ذلك دفن للرؤوس في الرمال، غنيّ عن القول، من جانب أوّل؛ لأنّ حظر الاستخدامات السياسية أو المعرفية أو التاريخية أو الثقافية للمفاهيم، لا يجتث تجذّرها في الرؤوس، أو يشذّب مدلولاتها. وهو، من جانب آخر، بمثابة استقالة طوعية عن واجب السجال المفيد حول تلك المفاهيم، وترك الساحة خالية أمام الغلاة المتشددين، أنفسهم، كي يبتسروا المفاهيم على هواهم، دون رادع أو منازع. ومن السخف تحريم توصيف ‘منطقة الساحل’ هكذا، في إطار ما يمكن أن تدلّ عليه التسمية سياسياً وطائفياً على وجه التحديد، في موازاة تحليل توصيفات مثل ‘منطقة جبل العرب’ أو ‘منطقة الجزيرة’، إذا كان السجال يتحرى النقاش حول مواقف وأوضاع الطائفة الدرزية أو الأغلبية الكردية.
المرء، إذاً ـ بسبب المقدار الهائل من سوء الفهم الذي يكتنف هذا النقاش، عادة وتلقائياً، سواء عن حسن نيّة أو عن سوء طوية ـ يجد حكمة دائمة في إعادة تثبيت سلسلة من المبادىء الناظمة التي قد تصلح ركائز، سياسية ومعرفية وأخلاقية أيضاً، لأيّ نقاش صحيّ وبنّاء بالمعنى الوطني، ورصين في الحدود المعرفية العليا الممكنة، حول علاقة الطائفة العلوية بالنظام، وحالها اليوم في الطور الراهن من الانتفاضة. ولعلّ خير بدء هو التذكير بأنّ اللاذقية (المدينة، كما تجب الإشارة؛ على اختلاف طوائف ساكنيها، كما أرجح شخصياً) كانت المدينة السورية الثانية التي انضمت إلى الانتفاضة، بعد درعا مباشرة؛ وعمّدت انضمامها، ذاك، بدماء الشهداء، وباتضاح انتقال النظام إلى خطّ دفاع تكتيكي جديد لوّح، بعد الانهيار السريع لسيناريو ‘المندسّين’، بـ’مخطط فتنة طائفية’. المجتمع السوري، اللاذقيّ، في شرائحه المتديّنة خاصة، قدّم ردّاً سريعاً، قاطعاً وبليغاً: مسجد بساتين الريحان، الذي يستقبل المصلّين السنّة غالباً، أمّ الصلاة فيه إمام من الطائفة العلوية؛ ومسجد الحسن العسكري، وأغلبية مصلّيه من أبناء الطائفة العلوية، استقبل إمام المسجد السنّي ليؤمّ الصلاة.
مبدأ ثانٍ، هو علاقة الطائفة العلوية بالمعارضة المختلفة، أي بالعمل السياسي خارج التكوينَين التقليديين لحزب البعث والحزب السوري القومي الاجتماعي، واللذَين هيمنا عموماً على الانتماءات العقائدية في منطقة الساحل. وفي حوليات التاريخ المعاصر، على امتداد العقود الأربعة من نظام ‘الحركة التصحيحية’، بين الأسد الأب والأسد الوريث، ثمة حقيقة ذات مغزى وطني كبير، ظلّت تترسخ سنة بعد أخرى، وتتأكد أكثر فأكثر كلما نفّذت السلطة حملة اعتقالات جديدة: أنّ المعارضين من بنات وأبناء الطائفة العلوية لم يكونوا في صدارة معتقلي، وشهداء، مختلف التيارات اليسارية والقومية التي طوّرت الحراك الديمقراطي السوري، فحسب؛ بل كانت السلطة توفّر لهم عقاباً إضافياً، أو مضاعفاً أحياناً، جرّاء خيار سياسي ظلت تعتبره ‘خيانة’… عظمى، أحياناً! وليس استمرار اعتقال عبد العزيز الخيّر، الناشط البارز وعضو قيادة ‘هيئة التنسيق’، سوى الواقعة الأحدث في سجلّ النظام (لا تنفك، بقدر ما تستكمل، إنزال عقاب خاصّ إضافي بالخيّر، نفسه، في فترة الاعتقال الأولى 1992 ـ 2005، أي بعد انقضاء أربع سنوات على إطلاق سراح آخر رفاقه).
مبدأ ثالث، استولدته شروط انطلاق وتطوّر الانتفاضة، وأعطى شعار ‘الجيش والشعب يد واحدة’؛ كان ذاك الذي نجم عن إدراك المواطنين مغزى التحفظ الذي أبداه بعض الضباط والأفراد في تنفيذ أوامر لاوطنية، على رأسها استخدام الذخيرة الحية في تفريق التظاهرات السلمية، أو لجوء بعضهم إلى الخيار الأقصى في رفض تنفيذ مثل تلك الأوامر، بما ينطوي عليه ذلك من عاقبة الإعدام في الميدان. ولم يكن ذاك سرّاً، ولا أمنية فقط، لأنّ الزمن تكفل بإماطة اللثام عن حقيقة أنّ العديد من هؤلاء الذين أُعدموا كانوا من أبناء الطائفة العلوية، التي لم تكن في أيّ يوم أقلّ وطنية، أو تطلعاً إلى الحرية والكرامة والديمقراطية، من أبناء جميع الطوائف والمذاهب والأديان والإثنيات في سورية. ورغم أنّ أجهزة النظام حرص على تصنيف أولئك الشهداء في خانة ضحايا ‘العصابات المندسة’، فإنّ الحقائق الميدانية لاستشهادهم إعداماً في الميدان سرعان ما تكشفت، وأعطت مؤشراً مبكراً على أنّ الكثير من أبناء الطائفة يرفضون الذهاب إلى المحرقة الوطنية التي يسعى النظام إلى دفعهم إليها.
الكثير، ولكن ليس السواد الأعظم في واقع ما تراكم بعدئذ من حال، داخل شرائح متزايدة من أبناء الطائفة العلوية، في القرى والبلدات والمدن، وفي صفوف الفئات الفقيرة والوسطى، وليس في أوساط المتطوعين في الجيش ومختلف الأجهزة الأمنية ومجموعات ‘الشبيحة’ والميليشيات البعثية واللجان الشعبية وكتائب الدفاع الوطني، وما إليها من تشكيلات مسلحة. وهذا مبدأ رابع لا يكون استبعاده، عن أيّ نقاش جدّي حول علاقة الطائفة العلوية بالنظام وبالانتفاضة، إلا محاولة إرادية جديدة لدفن الرؤوس في الرمال؛ تتغاضى عن حقيقة نجاح النظام، وعلى نحو اضطرد وتزايد واستفحل، في تسويق سردية الخوف من زحف المتشددين السنّة على القرى العلوية، والسردية الأخرى المكمّلة التي تقول إنّ منجاة الطائفة العلوية لا تنفصل البتة عن منجاة النظام.
الخطأ الفادح، في نقاش هذا المبدأ الرابع تحديداً، اتخذ سمة تعميم مطلق، يرى في الطائفة العلوية كتلة إسمنتية صماء متجانسة، ذات ولاء واحد وحيد، ومرجعية سياسية وعسكرية وأمنية هي نظام ‘الحركة التصحيحية’، وشخص بشار الأسد، خليفة أبيه المرجع الأوّل حافظ الأسد. وهذا تأويل جامد أخرق، يتعامى عن وجود مجتمع وطبقات وفئات ومصالح وتناقضات داخل الطائفة، أسوة بسواها من الطوائف؛ ولا يرى أنّ الضيعة الواحدة يمكن أن تحوي فقراء يسكنون بيوتاً ما تزال سقوفها من طين، تتجاور مع قصور خرافية التصميم فاحشة الفخامة، شيّدها كبار الضباط. وثمة معارضون للنظام، سبق لهم أن قضوا في السجون عقوداً، إلى جانب أولئك الذين يخدمون النظام من منطلقات شتى، بينها الفساد والولاء الأعمى والانحياز الطائفي، وكذلك تأمين لقمة العيش البسيط؛ تماماً كحال الآلاف في كلّ أرجاء سورية، من كلّ الطوائف، في المؤسسة العسكرية أو الأمنية، أو في مختلف قطاعات الدولة.
والأساس، في التوقف عند مبدأ خامس، أنّ مركّب النظام الثلاثي، الأمني والعسكري والاقتصادي، ليس طائفي الهوية على أيّ نحو اجتماعي أو سياسي، وبالتالي فهو ليس علوياً أو سنّياً او درزياً، وليس مسلماً أو مسيحياً، وليس عربياً أو كردياً أو تركمانياً؛ أياً كانت نسبة الحضور الطوائفي أو الإثني في صفوفه، وبصرف النظر عن الغلبة العددية لهذه الطائفة أو تلك الإثنية. خطأ فادح، بدوره، ذلك الميل إلى أي ‘فرز′ طائفي لوحدات الجيش السوري، بحيث يسهل التفكير بأنّ كتائب ‘الحرس الجمهوري’ سوف تُجهز على الإنتفاضة الشعبية بسبب غلبة أبناء الطائفة العلوية في صفوفها، أو أنّ بعض ضباط الفرقة الرابعة سوف يفعلون العكس للسبب العكس؛ وذلك، هنا أيضاً، بصرف النظر عن النِسَب العددية لأبناء الطائفة العلوية في هذه التشكيلات. ورغم أنّ المؤسسة العسكرية، في الأنظمة الاستبدادية بصفة خاصة، تنضوي غالباً في صفّ الحاكم والنظام، ضدّ المواطن والدولة المدنية؛ فإنّ القراءة الطائفية لهذه الفرضية السوسيولوجية ليست اختزالاً قاصراً، فحسب، بل هي مراهنة خاطئة ومجازفة خطيرة.
وهكذا، ثمة خلاصة (يجوز، أيضاً، اعتبارها مبدأ سادساً يستكمل السياقات الخمسة السابقة)، مستمدة من حقيقة وقائعية بسيطة: أنّ ردود أفعال أبناء الطائفة العلوية ـ الجَمْعية، أو تلك التي تتصادى على أيّ نحو مع سلوك جماعي، غير فردي في كلّ حال ـ كانت، حتى الساعة، أكثر خدمة للنظام، وأكثر اتساقاً مع سياساته؛ حتى إذا صحّ أنها لم تنخرط تماماً في مخططاته الأشدّ خبثاً وشرّاً، والتي تمثلت أوّلاً في محاولات استدراج الطائفة إلى مواجهات أهلية مع الأغلبية السنّية، في أعقاب ارتكاب المجازر داخل القرى والمناطق المحاذية تحديداً. هنالك، بالتالي، ما يشبه ابتداءً لا يبتدىء في سلوك شرائح عريضة من جماهير أبناء الطائفة العلوية، فهم ليسوا تماماً داخل صفوفه العسكرية المقاتلة، خارج الوحدات النظامية والميليشيات وما شابهها؛ وليسوا تماماً في صفوف معارضته، إذْ يندر أن تخرج مظاهرة احتجاج في قرية أو بلدة علوية، حتى حين يعتقل النظام عدداً من أبنائها المعارضين…
لهذا، ليس دون مظانّ كثيرة تطعن في صدقية الحقائق ومنهجية التفكير بالطبع، شاء البعض تضخيم حوادث احتجاج فردية، أو منعزلة، هنا وهناك، على شاكلة ما قيل عن ‘المبادرة الوطنية الديمقراطية’ التي دعا إليها محمد سلمان، وزير الإعلام الأسبق، صيف 2011، وضمّت حفنة من متقاعدي النظام، بينهم عدد من أبناء الطائفة العلوية، أقرّوا بأنّ ‘البلد يمرّ بأزمة وطنية، ويجب على المواطنين المخلصين أن يبادروا لإنقاذ الوطن من أزمته’؛ أو ما قيل، بعدئذ، عن ‘صراعات’ عائلية وعشائرية شهدتها القرداحة، خريف 2012؛ أو ما يُقال، اليوم، عن تظاهرات احتجاج في مدينة اللاذقية، بتأثير اعتقال أو تهجير عدد من أبناء القرى التي كانت ساحة قتال خلال العمليات العسكرية الأخيرة.
ويبقى أنّ قرار النظام اليوم، كما كانت عليه حاله صبيحة انطلاق الانتفاضة الشعبية في آذار (مارس) 2011، في عهدة حفنة محدودة من الأشخاص، العسكريين والمدنيين، على رأسهم الأسد نفسه؛ تنتمي غالبيتهم إلى الطائفة العلوية، في صفوف العسكريين بصفة خاصة، إلا أنّ تركيبتهم البنيوية ليست طائفية، بقدر ما هي اجتماعية ـ اقتصادية في المقام الأوّل. ويبقى، ثانياً، أنهم لا يشتركون في خيارات العنف، والحلول القصوى الانتحارية، والارتهان الخارجي، فحسب؛ بل يتساوون في المصير، إزاء إرادة الشعب وحكم التاريخ، قبل أن يبتدىء معهم أيّ بدء آخر، زائف مؤقت أو عابر كاذب
-----------------------------------
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس