في الأيام الأولى للثورة، قال وزير الخارجية سيرغي لافروف في الكثير من المحطات واللقاءات الجانبية التي عقدها، إن روسيا لن تسمح للسنّة بأن يحكموا سوريا. إيران وحزب الله أيضاً من البديهي أيضاً أن يسارعوا إلى ملاقاة روسيا على هذا الموقف وانتهاز اللحظة لإعادة الانتقام من تاريخ عمره 1400 سنة. ثقافياً واجتماعياً وبناء على كل عمليات الضخ والتعبئة والصراع الذي أخذ بعداً ديمغرافياً، كان مغلفاً بسياق تاريخي انتقامي، بين الأمويين والصفويين. وصوّر بأن اللحظة مؤاتية للصفوية بالانتقام من الأموية. ولزيادة منسوب التحشيد وأدلجته، كان لا بد من إسباغ ما يجري بأنه صراع بين أحفاد الحسين وأحفاد يزيد.
علماً أن كل مقومات الصراع كانت سياسية وذات مصالح جيوستراتيجية، أعطيت الطابع الديني والفكري والأيديولوجي، أو طابع صراع الحضارات. بينما كل ما فعله الثوريون السوريون هو رفع شعار الحرية والمطالبة بالحياة السياسية والسعي إلى تغيير النظام إلى المدنية والديمقراطية. نجح المسار السياسي الدولي والإقليمي، والانطباعات المذهبية والدينية التي فرضتها روسيا من جهة، والأسد من جهة أخرى من خلال دعاية حماية الأقليات، أو من قبل إيران وحزب الله بالانتقام من أحفاد يزيد، في أخذ الصراع إلى مكان آخر، وصولاً إلى تدمير سوريا عمرانياً وسياسياً وثقافياً واجتماعياً وديمغرافياً، وصولاً إلى التدمير الاقتصادي والمالي التي أصبحت عليه اليوم. ونجح هؤلاء في عسكرة الثورة السورية، وهم كانوا أول من استدعى الخطاب المذهبي والطائفي بإسباغ الثوار بلطخة مذهبية، ما استدعى دعم النظام السوري وفتح أبواب المعتقلات أمام السجناء المتطرفين وداعيات الإسلام السياسي والعسكري إلى اجتياح المشهد السوري ليكون لإيران والنظام ما أراداه من تحويل الصراع إلى صراع ديني تاريخي، فتحول الناس إلى وقود يغذّي ماكينة الحرب.
لا بد من الاعتراف أن الثورة، والمعارضات السورية المتنوعة وقعت في أخطاء كثيرة، وهذه أصبحت تحتاج بلا شك إلى انتفاضة فكرية تركز على عامل الوعي لإعادة الصراع إلى جذوره الأساسية بدلاً من تركه في غياهب التاريخ الديني وما يحويه من صراعات عرف النظام ومن خلفه إيران كيفية استخدامها لضرب الثورة بحدّ ذاتها وضرب المجتمع السوري ككل. ذلك يحتاج إلى زمن طويل لإعادة تصحيح مساره ويرتكز على لقاءات وحلقات نقاشية وإصدار كتب ودوريات تقترن بالعمل على أرض الواقع أيضاً. قد يكون الكلام مفتاحاً للتنظير ومكاناً لتلقي الكثير من الانتقادات. لكن الوقت مناسب في ظل الانهيار المالي والاقتصادي الذي يعيشه النظام، وما سيستدعيه ذلك من صرخات ستخرج من قبل الموالين له قبل المعارضين، وهذه لا بد من الاستفادة منها والتركيز عليها.
وهذا المسار لن يكون منفصلاً عن خروج الحاضنة الشيعية الشعبية في العراق منذ أكثر من سنة في انتفاضة هائلة ضد إيران والحرس الثوري والحشد الشعبي، وكان لهذه التحركات مفاعيل رئيسية وأساسية في إحداث تغيير عراقي كبير مع مصطفى الكاظمي وبعودة العراق إلى خطّ مناقض للتوجيهات الإيرانية. كذلك الصرخات التي خرجت في لبنان ومن بيئات موالية لحزب الله، وهي قابلة لأن تتوسع أكثر في المرحلة المقبلة، وسط توقعات باحتمال حصول انفجار اجتماعي هائل لا يكون أحد قادراً على السيطرة عليه. أمام هذه الوقائع لا شيء يمنع من حصول انفجار اجتماعي داخل بيئة النظام، وهذا ما يجب التركيز عليه والعمل في سبيله. لأن المعركة لن تعود عسكرية، إنما ستأخذ طابعاً سياسياً واقتصادياً وحول خيارات العيش، بغض النظر عن الانتخابات الرئاسية أو غيرها.
كل هذه الجوانب كانت حاضرة في لقاءات موسكو وحزب الله، والتي بحث فيه الكثير من الملفات العسكرية والأمنية والسياسية، خاصة أن روسيا تلعب دوراً بارزاً بين النظام وإسرائيل، وهدفها منع استفزاز تل أبيب في سوريا، وقد طلبت ذلك من الحزب لتخفيف أنشطته العسكرية. كما أن روسيا تحاول استغلال نفوذها في سوريا وعلاقتها مع إيران وإسرائيل والنظام والحزب لتسجيل حضور وخروقات في ساحات أخرى، بينها لبنان، واليمن والعراق، في إطار اتساع رقعة التنافس مع الإدارة الأميركية الجديدة.
نتائج زيارة وفد الحزب إلى روسيا انعكست في إرسال موسكو المزيد من القوات العسكرية إلى شرق سوريا، وسترفع منسوب الخلاف والصراع بين الروس والإيرانيين على المعابر ومنابع الطاقة والثروات، كما أن روسيا سيكون لديها اهتمام ليس فقط بالسيطرة على شرق سوريا مع الأميركيين بل بالتوسع جنوباً وغرباً باتجاه الحدود اللبنانية السورية. لا سيما أن الوضع الروسي في حالة استنزاف كاملة في سوريا، والأسد أصبح عبئاً على الجميع وعلى رأسهم الروس الذين يبحثون عن أي ثمن للتنفس ووقف حرب الاستنزاف، والحصول على دعم مالي. وهذا ما بحثه وزير الخارجية الروسي في كل جولاته.
تحاول روسيا نسج تفاهم إقليمي دولي، يرتكز على لجم الانهيار في لبنان وسوريا لعدم إغراقها أكثر، هذا الحل سيكون مفتاحه تقديم تنازلات من قبل إيران وحزب الله والنظام السوري، ويقوم على قاعدة تشاركية في الحكم، قد تكون مرحلة بلورته ما بعد الانتخابات الرئاسية، إذ يعاد انتخاب الأسد، مقابل تشكيل حكومة موسعة تضم أطرافاً مختلفة من النظام والمعارضات، وتكون هي صاحبة الصلاحيات الأساسية في المرحلة المقبلة.
----------
منير الربيع