وقد جاءت هذه الشهادة في حينها، لتؤكد صحة المعلومات التي كنا قد حصلنا عليها من مصادر شتى، بخصوص صفقة التسليم والاستلام التي تمت بين نظام بشار الأسد و«حزب العمال الكردستاني» عبر واجهته السورية «حزب الاتحاد الديمقراطي» الذي سُلّمت إليه المناطق الكردية، وتلقى الدعم المادي والسلاح من النظام مباشرة. كما كان هناك نوع من توزيع العمل والأدوار بين إدارة ذلك الحزب لتلك المناطق، وأجهزة النظام الإدارية والأمنية التي استمرت، وما زالت مستمرة، في عملها ضمن المناطق المعنية؛ ولكن بصيغ وأشكال تتناسب مع قواعد اللعبة وأهدافها.
مناسبة الحديث في هذا الموضوع هي المقابلة التي أجراها قبل أيام الصحافي سركيس قصارجيان مع جميل بايك، الرجل الأول فعلياً في قيادة «حزب العمال الكردستاني»، وهي مقابلة طويلة، نُشر الجزء الأول منها قبل أيام في صحيفة «النهار».
ما يهمنا في هذه المقابلة هو ما صرح به بايك بخصوص طبيعة العلاقة الودية القائمة بين حزبه وعائلة الأسد؛ وتأكيده مجدداً حقيقة العلاقة التي لم تنقطع في يوم ما بين الحزب المعني ونظام آل الأسد، وهي حقيقة كنا نعرفها، وأعلنا عن ذلك في أكثر من مناسبة؛ هذا بينما كان أنصار الحزب ودراويشه والمستفيدون منه ينكرونها من دون أي سند.
ويؤكد بايك في مقابلته أنهم في الحزب يتفهمون موقف النظام، ولكنه يتمنى عليه أن يتفهم هو الآخر من جانبه وضعهم. ويشير في هذا السياق إلى فضل الحزب، تماماً كما فعل حسن نصر الله قبله، على النظام حينما منع خروج منطقة الجزيرة عن سلطته، الأمر الذي كان سيؤدي في حال حدوثه إلى سقوط حلب ودمشق بيد المعارضة، وهذا فحواه سقوط النظام نفسه.
والأغرب من كل هذا أو ذلك، أنه يقول إن العلاقة بين حزبه و«الاتحاد الديمقراطي» ليست عضوية، مدعياّ أن الأخير حزب كردي سوري التزم فلسفة وأيديولوجية عبدالله أوجلان، ومن دون أن يفصح عن طبيعة وماهية هذه «الفلسفة أو الأيديولوجية» التي أصبحت وفق كلامه، محط اهتمام الحركات الاشتراكية الديمقراطية والبيئية والنسائية في العالم أجمع.
هذا في الوقت الذي يعلم فيه الجميع أن «حزب الاتحاد الديمقراطي» هو الفرع السوري لحزب «العمال الكردستاني» تم تشكيله عام 2003، وهي المرحلة التي تلت اعتقال أوجلان عام 1999. وأن قيادات هذا الحزب، كانوا، وما زالوا أعضاء في حزب العمال؛ وأن الإدارة الذاتية التي أنشأها هذا الحزب، ويتحدث عنها بايك من موقع» حيادي» في مقابلته هي الإدارة التي يتحكم فيها كوادر حزب بايك نفسه غير السوريين من وراء الستار. وأن عمليات الخطف والتهديد والاعتقال ورفع شعارات حزب «العمال الكردستاني» وصور أوجلان في مختلف المناطق الكردية من حين إلى آخر، هي عمليات تجري بناء على أوامر، وتحت إشراف عناصر حزب بايك والأجهزة الأمنية التابعة مباشرة للحزب نفسه.
أجوبة جميل بايك عن أسئلة الصحافي اللبناني تستوجب التمعن، وقراءة ما بين السطور؛ فالرجل يدعو صراحة إلى استمرارية العلاقة والحوار بين فرعه السوري عبر واجهة الإدارة الذاتية، ونظام بشار الأسد، وذلك على أمل اعتماد النظام اللامركزية والاعتراف بالحقوق الثقافية الكردية. وهذه الطلبات من جانب بايك هي مجرد دغدغة للعواطف، يمارس من خلالها لعبة التعمية، وذلك للتغطية على دور حزبه في مساندة النظام، وذلك بناء على الدور الوظيفي الذي كُلّف به هذا الحزب من نظام حافظ الأسد منذ أوائل الثمانينات. ولم يقتصر ذلك الدور على سوريا وحدها، بل توسع ليشمل كردستان العراق، وكردستان إيران، وذلك بعد أن نسج حزب بايك العلاقات مع النظام الإيراني عبر الأسد في بدايات الثمانينات.
ما يدعونا إلى تأكيد أهمية كلام جميل بايك هو أنه يبين بوضوح توجه الأوضاع في منطقة شرق الفرات. فيبدو أن القوى الدولية والإقليمية المنخرطة في الملف السوري ميدانياً وسياسياً قد اقتربت من مرحلة التوافق على عودة النظام إلى المنطقة المعنية بدعم وكفالة روسية، وبموافقة ضمنية أمريكية وإسرائيلية.
فروسيا تعمل منذ سنوات على دفع الأمور في هذا الاتجاه عبر الترويج لصيغة من التفاهمات بين «الإدارة الذاتية» ونظام بشار؛ وهي تفاهمات قائمة أصلاً. إنما الموضوع يتعلق بكيفية إخراجها بعد أن أدّى الحزب المعني دوره. والجانب الأمريكي بناء على حساباته الجديدة، على استعداد بالتفاهم مع الجانب الإسرائيلي على ترك الساحة السورية لنفوذ روسي يضمن الشروط الإسرائيلية.
أما بالنسبة إلى الحكومة التركية، فهي تحاول أن تظهر أمام شعبها، خاصة وهي على أبواب الانتخابات، بأنها قد أفشلت خطط حزب «العمال الكردستاني» وتهديداته الإرهابية «الانفصالية»؛ ويمكن العودة مجدداً إلى بنود اتفاقية أضنة الأمنية التي وقعتها تركيا مع نظام حافظ الأسد عام 1998، مع شيء من التعديل يتناسب مع المتغيرات الجديدة.
وما يُستنتج من التحركات والتصريحات المتعددة من جانب مختلف الأطراف، ومن التهديدات التركية بهجوم وشيك على المناطق التي تسيطر عليها «قسد»؛ والمناورات التي تجري بين «قسد»، أي حزب «العمال الكردستاني» والروس، والتنسيق الميداني بين «قسد» والنظام من جهة أخرى؛ هذا إلى جانب تصريحات بعض المسؤولين في «الإدارة الذاتية»، هو أن طبخة ما تحضر في الشمال السوري، بغربه وشرقه. وهي طبخة محورها «ضمانات روسية»، وتشمل تسوية أوضاع المقاتلين، عبر دمجهم مع وحدات عسكرية تابعة للجيش، وأخرى للشرطة؛ وإخراج العناصر غير السورية، بعد أن يتم التفاهم بين مختلف الأطراف حول ذلك.
قد تأخذ الأمور في منطقة إدلب والشمال الغربي وقتاً أطول، ولكن يبدو أن هناك منحى تسارعيا بخصوص المنطقة الشرقية التي يبدو أن التوافقات قد تمت من أجل الانتقال إلى الفصل الأخير من الاتفاقية التي دخل بموجبها حزب «العمال الكردستاني». ونعني بذلك أن يعود النظام، بناء على وعود فضفاضة غير ملزمة، تشبه إلى حد كبير تلك التي منحها الروس لأهالي منطقة درعا، وغيرها من مناطق «المصالحات» التي تمت سواء في أم مناطق الغوطة وحمص وغيرها.
والتصريحات التي أدلى بها آلدار خليل القيادي في «حزب الاتحاد الديمقراطي» و«حزب العمال الكردستاني» مؤخراً حول أهمية وضرورة العودة إلى الحوار مع نظام بشار في دمشق، وليس في جنيف، تخالف تلك التي صرح بها مسؤولون آخرون سواء في «قسد» أو «مسد»، أو حتى «الإدارة الذاتية»، وهي جميعها واجهات يقف وراءها حزب «العمال الكردستاني». هذه التصريحات تؤكد أن التوجه الفعلي هو نحو العودة إلى النظام، فآلدار خليل هو من أكثر الملتزمين بما يقوله جميل بايك، بل الناطق باسمه. أما التصريحات التي صدرت، أو تصدر، عن الآخرين فهي للتعمية والتضليل ليس إلا، وذلك ضمن إطار سياسة التقية والمراوغة التي اعتمدها، ويعتمدها حزب «العمال الكردستاني» باستمرار.
الخاسر الأكبر في الصفقة المرتبقة هم السوريون، والكرد السوريون على وجه التحديد، فهؤلاء خسروا عشرات الآلاف من أبنائهم وبناتهم في مغامرات الحزب المذكور الوظيفية؛ كما هاجر منهم نحو مليون إنسان نتيجة الإجراءات التعسفية، والانتهاكات التي ارتكبها الحزب المذكور بحقهم. ويُشار هنا إلى التجنيد الإجباري غير الشرعي، وأدلجة التعليم غير المعترف به أصلاً، والاستنزاف الاقتصادي، هذا فضلاً عن الاغتيالات والاعتقالات والتغييب، وحالات خطف القاصرين والقاصرات، ومنع حرية التعبير.
فتصريحات بايك هي التي ينبغي أن تعتمد لاستشفاف توجهات حزب «العمال الكردستاني» في الملف السوري، وهي تصريحات تمهد للإعلان عن الفصل الأخير من الاتفاقية التي وقعها بنفسه مع مسؤولي نظام بشار الأمنيين في الأيام الأولى للثورة السورية. ومن الواضح أنها تتكامل بهذه الصيغة أو تلك مع خطوات التطبيع العربي الرسمي مع النظام، كما تنسجم مع التصريحات الأمريكية التي تعبر عن عدم الرغبة في تغيير النظام، وتتطابق مع المساعي الروسية الحثيثة في هذا الاتجاه، هذا إلى جانب تناغمها مع المتغيرات التي يشهدها الموقف التركي. كل ذلك يجري والمعارضة الرسمية بمنصاتها المختلفة، قد تحولت بكل أسف إلى مجرد امتداد تابع لما تستوجبه أولويات الآخرين لا السوريين.
----------------------
*كاتب وأكاديمي سوري