنع عنهم حتى الأنين والشكوى. لا عجب في ذلك، فمن سمات أنظمة الاستبداد أنّ “الأمن مستتبّ حتى الربع ساعة الأخيرة”، وقبل أيام ذكرت صحيفة “الوطن” المقرّبة للنظام، أنّ “مجلس الشعب” الأسدي ناقش مشروع تعديل ما يُسمّى “قانون مكافحة الجريمة الإلكترونية” الذي يطال “جرائم النشر” حتى على وسائل التواصل الاجتماعي. هكذا ستُفرض عقوبات أشدّ قد تصل إلى السجن لسنوات، وغرامات مالية بملايين الليرات، وسيمكن للنائب العام تحريك الدعوى العامة في جرائم “النيل من هيبة الدولة” أو من “هيبة الموظف” والجرائم التي تقع على الموظف المنصوص عنها في هذا القانون وإن لم يقدّم المتضرر شكوى أو ادعاءً شخصياً، ما يعني مزيداً من القمع وتكميم الأفواه، وهذه المرّة بقوّة “القانون” ومن خلال القضاء، لا بسطوة أجهزة الأمن والمخابرات فقط.
قلنا غير مرّة أنّ حال سوريا أشبه ما يكون بالدولة العثمانية في سنواتها الأخيرة، حين وُصِفت بـ”الرجل المريض” الذي كانت القوى الإقليمية والدولية تتكالب على تقاسم تركته. والبروفسور الإنكليزي مالكوم ياب، صاحب الخبرة العميقة في تاريخ المنطقة، أجاد في وصف تلك المرحلة بتكثيف بليغ، بالقول إنّ سلامة وحدة الدولة العثمانية كانت “أشبه بمصرف يمكن للدول الكبرى أن تسحب منه ما تشاء لإحداث توازن في هيبتها”، وذلك في كتابه “نشوء الشرق الأدنى الحديث 1792-1923″ (صدر بترجمة خالد الجبيلي، عن دار الأهالي، دمشق، 1998). وليس من الصعب تبيّن كيف أنّ سوريا في احتضارها المزمن، أصبحت حلبةً لاستعراض الهيبة وتبادل اللّكمات والرسائل، فيما بين الأميركيين والإيرانيين والإسرائيليين والروس والأتراك، فيما الجسد المحتضر آخذ في التعفّن.
-------------
الاتحاد ميديا