ولا غرابة أيضا أن تشكر اديت بوفييه سوريي بابا عمر الذين جازفوا بحياتهم لتأمين سلامتها، وأن تصفهم بالبطولة والشهامة، فنحن عموما نحترم الغريب، وإذا كان أوروبيا نرفع له القبعة (وعندما يكون إسرائيليا نبالغ بإحترامه لحد أننا نحتفظ بقميصه لنبادله بألف أسير في سجون الإحتلال الإسرائيلي)
بالطبع علينا ألا ننسى بأن السيد ساركوزي هو حفيد ثورة الإخاء والعدالة والمساواة، وبنفس الوقت هو حفيد الإستعلاء الإستعماري وحروب الإبادة. من هذه الزاوية نفهم سر إهتمامه بمواطنته، وعدم إكتراثه لمقتل ثلاثة عشر سوريا ممن قاموا بإنقاذ حياتها (على ذمة روبرت فيسك) المهم أن ساركوزي ورهطه الطيبين تركوا أيام المستعمرات، ويعيشون الآن في القرن الحادي والعشرين، في حين يحاول السوريون الحلم بعصر جديد نبادل فيه أسير بأسير، ونستقبل فيه الجرحى كما استقبلت بوفييه وكونري
من يُمثل الشعب السوري
سؤال سهل ممتنع! سهل لسذاجته وممتنع لأن كلمة "شعب" هي ضمير غائب، تقديره نصف قرن من الإستبداد المتوحش، الذي إستبدل المرتكزات الأخلاقية للإجتماع، ومبادئ الدستور وقيم الجمهورية، بأسوار من الخوف والشعارات المقلوبة، والنفاق الجمعي. فهنالك حيثما يستوطن الإستبداد والقهر، ويفتُقد العدل، ويعمّ الإفقار والبطالة والفساد، يصبح الشعب مجازا والأحزاب أشخاصا، والدستور خرقة، والوطن نشيدا للحمقى ..
هذه الخلاصة الشعرية، قد تتفق جزئيا مع بعض الدراسات، التي يدبجها بيروقراطيو المكاتب الأنيقة، في المعاهد البحثية الأوروبية، خصوصا تلك المسمّاة "دراسات الإحصاء الذكي" التي طورها علماء النفس والإجتماع والإثنيات أثناء الحرب الباردة، حيث تضطلع تلك الدراسات بتقديم رؤية علمية (بخطأ 5%) عن دول القمع والخوف، التي يخشى فيها الناس التصريح برأيهم.. إحداها تستخلص مايلي: لا يوجد تمثيل حقيقي للسوريين، فالنظام يمثل شبكة من المصالح والولاءات تصل إلى 15% كحد أقصى، ومثلهم تقريبا ممن يظهرون الولاء بسبب الخوف أو الإنتهازية أو الضرورة المعاشية، أما الثائرين على النظام فهم حوالي 35% ومثلهم من الصامتين الذين يتحينون فرصة تراخي القبضة الأمنية، للإنضمام إلى خصوم النظام
أما الواضح الجلي في الدراسة فهو التأكيد على وجود إنقسام مذهبي حاد، تنعكس مرآته في لبنان والعراق والبحرين حيث يتعاطف معظم الشيعة مع النظام والسنة مع المعارضة، لهذا تقترح الدراسة على أولياء نعمتها في الإتحاد الأوروبي. السعي جديا لحصر النزاع والحيلولة دون تفاقمه وامتداده. والضغط بإتجاه موقف أممي حازم، يدعم إيقاف العنف وإبعاد السلاح، وإلزام النظام بقبول إنتخابات عامة بإشراف الأمم المتحدة، ينبثق عنها جمعية دستورية تتكفل بتمثيل السوريين وصياغة مستقبل توافقي لبلادهم.
وعموما تقلص هذه الدراسة من أهمية المعارضة السياسية، بسبب إندثار التجارب والتقاليد الحزبية (بما فيها حزب البعث) وتآكل القوى النقابية وغياب المجتمع المدني، وترى بأن الفاعلين في المعارضة السياسية هم: المجلس الوطني، وهو عبارة عن إئتلاف هش من شخصيات إسلامية وعلمانية وممثلي التنسيقيات والناشطين الميدانيين. وبدرجة أقل هيئة التنسيق الوطني المناوئة للمجلس: وهي لفيف من شخصيات نخبوية قومية يسارية، ذات صوت عال، بدون وجود حقيقي على أرض الحدث.
الثورات النيئة:
في تونس أثمر التدفق الجماهيري، إلى خلع الحاكم بسرعة خاطفة. فالإرث البورقيبي والتعليم الجيد والإحتكاك بالفرنكفونية ونمو الطبقة الوسطى، أتاح نضجا ووعيا مكنّه بسهولة من دحر السلطة الغاشمة. وبهذا تعززت فلسفة السلمية، التي روّج لها دهاقنة الميديا الغربية، باعتبارها ماركة أخلاقية للثورة الديمقراطية، في مصر لم يتسن السيطرة على ميدان التحرير إلا بعد ليلة دموية شرسة إنكفأ فيها الأمن المركزي وأحُرقت كثير من مقاره، وكسرت أقفال السجون الكبرى وأطلق سراح آلاف المعتقلين (طبعا بتدبير الإسلاميين)
في تلك الليلة الليلاء 28/29 يناير 2011 عاشت القاهرة والإسكندرية ملحمة شعبية لا تقل ضراوة عن إحراق سجن الباستيل.. مع ذلك عادت الكاميرات لتحدق في ميدان التحرير لإحياء صورة قديمة تشرفنا بمعرفتها في شرق أوروبا بأسماء ملوّنة ومخملية.. حيث يتدفق بضعة آلاف من حاملي الأعلام والشعارات (والطناجر) إلى ميدان رئيسي، ومعهم محترفو الدراما المتلفزة المُهيّجة للمشاعر، ثم يتلوها إعتصام ومرطبات وسندويشات، وبعدها يسقط النظام بإعادة تدويره داخل النخبة الحاكمة بعد طرح نفاياته الثقيلة، مع إضافة بعض النجوم الجدد وتوابل العدالة والحرية، وبقاء المستقبل بيد صندوق النقد وحيتان المال، وهكذا تنتهي القصة ويعود كلّ إلى داره.
ميدان التحرير يختلف عن كييف وبلغراد، فرائحة البارود والدخان كانت تزكم الأنوف، في تلك اللحظة من توازن الرعب (وتبادل المكر) أقتنع الثوار بأن مؤسسة الجيش محترمة (وبنت عيلة) فأمطروها بالقبلات، وأطلقوا وابل لعناتهم على مؤسسة الأمن (بنت الرقاصة) وهكذا عُقدت صفقة لا تخلو من الفهلوة والتذاكي. فشباب الميدان أصبحوا نجوما ومحط إعجاب العالم الملتفز، وعنوانا لقصائد المديح، وصدقوا أنهم أصحاب أعظم ثورة في التاريخ، أما عواجيز الجيش الذين قلعوا أضراسهم في فن المكر وطبخ المكائد، فأخذوا الجمل بما حمل، وأبرموا صفقتم مع الإخوانجية، وخرج الشباب من المُولد بلا حُمّص
إن الثورة في مضمونها العميق، إنقلاب عنيف على نظام سياسي طبقي مهترئ، نخره الفساد والعفونة والإستبداد، من هنا كان رفع شعار الديمقراطية، وإقحام صناديقها لتأسيس المبادئ العامة للنظام وحسم الجدل الإجتماعي، خللا منهجيا وعقما، يوازي الفهلوة التي طُهيت عليها الثورة النيئة، فالصناديق لا تكتفي فقط بالمساواة بين نوال السعداوي وبائعة الفجل، بل تتيح فرصة ذهبية للقوى المتسلطة التي مازالت تقبض على زمام الأمور، كي تعود بقوة، خصوصا في مجتمعات الفقر والأميّة (والفجل)
في حالة مصر يصبح زواج الثورة بالديمقراطية باطلا، إذ لا يمكن تكريس الثورة، بصناديق تُشترى أصواتها بصكوك غفران وفتاوي، فهي تُفرض بذاتها كقيمة ومرجعية عليا، ومصدر للشرعية، ولها يحتكم المتخاصمون.. وكذا فإن الديمقراطية في العمق، هي ترفيه لشعوب بطرانة مُتخمة، قضت على الأميّة أولا، ثم تخطت المرحلة البسماركية، ووحدت أوطانها وهويتها، وفرضت القانون دينا للدولة، وممرا إلزاميا لوجود النظام ومؤسساته.
ما جرى من توازن رعب بين العسكر والإسلاميين سيُفضي لإقتسام السلطة بينهما وسيقضي على آمال الثوار.. لكن مجمل ما حدث هو خطوة تاريخية على طريق الآلام .. فالثورة تنضج أولا وأخيرا في وعي جمعي وشعورعال بقيم الأنسنة قبل أن تندلع في الشوارع.