نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

الفرصة التي صنعناها في بروكسل

26/11/2024 - موفق نيربية

المهمة الفاشلة لهوكستين

23/11/2024 - حازم الأمين

العالم والشرق الأوسط بعد فوز ترامب

17/11/2024 - العميد الركن مصطفى الشيخ

إنّه سلام ما بعده سلام!

17/11/2024 - سمير التقي

( ألم يحنِ الوقتُ لنفهم الدرس؟ )

13/11/2024 - عبد الباسط سيدا*

طرابلس "المضطهدة" بين زمنين

13/11/2024 - د.محيي الدين اللاذقاني


صمت القبور





كنت في العاشرة من عمري، حين وصلت مع عائلتي الى مدينة جاكرتا، عاصمة اندونيسيا، التي كانت، في عام 1968، تعتبر أحدى منافي «الأعمال الشاقة» في الحياة الدبلوماسية العربية، بعد حدوث الإنقلابات العسكرية.


 
كان، سفير مصر، على سبيل المثال، من المعارضين لعبد الناصر، يحاول التمويه عن شوقه المزمن لبلده بزراعة الملوخية في حديقته على خط الإستواء (وصلته بذورها في الحقيبة الدبلوماسية) ليندهش ويدهشنا حين وجدها تنبت في ليلة واحدة وحجم أوراقها عشرة أضعاف ما إعتاد أن يراه في الصعيد.
الإنقلابات البعثية في العراق وسوريا نتجت عنها قوائم تسريح طويلة لكل موظف من وسط إقطاعي أو برجوازي أو صناعي، وإستبداله فورا بأعضاء من الحزب الذي أغتصب الحكم. كان أكثر هؤلاء لا يعرفون بروتوكول الدوائر الرسمية، ناهيك عن كيفية التعامل مع العالم الخارجي، لعدم قدرتهم على النطق أو القراءة بلغة أجنبية. في دمشق، وبعد مجيء صلاح جديد الى السلطة مع رفيقه اللدود حافظ الأسد، الذي استولى على الملف العسكري، لكي يبدأ في تحويل الجيش القومي الى مليشيا لحماية مصالحه الخاصة، كما ظهر فيما بعد، الغي الإمتحان التعجيزي الذي كان يغلق الباب في وجه كل من أراد العمل في وزارة الخارجية. وعين ابراهيم ماخس على رأسها، ربما لانه كان عصبيا متقلب المزاج، ينادي السفراء القدامى الوقورين بـ «يا حمار الفلاني» و»يا بغل العلتاني» قبل تسريحهم، فقط للتسلي بإذلالهم. لكنه سرعان ما وجد نفسه بدون تقارير تحلل له السياسة والاقتصاد بشكل مركب مفيد، فقرر ان لا يسرح بل ان ينفي من تبقى في «التشكيلات» السنوية التي أصبحت ترعب الأسر التي اشتهرت بتمثيلها لسوريا منذ الاستقلال بكثير من الرصانة، وبكفوف ناصعة البياض وفساتين من «البروكار» الدمشقي العريق.
لهذه الأسباب العبثية بعض الشيء، وجدت نفسي جالسة أمام مسرح بدائي في الهواء الطلق على جزيرة جاوة، مع جمهور من أهل البلد والأجانب، نتفرج معا على فنان «البانتوميم» الفرنسي المعروف، مارسيل مارسو. ظهر أمامنا بقامته النحيلة المعبرة، ووجهه المدهون بمسحوق رمادي اللون، ينيره فانوس ورقي مدور، كان قد علق من غصن شجرة موز ليشكل دائرة من الضوء في ظلام مثير للقلق، اعترض سكونه صوت النمس الموحش. كان هذا الفنان قادرا على التعبير عن أعمق الأحزان بدون كلمات، على طريقة الأفلام القديمة الصامتة. ولكن صمته ليلتها وجد صدى عميقا عند الجمهور.
كان الصمت التام قد فرض على مئات الجزر الإندونيسية بالرشاشات الأمريكية، التي أعطيت للعسكري اليميني الجشع سوهارتو، لكي يقضي على كل إنجازات صانع الاستقلال، والرئيس الأول للبلاد، ذلك الحالم الأبدي وزير النساء سوكارنو. حارب هولندا منذ صباه، وطردها اخيراً من وطنه، واستطاع بأعجوبة ان يوحد أطرافه المتبعثرة، رغم تفاوت لغاته ودياناته وأثنياته. تم اختراع لغة مبسطة سميت «بهاسا اندونيسيا» لكي يتمكن ابن سومطرة من محاورة ابنة بالي عن مستقبلهما المشترك المبني على أسس العدالة الاجتماعية الحقيقية (لا الزائفة مثل «عدالة» البعث العربي الاشتراكي). فتم تأميم الشركات الأجنبية، التي طالما احتكرت مطاط ومعادن وغاز، بترول، أحجار كريمة، خشب، سكر، قهوة، رز، فاكهة، أزهار و بهار، وكل خيرات تلك الجزر الأسطورية، التي لا تعد ولا تحصى، والتي تحارب عليها الأوروبيون منذ قرون طويلة. كم من مجزرة ارتكبوا بغرض إمتلاك محاصيل جوزة الطيب والفلفل الأسود والقرفة؟
ولكن مجزرة سوهارتو كانت عجيبة في عنفها، حتى بحسب معايير القرن العشرين. فخلال أقل من أربعة أشهر من عام 1965، بدأت فرقة من الجيش الأندونيسي، استعانت بطلاب «إسلاميين» اخترعوا آنذاك (وما أشبه اختراع المجاهدين والجهاديين في ما بعد!) ككتلة سياسية من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، ليحاربوا «الخطر الأحمر». دربوا وسلحوا هؤلاء بالخناجر، لكي يتمكنوا من ذبح أكثر من مليون أندونيسي، غصت بروائح جثثهم المتفسخة الأنهار العريضة وحقول الرز المدرجة زمردية اللون وغابات المطر. ثم سجن مليونا آخر- مات نصفهم من الجوع والعطش، على جزر صخرية نائية، اخذوا اليها مجنزري الأيدي، ليتركوا هكذا، تحت الشمس القاتلة، على شاطئ البحار المليئة بسمك القرش. وأحياناً، حبسوا بمشافي الجذام التي بنتها راهبات من هولندا قبل ان يعدن الى بلادهن. أطلق المصابون بهذا المرض المعدي الخطير من هذه الأماكن، لكي يضطروا الى التسول في العاصمة، وخاصة في شارع «بازار بارو» حيث كنا نراهم، يزحفون على بطونهم، منذ ان بتر الجذام باقي أجسادهم.
كان هؤلاء السجناء السياسيون (التوبال) من عامة الشعب، الأكثرية العظمى منهم مزارعو رز. انتموا في خمسينيات القرن الماضي الى الحزب الشيوعي أو أحزاب يسارية أخرى، كانت تطالب بالتنمية الحقيقية للمجتمع: بالمدارس والجامعات والمشافي والنقابات العمالية والانتخابات وحقوق المرأة. وكان سوكارنو أول من تكلم عن هذه الأشياء، فأصبح رأسه، في نظر الكثيرين، أكبر من حجم المصالح الأمريكية والبريطانية والفرنسية واليابانية في المنطقة. ولذلك وضع سوهارتو على عرشه، لكي يساعد في حلب البلاد وهو يملأ جيبه وجيب كل واحد من أقربائه من المكاسب التي هطلت عليه بغزارة أمطار المونسون. واستمر كذلك لمدة 31 سنة، يقمع الحريات بالكامل ويحول البشر الى عبيد له ولأولاده وبناته، حتى ثاروا عليه في آخر الأمر وأنهوا ولاية الخوف التي خلقها، والتي كان صمتها القاتل صمت القبور.
-------------
القدس العربي

رنا قباني
الاحد 3 غشت 2014