رحل عبد السلام العجيلي عن عالمنا في الخامس من نيسان (أبريل) عام 2006، ولنا أن نتحدث عن عشرات الكتب التي تركها بين روايات، ومجموعات قصصية، ومقالات في الأدب والثقافة والسياسة والفن والطب، تربو على خمسين كتاباً. وتعد مجموعاته القصصية الإثنتي عشرة مدونة سردية مؤسسة ودالة على ظاهرة القص العربي، إذ يقول حسام الخطيب في كتابه "القصة القصيرة في سورية": "كان ظهور "بنت الساحرة" في عام 1948 علامة انعطاف حي في تاريخ القصة القصيرة في سورية، فهي ليست إعلاناً عن ولادة كاتب قصصي عظيم فحسب، بل إعلان عن بدء استواء فن جديد متميز في التجربة الأدبية لسورية. ومن هنا لا بد من القول إن "بنت الساحرة" تحتفظ بقيمة تاريخية كبرى إضافة إلى قيمتها الفنية، فالعمل الأدبي يصير نقطة انعطاف حينما يجمع بين القيمتين جمعاً واضحاً". وهذا ما أشار إليه نقاد كثر من مثل عدنان بن ذريل ومحمود الأطرش وعبدالله أبو هيف، وغيرهم.
العالم القصصي
لا بد من الكلام على عوامل عدة صاغت عالم العجيلي القصصي، وهي: البيئة الاجتماعية في وادي الفرات في مطالع القرن العشرين، المكونة من تشكيل اجتماعي بدوي إلى نصف حضري، حيث يعيش الناس على الحكاية، والمسامرات، وأحاديث العشيات، وحيث الأسرة المتناسلة من السادة الحسينيين، الذين تروى عنهم في تلك الربوع حكايات الكرامات والخوارق والأعاجيب. فينحو الناس إلى أسطرة أي حدث يجدونه مؤهلاً للإبهار، ويكرمون الدراويش والمجذوبين، ولا يجمعونهم في سفينة الحمقى. وذلك بالاتساق مع الوعي السياسي الاجتماعي بالتحديث وبفكرة الدولة، إلى جانب مجتمع الغجر المحيط، الذين يترددون على المكان بوعيهم الميتافيزيقي. عرفت حياة الناس في تلك المضارب العناصر المسرحية الآتية من المسرح التاريخي في علاقته بالتحول القومي، والعناصر المسرحية التي تحملها الطقوس، وكذلك ما حمله الاستعمار الفرنسي من جديد، فكانوا كما قال معاوية عن قومه، نسّاكاً في الليل سلاطين في النهار
جاءت دراسة الطب في أواخر ثلاثينيات القرن العشرين، لتنتقل قصة العجيلي إلى الدرامية الناتجة من ألغاز الجسد، إذ يوائم في مقاربتها بين العلم والماورائيات. وهو يلفت إلى أن الأحداث الغرائبية غالباً هي قصور علمي، لما يكشف عنها، أو أنها لا تزال محجوبة عن العقل. أما العلاقة مع الغرب فهي ثالثة الأثافي، فالعجيلي منذ نشأته كان منفتحاً على الثقافات الأوروبية بشكل مميز، لا سيما الفرنسية التي أتقنها، فالإنجليزية. وقد عاين أوروبا منذ خمسينيات القرن العشرين، وكتب وحاضر في منتدياتها، وشهد لقاءات الأدباء وسجالاتهم من سرياليين ودادائيين في مقاهي سان جرمان، من مثل: دي فلور، ولي دو ماغو، حيث قابل سارتر وسيمون دي بوفوار وكامو وأندريه بريتون. وحين صار وزيراً للخارجية تمكن من التواصل مع العالم الأبعد، ولطالما أقام قصصه على حوارات بين الشرق والغرب بعامة. هكذا نشأت القصة فناً عند العجيلي جماعاً لذلك كله، نجده مبثوثاً في مجموعاته بدءاً من "الحب والنفس"، إلى "مجهولة على الطريق"، فـ"الحب الحزين"، و"الخيل والنساء"، وأكثر ما يتجلى في مجموعته الأولى "بنت الساحرة".
وبالعودة إلى قول الخطيب نقرأ: "إن الفن عند العجيلي هو محاولة دائمة لاستكشاف الحياة وأسرارها، والحياة في عالمه القصصي مفعمة بالغرابة والغموض والتعقيد والتداخل. ويمكن القول إن المهمة الأساسية التي ندب العجيلي الفنان نفسه لأدائها منذ البدء هي استكمال ما عجز العلم عن كشفه". إن قصص العجيلي هي "قران النيء إلى المطبوخ" بحسب كلود ليفي شتراوس، وحقل معرفي تجريبي يمكن من خلاله تتبع نظريات فلاديمير بروب وفوكو وفرويد.
ضد التيار
يرى العجيلي في "أشياء شخصية" أن الفنان يكمل نقص الطبيعة، فما تعجز عنه الطبيعة يأتي به الخيال. وإن الواقع الكامل إن وجد، لا يغري الأديب ولا يستثير دوافعه للكتابة. وبرأيه إن أدب الرضا هو أدب مصطنع على الغالب، ضعيف أسباب الحياة، ومن هنا أتت نصوصه في "ضد التيار" وفي "كل واد عصا"، إذ كان عصياً على الانضواء السياسي أو الأيديولوجي. يورد في كتابه "أحاديث العشيات" رأياً نقدياً لافتاً: "إن أعظم كتاب روسيا، هم الذين في نقمتهم على الاستعباد أيام القياصرة، أو في سبرهم أعماق النفوس الإنسانية المتألمة في عالم لا عدالة فيه، دعوا إلى الاشتراكية والعدل الاجتماعي الذي تحققه، لا الذين عاشوا في ظل الاشتراكية ونظمها، فكان أدبهم تمجيداً لها. إن هؤلاء إلا من عصمته موهبته الأدبية الخارقة، ليسوا سوى مطبلين ومزمرين لنظام لو عاشوا في غيره لطبلوا كذلك له وزمروا".
تشير مترجمته إلى الإسبانية البروفيسورة آنا راموس، أستاذة الأدب العربي في جامعة مدريد المستقلة، إلى أنها تمسكت بترجمته لأنها أعجبت برؤيته للوحة "غويرنيكا" لبيكاسو. فعلى الرغم من شهرة اللوحة، كان له فيها وفي فن بيكاسو رأياً مخالفاً للمجموع وشجاعاً، ومؤسساً على معرفة لا يستهان بها في الفن، وهي تتفق معه بالرأي الذي لم تكن تجاهر به. قال العجيلي حينذاك: "إذن فلست وحدي ذلك الصبي الذي صرخ بأعلى صوته قائلاً إن الملك عار تمام العري".
أما المستعرب الفرنسي وعالم الاجتماع جاك بيرك، الأستاذ في الكوليج دو فرانس فيتحدث في كتابه من "الفرات إلى جبال الأطلس" عن رصد العجيلي لسلوكيات الأشخاص، وتحويلهم إلى شخصيات فنية: "وفي الرقة يمارس العجيلي طبه بصورة دائمة، بحيث تزوده هذه الممارسة بعدد لا يحصى من الوقائع اليومية الصغيرة، وقد خرج بما كتبه حول عالمه بالرقة بلدته من المحلية إلى العالمية".
-------------
اندبندت عربية