نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
عيون المقالات

الفرصة التي صنعناها في بروكسل

26/11/2024 - موفق نيربية

المهمة الفاشلة لهوكستين

23/11/2024 - حازم الأمين

العالم والشرق الأوسط بعد فوز ترامب

17/11/2024 - العميد الركن مصطفى الشيخ

إنّه سلام ما بعده سلام!

17/11/2024 - سمير التقي

( ألم يحنِ الوقتُ لنفهم الدرس؟ )

13/11/2024 - عبد الباسط سيدا*

طرابلس "المضطهدة" بين زمنين

13/11/2024 - د.محيي الدين اللاذقاني


عاش الشعر ...سقط الشاعر




منذ بداية الثورة في سوريا و اللغة الشعرية – التي ينتجها الشارع – تفرض نفسها بموازاة اللغة السياسية , بل إن هذه اللغة الشعرية , ساهمت في انتاج وتحديد الخطاب السياسي في الكثير من الأحيان , و إن كان ثمة خلط وتداخل بينهما , إلا أن لغة الشعر كانت الحامل الأبرز لهتافات الشارع العفوية , و مع الانتفاضة الأولى للشارع كان الشعار ” الموت ولا المذلة ” بكل أبعاده الشعرية يتمسرح على الأرض بلغة حسيةٍ ملموسة و معاشة - وقد زادها الدم و الحناجر .. التي انتفضت من رماد توسلها للعدل – ليغدو هذا الشعار و بلهجته الحورانية أيقونة سورية و شعارا عالميا , مستلهمين ما قاله أحيقار وزير الملك سنحاريب و هو أحد أجدادهم القدماء : يا بني : الموت خيرٌ لرجل لا راحة له .. الموت أفضل من الحياة المرّة


 
 و لم تعد هذه اللغة الشعرية التي أنتجها الضمير العفوي للشارع  معنىً سورياليا مكافئا للقول الشهير الذي يمثل خطاب البلاط :   ” لنا الصدر دون العالمين أو القبر ” بل تعداه  إلى ما هو أبعد , وما هو أكثر فاعلية , بدون أي لغة قد تكون حمالة لوجه عنصري ..

من جهة أخرى .. تبدو جملة مؤلفة من فعل وفاعل وجار ومجرور .. على غرار ” ذهب الولد إلى المدرسة ” عادية في إطارها الروتيني الرتيب , ولكن إسقاطها على حدث مفصلي واقعي , يجعلها تخرج  من عاديتها  لتنتقل إلى جادة أخرى تفوح منها رائحة الشعر, خاصة و أن الشعر هو المركب اللغوي المبني على الدهشة , والدهشة في هذا الفعل الشعري .. أنه حينما .. يعود الولد من المدرسة بدون عضوه التناسلي .. لا بل حينما .. لا يعود الطفل .. ولا عضوه التناسلي من المدرسة  , و في تكثيف مستمر .. حينما لا يذهب الولد إلى المدرسة , ليظل عضوه التناسلي سليما .. إنها جملة بالغة البساطة من جهة و بالغة التعقيد من كونها لا تأتي في سياق طبيعي أو عادي , بل هي تأتي ضمن سياق / اقتطاع/ عضو تناسلي لطفل كان يذهب إلى المدرسة , و لم يعد بعد الآن من المدرسة , و بعد أن ودعته أمه رافعة يدها للسماء في لحظة ما .. راجية أن يحفظ الله عضوه التناسلي , ولأن العضو التناسلي قد لا يعود ,  فإنه  و بالتالي لم يعد يذهب الولد ولا غيره من الأولاد  إلى المدرسة .. كل هذا حفاظا على العضو التناسلي ..
و هنا لا بد من التنويه إلى أن عملية اقتطاع العضو حالة شعرية مشبعة بالكنايات حيث تخشى السلطة من العضو التناسلي للولد إذا ما شبّ ممسكا بها بثيابها الداخلية ..
في السياق ذاته فإن شبابا يقوموا بطباعة نعواتهم مساء الخميس استقبالا للموت يوم بالجمعة , و كذا يفعل آخرون بحفر قبورهم مسبقا , في حالة شعرية مكثفة تحدث دويها على الأرض ..
الشعر في سوريا يمشي على قدمين .. خرج من قوافيه و حروفه و إيقاعاته الفراهيدية ليرقص حرا في الطرقات ..
الشعر و الشاعر .. إنهما الضمير الحاضر لأي أمة , لكن شحوب الشاعر  في الحدث السوري يجعل منه بقايا ضمير مستتر وغائب خلف غريزة الخوف من بطش رجل أُميٍّ  توظف خطأ في مؤسسة أمنية يقرر هو , و تقرر هي , مصير هذا الضمير , كما قرر / قررت  مصير الولد حينما أراد الذهاب إلى المدرسة , في فعل طبيعي لأن يذهب أي ولد إلى المدرسة , دون تدخل من عنصر أمن بعضوه التناسلي , ليجعلنا نركب جملة تنفي ذهابه إلى المدرسة.
الشارع يرتكب الشعر  لا لا لم أخطئ .. أنا أقول الشارع .. لاسيما إذا تهادى إلى ذهننا أن الشعر في سوريا  فعلا بات متجسدا يمشي على قدمين .. والشاعر على  الضفة المقابلة ..  يفتعل النوم .. و لم يرتق بعد لمستوى الحدث أو لنقل أنه كان شاعرا ناتجا عن مشاعر عاطفية تولدت عن كبت جنسي , ولّد رغبة بإثبات الأنا في لحظة عجز عن توظيف هذه الغريزة الجنسية في قوالب جمالية حاملها و هيكلها  الكلمة , فالشاعر هنا لم يكن إلا إنتاجا لتحرير غرائزه من أسرها  , بينما الشارع كان شعره تجسيدا لإفراغ الغضب الناجم عن كل أصناف الذل , في فعل إنساني  خلاق  .. كانت الكلمة أداته المكونة من  العنوان العريض .. الحرية.
لنا أن نتسائل .. هل يخاف الشاعر على عضوه التناسلي ؟؟
لن أناقش الإجابة ..و لكنها دعوة إلى إعادة تعريف الشاعر ..
ليس المنبر .. بل المنبرية هي التي ارتبطت بالشعر والشعراء , و هذا الارتباط أتى لما تحمله المنبرية من اكتناز بلغة التحدي , لكل ما يمكن أن يكتب عنه الشاعر ,  و إن كان مضمون اللغة كلاما عن العصفور أو الفراشة أو الغيمة الشاردة في لغة المواربة , أو الحرية في المقاربات المباشرة , أو لا لنظام الاستبداد  و فعل التشبيح ” و أولاد القحبة ” في لغة  ” دجني دجتك العافية ” , وفي المفاصل التاريخية حينما تتحرك الشعوب لتقول كلمتها تصبح وجهتها هي وجهة المنبر بل هي المنبر ذاته , والشاعر الحقيقي هو من عليه أن يتسق مع هذا الشارع ليكن نبضا له و لسانه الذي يتحدث به  إن لم نقل أن يقوده , و هو من يمكن أن يصل في هذه الحالة لمستوى  قامة خلاقة مثل القاشوش ,  افتعلت الشعر وسط عشرات الآلاف  , و عملية ” اقتلاع ” حنجرته حدثا شعريا بامتياز ,  أو مثل شاب حوراني صورته كاميرا المحمول المهتزة و منخفضة الدقة .. و هو يصرخ و ينادي بوجه جلاده  بلهجة حورانية محببة : لك هالوطن بيوسعنا كلنا  .. الوطن إلي و الك .. ليش بدك تاخد كلشي إلك لحالك .. لك نحنا إخوة .. كان هذا الشاب الحوراني يصرخ .. وجلاده  يصوب البندقية نحوه و يطلق الرصاص .. هو ذاته عنصر الأمن ربما .. الذي قطع العضو التناسلي للطفل الذي ذهب إلى المدرسة ..
إنه مشهد درامي من الشعر الخالص كان صوت البارود فيه ملازما لتنفس هذا الشاب الحوراني و غصاته و صداه ..

يبدو أن الزج باسم مثل أدونيس " وهو شاعر المظلومية " في هذه اللحظة بالذات عبارة عن نشاذ لا يتسق مع دراما الحدث و شعريته و إيقاعية هذا المشهد , و ما يمكن أن يتركه من خلجات في النفس , لكن الإشارة إليه من باب الشعور بالإحباط حينما يخون الشاعر  دم شعبه , والدم هنا ليس لأنه مقدسا , بل لأنه قائم على حالة شعرية – مقدسة ثنائيتها : صدر عار ينادي بالحرية كمفردة طالما تغنى بها الشعراء ضمن نسقها التجريدي  مقابل آلة عسكرية قائمة على الرصاصة , و هذه الرصاصة مكانها صدر العدو لا ابن الوطن .. لكنها بسبب قرار من الجلاد و خشية على مكتسبات سلطته , اختارت هذه الرصاصة صدر شاب حلم بالحرية , ونادى بها كما نادى بإعادة الجولان وتحريره والتخلص من العدو … تماما .. تماما .. و من هذه المفارقة التي تثير الدهشة يتكون الشعر و من هنا تأخذ الحالة الشعرية مشروعيتها .. لا بل قدسيتها .. ومن هنا قام الجلاد بقطع العضو التناسلي للولد الذي ذهب إلى المدرسة ..
ومن هنا أيضا و تحديدا يبدو أدونيس " شاعر المظلومية " قزماً .. لا لأن لغته مغلقة على عالم سوريالي في نثرية لا يفهمها القاشوش مثلا .. بل لأنه لم يرتق  إلى مستوى  ما صرخ لأجله القاشوش , و ما هدرت دماء مواطنيه من أجله .. و بالطبع لست بصدد تفكيك اللغة الشعرية لأدونيس فهنا قد نتفق أو نختلف على معايير التذوق الجمالي للكلمة – النص – الانزياح – الكثافة الشعرية .. لكن .. من المؤلم أن نختلف على كثافة التوق للحرية في بلد حُرم من ارتكاب الحرية , و لنُنَظر .. من التنظير .. عن المضمون و الدلالات التي تحمله رمزية التظاهر أمام الجوامع .. فات أدونيس و كل الشعراء الآخرين أن يقدموا للمتظاهرين كتالوجا يُعلّموا فيه الشعب كيفية التظاهر و التصفيق , أو كيف يرددون هتافاتهم .. وما هي الساعة الملائمة للتظاهر .. وهل يجوز شرعا أو عروضا ..  أن يتظاهروا بأرتال ثلاثية أم رباعية  , و أن يوضح هذا الكاتالوج رد الفعل المناسب حينما يصوب عنصر أمن غير رسمي / أو رسمي بندقيته على متظاهر , ومن ثم يقتله وما يتوجب فعله من قبل زملائه المتظاهرين .. وعما إذا كان هتافا ما .. مكسور الوزن ويحتاج لترقيع , أو أن الجمل الشعرية التي غناها القاشوش لم تكن لترتق لذائقة أدونيسية تعتقد أنها مترفة بالشعر .. ومرهفة به.
الشاعر لم يعد ضميرا للأمة . للشارع .. ليس لأنه نأى بنفسه عن الإعلان عن شاعريته و تفاعله مع الحدث .. بل لأننا .. ولأني شخصيا .. طلبت من شعراء أصدقاء كثر أن يساعدونا في توفير كلمات أغاني خاصة بالحدث مع التعهد بألا يذكر اسمهم .. إلا أنهم رفضوا ..
الشاعر لم يعد ضميرا للأمة .. لأن شباب من هواة أغاني الراب بجينزاتهم المودرن الممزقة .. تطوعوا لغناء  وتلحين أغان للثورة ولم ” يتعاطف الكثير من الشعراء ” مع اندفاعهم ليقدموا لهم كلمات و جمل شعرية مكونة من فعل وفاعل ومفعول به , و غيرها من ” الإعرابات “..
الشاعر لم يعد ضميرا للأمة .. ليس لأنه ظل أسير اللغة الفصحى و ابتعد عن اللهجة المحكية الغنية بأبرع صور الشعر و أقربها إلى الناس .. بل لأنه ابتعد تماما عن الناس ..
سقط الشاعر .. رغم تفهمنا لمواقفه السياسية و الشخصية والعائلية .. إلا أنه ليس مجديا أن نظل نسميه شاعرا .. وعليه ألا يشكو بعد الآن انكفاء الجمهور عن القراءة له .. وللشعر .. فالشعر هم جمعي ..
سقط الشاعر .. لأنه انسل من مسؤوليته التاريخية .. ليس لأن الشعر مرتبطا بالفروسية و مواجهة الغيم الذي قد يتحول لإمرأة في لحظة شغف عاطفي .. بل لأن الشعر .. مسؤولية و   ممارسة , و شتان بين من يكتب الشعر .. وبين من يمارسه .. يفتعله .. ليصبح هو القصيدة على مرمى بندقية .. أو شبيح ..
سقط الشاعر .. لأنه تناسى أن الثورة ليست ترفاً .. و أن الصرخة في وجه الجلاد ليست ترفاَ .. و أن يعود الولد من المدرسة مع عضوه التناسلي ليس ترفاَ ..
سقط الشاعر .. لأنه عجز عن تلقف ولو مقاطع أو صور قليلة من الحجم الهائل للشعر المنتشر في كل مكان وفي كل زاوية من جسد الوطن .. سوريا .. القصيدة ..

سقط الشاعر ..لأنه نأى بنفسه عن توق الجماهير الكادحة ” من عمال وفلاحين و حرفيين وصغار كسبة  " للحرية , و عن هتافهم المحموم بالدم لها , ما دفعهم لعدم إرسال الولد إلى المدرسة كي لا يقطع عنصر أمن ما .. أو شبّيح ما .. في لحظة ما .. بل في قصيدة ما .. عضوه التناسلي .. لكنا ندعو الربّ و كل ربّات الشعر و آلهتها .. أن تحفظ الولد و عضوه التناسلي .. و أن ” تصطفل ” بالعضو التناسلي للشاعر..
--------------------------
زمان الوصل
 

مؤيد سكيف
الاثنين 28 أكتوبر 2013