بين البلطيق والمتوسّط
تريد تركيا إظهار أنّها ليست دولة ذات تأثير إقليميّ وحسب. تدخّلُ تركيا في مسار توسيع حلف الناتو يعدّ جزءاً من سياسة تأكيد قوّتها على الصعيد الدوليّ. مع ذلك، لا تقلّل أنقرة من أهمّيّة طموحاتها الإقليميّة. لطالما سعى الأتراك إلى تحقيق "منطقة آمنة" في شمال سوريا فحاولوا الاستفادة من علاقاتهم مع الروس والأميركيين لتغطية تدخّلاتهم فيها. حصلت تركيا على ضوء أخضر من موسكو لاجتياح عفرين في يناير (كانون الثاني) 2018، وعلى ضوء أخضر من الأميركيين لشنّ توغّل شرقيّ نهر الفرات في أكتوبر (تشرين الأول) 2019. شمل ذلك التوغّل المنطقة الواقعة بين تل أبيض ورأس العين وأطلقت عليها تركيا اسم "عملية نبع السلام". وصل عمق المنطقة الآمنة الواقعة بين هاتين المنطقتين إلى نحو 30 كيلومتراً أمّا طولها فبلغ قرابة 80 كيلومتراً.
ترى تركيا أنّ مقاتلي "حزب الاتحاد الديموقراطيّ" الكرديّ الذين يشكّلون القسم الأكبر من "قوات سوريا الديموقراطية" فرع سوريّ لـ"حزب العمال الكردستانيّ" الذي تصنّفه على لائحة الإرهاب. اليوم، يبدو أنّ تركيا تخطّط لعمليّة عسكريّة أخرى شمال شرق سوريا وقد يكون التصعيد السياسيّ في قضيّة انضمام السويد وفنلندا إلى الحلف الأطلسيّ تمهيداً للحصول على ضوء أخضر لها. من شبه المؤكّد وجود رهان لدى أردوغان على عدم اعتراض الغربيين على تلك العملية بالنظر إلى حاجتهم لعدم استخدام أنقرة حقّ النقض في ما يخصّ توسيع الناتو. فهذا المسار يحتاج إلى موافقة جميع الأعضاء الثلاثين في الحلف بمن فيهم تركيا. ومن غير المتوقع أن يكون هنالك أصوات أطلسيّة أخرى معارضة للطلبين السويدي والفنلنديّ، بما فيها الصوت المجريّ.
ثقة بالماضي والحاضر
قالت الزميلة البارزة للسياسات في "المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية" أسلي أيدينتاشباش إنّ خطوة أردوغان تهدف إلى اختبار حلفاء تركياء الأطلسيين مشيرة إلى أنّ أسلوب الرئيس في رفع التحدي على المستوى الدولي "ينجح على الدوام تقريباً في دفع حلفاء الناتو إلى أن يرمشوا". وأضافت الباحثة المقيمة في اسطنبول: "لقد نجح في شرقي المتوسط وفي سوريا سابقاً – لماذا عدم المحاولة مجدداً".
وبحسب بعض المراقبين الأتراك، لا يتعلّق تعهّد أردوغان في 23 مايو الحالي بتوسيع المنطقة الآمنة بمطالب أنقرة الأمنيّة وحسب. أشار محمد جليك في صحيفة "دايلي صباح " التركيّة إلى أنّ الغرب بحاجة إلى لغة ديبلوماسية جديدة وكذلك تفاهمات واسعة أخرى مع تركيا. فقد مكّنت الديبلوماسية المشتركة بين أنقرة وموسكو من تجنيبهما الاصطدام المباشر في ساحات نزاع أساسية مثل ليبيا وناغورنو كراباخ وأوكرانيا. وأضاف أنّ لتركيا ثقة بموقعها السياسيّ والديبلوماسيّ والعسكريّ بما يمكّنها من مطالبة الغرب بالتعامل معها على قدم المساواة.
تكمن إحدى مشاكل أردوغان الكبيرة على مستوى السياسة الخارجية في عدم ارتقاء العلاقات مع نظيره الأميركي جو بايدن إلى ما كان يطمح إليه. ربّما هذا جانب من جوانب ما يقصده الأتراك حين يتحدّثون عن المساواة مع الغربيّين. ولم يخفِ أردوغان امتعاضه من هذا الواقع حين قال في سبتمبر (أيلول) 2021: "لقد تفاهمتُ جيداً مع جورج دبليو بوش، باراك أوباما، ودونالد ترامب، لكنّني لا أستطيع القول إنّنا بدأنا بشكل جيّد مع جو بايدن". وكان متوقّعاً ألّا تكون العلاقات بين بايدن وأردوغان إيجابيّة بالنظر إلى الاختلافات في مقاربة السياسة الخارجية ذات الاهتمام المشترك، وحتى في مقاربة القضايا الحقوقيّة داخل تركيا.
بالفعل، تفاهم أردوغان مع ترامب إذ مال الأخير بشدّة إلى تفهّم مطالب أردوغان الأمنيّة لعدد من الأسباب ، من أهمّها إعجاب الرئيس السابق بـ"الرؤساء الأقوياء" وتركيزه على فكرة إنهاء "الحروب التي لا تنتهي" وما يترتّب عليها من انتشار عسكريّ أميركيّ في الخارج كما هي الحال في سوريا. حتى أنّ ترامب لام سلفه باراك أوباما لأنّه لم يقبل بيع صواريخ "باتريوت" إلى تركيا ممّا دفع الأخيرة إلى التوجّه نحو روسيا لشراء منظومة "أس-400". وكان لأردوغان علاقة جيّدة أيضاً مع أوباما حتى أنّه قدّر النصائح التي يعطيها نظيره التركيّ في شأن تربية ابنتيه. لكنّ علاقة الرئيسين تدهورت بعد تعاون واشنطن العسكري مع الأكراد في مواجهة "داعش" وبعد محاولة الانقلاب على الرئيس التركيّ سنة 2016.
صفقة من نوع آخر؟
ليس مؤكّداً ما إذا كانت تركيا راغبة فعلاً بشنّ عملية عسكرية جديدة في سوريا. والأمر نفسه ينطبق على النية الأميركية في إعطاء ضوء أخضر لهذه العملية. لكن حتى لو عارض بايدن خياراً تركياً كهذا، فقد يكون هنالك باب آخر للتسوية مع أنقرة بشأن قضية توسيع الناتو: بيعها مقاتلات "أف-16" الأميركية. وهذا ما يحذّر منه الباحث في "معهد المشروع الأميركي" مايكل روبين الذي رأى أنّ بيع هذه المقاتلات مع تحديث أسطولها السابق سيمكّنها من مواصلة عملياتها العسكرية لقتال الأكراد و"التغيير الديموغرافي" في شمال سوريا، لا الانخراط في مكافحة الإرهاب. وذكر أنّ القبول ببيع هذه المقاتلات يشكّل رسالة بأنّ أردوغان لن يواجه تداعيات في حال شنّ هجومه مشيراً إلى أنّ ذلك سيكون "خيانة" للأكراد تماماً كـ"خيانة" ترامب لهم، وهو توصيف استخدمه بايدن لسياسة ترامب في 2019.
يجب أن تمرّ موافقة بيع المقاتلات إلى تركيا عبر الكونغرس حيث من المتوقّع أن تصطدم هذه السياسة بمطبّات عدّة . لكن يبدو أنّ إدارة بايدن اتّخذت قرارها النهائيّ بهذا الشأن. تبقى معرفة ما إذا كان قرار الإدارة بالموافقة على بيع المقاتلات يساوي فعلاً الموافقة على شنّ أيّ عمل عسكريّ في سوريا.
---------
النهار العربي