إحلال سليماني في مقام الرّمز الأوّل لمشروع الحزب في لبنان يتم بوتيرة عالية، فبعد إغراق طريق المطار بصوره واليافطات الّتي تحمل أقواله ومواقفه، وبعد أن أقامت بلديّة الغبيري تمثالاً له في ساحة المحلّة، يحرص الحزب على بث مشهديّة سليماني في كل ما يصدر عنه من مواقف وتصوّرات ويصرّ على رفعه إلى مرتبة رفيعة من القداسة، لدرجة بات معها نصر الله نفسه يستقي شرعيته منه ومن وما يمثّله بشكل حصري.
سليماني الذي يقصده نصر الله هو ذلك الذي قتلته أميركا وأخرجته إيران من التّداول الفعليّ، وتركته لحلفائها الّذين باتوا يشكّلون نوعاّ من الحمل الثّقيل عليها في إطار مفاوضاتها مع الغرب بصدد مشروعها النّووي.
لا تفاوض إيران الغرب انطلاقاً من سليماني، بل تعلم أنّ لعبة التّصعيد العسكريّ والأمنيّ لها حدود وضوابط لا يمكنها الخروج عليها، وخصوصاً بعد أن شهدت السّاحات التي تستثمر فيها ميدانيّاً خروقات واسعة لا تصبّ في صالحها، ولم يبق لها من ساحة تحكم عليها السّيطرة بشكل كامل سوى الساحة اللّبنانية الّتي تركت حزب الله يعلي فيها صورة لسليماني تكاد تُسحب من التداول في السّاحات الأخرى.
العلاقات التّاريخيّة بين حركة أمل وآل الأسد عميقة، ولطالما كان بري يوصف بأنّه ظل الأسد في لبنان في مرحلة الأسد الأب
طريقة سليماني لا تفترض وجود ثنائيّة، وتطبيقها يتطلّب الواحديّة المطلقة وقد شرع الحزب بمحاولة فرضها على الجميع، وكانت أول آثار هذا العنوان العريض العمل على تفكيك الثّنائية الشّيعيّة.
الردّ الممكن والمتوقع من حركة أمل لا يخرج عن محاولة الاستثمار في المشروع الرّوسيّ في المنطقة والقائم على تعويم الأسد.
العلاقات التّاريخيّة بين حركة أمل وآل الأسد عميقة، ولطالما كان بري يوصف بأنّه ظل الأسد في لبنان في مرحلة الأسد الأب.
اختلفت الأمور إلى حد ما مع بشار الّذي يرجح أنّه لم يغفر له عدم مشاركته الميدانيّة في حربه ضد شعبه، وهو خيار لم يكن بإمكان بري السّير فيه من دون أن يهدّد كلّ موقعه في تركيبة الدّولة اللّبنانية من ناحية، وعلاقاته الخارجيّة التي لا تزال مفتوحة، وتجعل دوره مقبولا وضروريّاً كوسيط أو كمفاوض، في الوقت الّذي يصنّف فيه حزب الله ككيان إرهابيّ بالنسبة لعدد كبير من دول المنطقة والعالم.
رست المعادلة بين طرفي الثنائية الشيعية على تقسيم أدوار يناط فيه لحزب الله دور الوصاية بالسلاح على الدولة، بينما يلعب نبيه بري دور حارس الفساد ومشرعنه في مقابل حصوله على حصة وازنة منه.
دفعت الأزمة القائمة بهذه المعادلة إلى الذّوبان فلم يعد حزب الله قادراً أو راغباً في منح بري هذا الدّور مقابل الثمن نفسه، لأنّه صار مضطرا إلى نهب كل شيء بنفسه لتأمين النّقص في التّمويل، كما أنّه سياسيّاً وأمنياً بات يعلم أنّه لا بد له من الإمساك الكامل بكلّ الشّيعة وإجبارهم على الخضوع لمشروع سليماني اّلذي يُعنى بانتزاع الدّور عبر الخراب الشّامل.
من أجل ذلك تتّخذ الحرب الّتي يخوضها مع بري وحركة أمل شكل الصّراع على تعريف الشّيعي، ففي حين يجتهد الحزب في فرض تعريفه الّذي يجعل الشّيعيّ هو الشّخص الّذي يؤمن بسليماني، ويستعد لأن يكون انتحاريّاً يدافع عن مشروعه، تحاول حركة أمل الدفع في اتجاه الأسد وتسويق تعريف للشّيعي بأنّه الكائن الّذي يمشي في ركاب مشروع عربيّ ودوليّ يقضي بإحياء الأسد بنسخته الجديدة "اللايت" المصنّعة روسيّا، والّتي تفترض التناقض مع السّليمانيّة، والانسجام مع خريطة جديدة للبلد، دخل العرب على خط شرعنتها والقبول بها.
من هنا نفهم أنّ الهجوم الشّرس الذي شنه نصر الله في خطاباته الأخيرة على السّعوديّة والأميركيّين، بشكل يتناقض مع المسارات الّتي تفتحها إيران بنفسها معهما، لا يعني نسف الجسور بين ما تبقى من الدولة الّلّبنانية وبين المجتمعين العربيّ والدّوليّ وحسب، إنما يعني نسف الجسور بين الحزب وحركة أمل، وقطع الطريق على محاولات بري لإيجاد صيغة تضمن بقاء الحد الأدنى من الدولة قائماّ لأنّه لا وجود له خارجه.
يختنق الشّيعة جراء هذا الصّراع الذي يتنافس فيه قطبا الثّنائية على مصادرة حياتهم وأرزاقهم، وتفخيخ درب موقعهم المستقبليّ في تركيبة البلد بالألغام والعداوات الّتي لا تغتفر ولا تسقط بمرور الزّمن، ومن ورائهم يختنق عموم اللّبنانيين، وتنفجر الصراعات الحادة بين كل المكونات السّياسيّة وفق المنطق نفسه الّذي يحكم صراعات الثّنائيّ الشّيعي.
وهكذا يبدو الوضع على مشارف الانتخابات النّيابيّة دمويّاَ وبائساً، فبعد أن كانت المرحلة التي تسبقها هي مرحلة تدفّق المال السّياسيّ من الخارج بشكل ينعش الأوضاع الاقتصاديّة، لا يبدو أن هناك أيّ خارج مهتم بالتّمويل.
المجتمع الدولي يبدي حرصاً على الدّفع في اتجاه ضرورة إجراء الانتخابات ولكنّ هذا الموقف، لا يخرج عن إطار الخطاب العموميّ الّذي لا يمتلك أيّ تأثير على سير الأمور.
من هنا قد تجري الانتخابات في موعدها لأنّ لا يوجد طرف لبناني يريد تحمل كلفة رفضها في العلن، ولكن بات من الواضح أنّ الحزب مستعدٌ لمنع حدوثها بالحديد والنّار إذا لم تكن بلا معنى، ولا تشكل أي خرق جدي في بنية الّسلطات وتركيبها.
سيخوضها الحزب تحت عنوان نشر روح سليماني على البلاد، وستخوضها حركة أمل تحت عنوان إحياء الزّمان الأسديّ ومحاولة الاستفادة من التّهافت الكبير من دول المنطقة على إعادة العلاقات معه.
الصدع الذّي يصيب علاقة طرفي الثّنائيّة الشّيعيّة يصلح للتّعميم على سائر القوى السّياسيّة الّتي تخوض الانتخابات
القوى السّياسيّة الأخرى ستخوضها تحت عناوين حقوق الطّوائف، بينما تتشرذم قوى المجتمع المدنيّ وتتبعثر بشكل يوحي بأنّ قدرتها على إحداث أي خرق ضئيلة للغاية ما لم تكن معدومة.
في ظل كل هذا المشهد فإنّ الصدع الذّي يصيب علاقة طرفي الثّنائيّة الشّيعيّة يصلح للتّعميم على سائر القوى السّياسيّة الّتي تخوض الانتخابات، ما يوحي بمناخات عزلة وجو تقسيم بات يلوح في الأفق، حيث إنّ المناخ الذي يسبق الانتخابات المنتظرة لا يردّد سوى خطاب الرّغبة في عدم العيش معا.
إذا كان هناك من قاسم مشترك بين كلّ هذه الصّراعات فإنه يتجلى في واقع أنّ كلّ القوى السّياسية، وعلى غرار الثّنائية الشّيعية، تتفّق على فتح أبواب الجحيم الّذي بشّر به الرّئيس القوي في وجه اللّبنانيين الّذين باتوا رهائن غير معترف بها وغير مطروحين للتّفاوض، ولكن للإهدار المجاني على مذابح مشاريع انتحاريّة باتت عنواناً رسميّا وحصريّاً لما تنتجه البلاد من صور.
---------------
موقع تلفزيون سوريا