تتمسك تركيا بورقتها الرابحة، لتحقيق أكبر قدر من المكاسب من حلف الناتو، والولايات المتحدة الأميركية، ولا يبدو الملف السوري بعيداً عن حسابات أنقرة، إذ تضع شروطاً لانضمام فنلندا والسويد إلى "الناتو"، أهمها قطع الدولتين للعلاقات مع "حزب العمال الكردستاني/ PKK"، و"قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، وتسليم مطلوبين ينتمون لمنظمات تعتبرها تركيا "إرهابية"، يوجدون على أراضي الدولتين، كما أن الحكومة التركية لم تفوت الفرصة، لتدعو أعضاء حلف الناتو، للمشاركة في إنشاء منطقة آمنة شمالي سوريا.
مرحلة جديدة في سوريا؟
كثيرة هي التطورات التي شهدها الملف السوري خلال الأسبوع الحالي، تشي معظمها بتقارب بين واشنطن وأنقرة، وعودة القوات الأميركية لتأخذ دورها في البلاد كطرف لا يعلو على صوته صوتٌ آخر، وكان من أبرزها إعفاء واشنطن لمناطق سيطرة "قسد"، وبعض مناطق سيطرة المعارضة السورية من تأثير العقوبات الأميركية.
وأخرجت الولايات المتحدة من قائمة العقوبات "قطاعات الزراعة والاتصالات والبنية التحتية (كهرباء – ماء – نفايات) والبناء والطاقة النظيفة والتمويل والنقل والتخزين، إضافة إلى القطاعات المتعلقة بالخدمات الصحية والتعليم والتصنيع والتجارة"، كذلك سمح الاستثناء بشراء المنتجات البترولية المكررة ذات المنشأ السوري للاستخدام في سوريا باعتبار أنه ضروري للأنشطة المذكورة أعلاه.
وأكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان رفض بلاده للقرار الأميركي بإعفاء مناطق شمال شرقي سوريا والتي تسيطر عليها "قسد" من العقوبات، في حين اعتبر وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو الاستثناء بـ "الانتقائي" ومحاولة لشرعنة "حزب العمال الكردستاني".
تزامن هذا القرار، مع حديث قناة "الميادين" المقربة من إيران، عن عملية إعادة تموضع تقوم بها الولايات المتحدة شرقي حلب، من خلال نشاط مستجد لخبراء فنيين وعسكريين أميركيين في مدينة عين العرب (كوباني)، والتي انسحبت منها واشنطن في عام 2019، مشيرة إلى أن وفداً من التحالف "وصل إلى قاعدة خراب عشك في ريف مدينة عين العرب شمال شرقي حلب، وبدأ عملية إعادة تأهيل داخل القاعدة"، كما أكدت أن هذه القاعدة هي من بين عدة قواعد تنوي الولايات المتحدة "العودة إليها مجدداً، ضمن تكتيك عسكري جديد تتّبعه إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن".
تبدو روسيا أكبر الخاسرين من عودة الولايات المتحدة للملف السوري بقوة، إذ أقر نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف بأن الاتصالات بين بلاده والولايات المتحدة بشأن قضايا المنطقة وسوريا خصوصاً معلقة حالياً، على خلفية الغزو الروسي لأوكرانيا.
وأضاف: "ليس هناك أي اتصال حالياً، نحن مستعدون للحوار ومناقشة الحلول المثلى للمشكلات التي تعاني منها المنطقة عموماً وسوريا خصوصاً، لكن الأميركيين الآن يتفادون التواصل معنا"، معتبراً هذا الموقف الأميركي "تخريبياً وغير بناء".
ومما يضعف الموقف الروسي حالياً، إغلاق تركيا لمجالها الجوي أمام الطائرات العسكرية والمدنية التي تنقل جنوداً من روسيا إلى سوريا، ومن الواضح أن قرار أنقرة لم يُرح الجانب الروسي، إذ أكد بوغدانوف أن بلاده تسعى إلى إقناع أنقرة بإعادة فتح مجالها الجوي أمام الطائرات الروسية التي تنقل العساكر إلى سوريا.
ويشكّل القصف الإسرائيلي المتكرر لمواقع النظام السوري والميليشيات الإيرانية في عدة محافظات بسوريا، ضغطاً آخر على موسكو، التي اضطرت إلى تكذيب المزاعم عن استخدام العسكريين الروس منظومة "إس-300" ضد طائرات حربية إسرائيلية في أجواء سوريا، معربةً عن خيبة أملها "إلى حد ما" إزاء إدلاء عدد من كبار المسؤولين الإسرائيليين "بتصريحات معادية لروسيا" على خلفية أحداث أوكرانيا.
تركيا في موضع قوة
ترفض تركيا، انضمام فنلندا والسويد إلى حلف "الناتو"، بسبب دعم الدولتين لمنظمات مصنفة في تركيا على قوائم الإرهاب، وتضع شرطاً لانضمام الدولتين، إزالة مخاوف أنقرة المشروعة، وتسليم "إرهابيين" موجودين في البلدين.
وأعرب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، عن تحفظ تركيا على انضمام السويد وفنلندا إلى الناتو، وقال إنهما لا تبديان موقفاً صريحاً ضد التنظيمات الإرهابية، ولا يمكن لأنقرة الموافقة على انضمامهما في هذه المرحلة.
بدوره قال وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، إن بلاده تدعم سياسة الباب المفتوح للناتو، إلا أنها تمتلك مخاوف مشروعة بخصوص هذين البلدين، قائلاً: "البلدان يدعمان التنظيمات الإرهابية، لقد كشفنا عن مخاوفنا بشكل واضح، تحدثت مع نظيري من هذين البلدين في برلين، نتفهم مخاوفهم الأمنية، لكن ينبغي تبديد مخاوف تركيا أيضاً".
وتتهم أنقرة السويد وفنلندا بالتغاضي عن مطالب لتسليمها أعضاء من تنظيمي "غولن" و"PKK" التي تصنفهما تركيا "منظمات إرهابية"، إذ ذكرت وكالة "الأناضول" أن وزارة العدل التركية، طلبت من فنلندا تسليمها 6 أشخاص من تنظيم "غولن" و6 آخرين من "PKK" في آخر 5 سنوات في ضوء قرارات قضائية صادرة بذلك، كما طلبت من السويد تسليمها 10 أشخاص من تنظيم "غولن" و11 آخرين من "PKK"، ليبلغ إجمالي العناصر الذين طلبت تركيا تسليمهم من البلدين المذكورين 33، دون استجابة.
وبعد ذلك، قال أردوغان: "أبلغنا أصدقاءنا برفضنا انضمام فنلندا والسويد إلى حلف شمال الأطلسي، ونتمسك بهذا الموقف"، موضحاً أن بلاده تنتهج سياسة التوازن في علاقاتها مع روسيا وأوكرانيا، "ولا ننوي قطع الروابط مع بوتين أو زيلينسكي".
ولدى أنقرة كثير من الملفات للتفاوض عليها مع الولايات المتحدة مقابل انضمام الدولتين للناتو، ومما يخص سوريا، ربما تطلب تركيا وقف الدعم عن "قسد"، وإفساح المجال لها لاستكمال العمليات العسكرية شرق الفرات، والمشاركة الفعلية في إعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، من خلال إنشاء منطقة آمنة.
وطلب أردوغان رسمياً من حلف "الناتو"، المساهمة بإنشاء منطقة آمنة في الشمال السوري، إذ أكد أن بلاده أكملت الجزء الأهم من المنطقة الآمنة التي تخطط لإنشائها على طول حدودها مع سوريا، مضيفاً: "تعالوا وادعموا إجراءات تركيا المشروعة والعادلة والإنسانية والأخلاقية، أو على الأقل لا تقوموا بعرقلتنا".
ويفتح حديث أردوغان التكهنات حول أهداف تركيا، فعندما يؤكد الرئيس التركي أن بلاده تخطط لإنشاء المنطقة الآمنة على طول حدودها مع سوريا، يجب أولاً ضمان سيطرة أنقرة على المنطقة المقصودة، والتي يخضع جزء كبير منها لسيطرة "قسد"، في عين العرب، ومحافظة الحسكة، ولا يمكن أن تخرج منها "قسد" إلا بعملية عسكرية، أو بتوافق دولي، وتطبيق الاتفاقيات الموقعة بين تركيا وأميركا وروسيا، عام 2019 لإبعاد قوات "قسد" مسافة 32 كيلومتراً عن الحدود التركية.
ويؤكد الباحث فراس فحام، أن تركيا في موقف تفاوضي مهم في الملف السوري: "إما الحصول على دعم غربي لمنطقة آمنة شمال غربي سوريا وهو المطلب القديم المتجدد، أو رفض انضمام دول جديدة لحلف الناتو لتضييق الخناق على روسيا، والحصول بالمقابل على مساحات جغرافية جديدة في سوريا، أو تفاهمات توافق فيها روسيا على المنطقة الآمنة".
ما الذي تريده أنقرة؟
لا يرتبط الاعتراض التركي على دخول فنلندا والسويد للناتو فقط بمشكلة أنقرة مع هاتين الدولتين، بل ينبع من خلافات عميقة بين تركيا وشركائها في الناتو بخصوص كثير من القضايا على رأسها مكافحة الإرهاب.
الباحث في الشأن التركي والعلاقات الدولية، محمود علوش، يقول في حديث مع موقع تلفزيون سوريا، إن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، يرى أن الظروف الحالية تشكل فرصة مناسبة للضغط على الغرب لمعالجة بعض القضايا المجمدة، كالدعم الغربي لـ"وحدات حماية الشعب" التي تمثل العمود الفقري لـ"قسد" والعقوبات التي فرضتها بعض الدول الغربية على تصدير الأسلحة لتركيا، فضلاً عن قضية العقوبات الأميركية على صناعات الدفاع التركية وطلب شراء مقاتلات "إف - 16".
وكان أردوغان واضحاً عندما قلل من جدوى أي محادثات بين تركيا وفنلندا والسويد في إشارة إلى أن المشكلة الفعلية هي مع عدة دول غربية، كما أن قائمة المطالب التركية تتوسع وتشمل أيضاً دوراً فعالاً للناتو لحماية الحدود الجنوبية لتركيا، ومن الواضح أن أردوغان يريد إبرام صفقة شاملة مع الغربيين مقابل رفع الفيتو عن ضم فنلندا والسويد للناتو، وفقاً لـ "علوش".
من جهته قال الأستاذ في العلاقات الدولية، الدكتور سمير صالحة، إن تركيا لا تتحدث فقط عن دعم فنلندا والسويد لـ"حزب العمال الكردستاني"، بل عن توفير الحماية لمجموعات "قسد" و"مجلس سوريا الديمقراطية/ مسد"، و"وحدات حماية الشعب"، كما تطلب رفع الحظر عن استيرادها معدات تكنولوجية متطورة من البلدين، بما يضمن عدم التأثير على التكنولوجيا العسكرية والدفاعية التركية.
ما المكاسب التي يمكن انتزاعها حول سوريا؟
ذكر الباحث محمود علوش، أن مسألة الدعم الغربي لـ"وحدات حماية الشعب" في الشمال السوري من القضايا المثيرة للتوتر بين أنقرة والغرب، وما تريده أنقرة هو تصنيف الوحدات كمنظمة إرهابية حالها كحال "حزب العمال الكردستاني".
إضافة لذلك، مسألة إعادة اللاجئين السوريين تهم أردوغان في الوقت الراهن، وتريد أنقرة دعماً غربياً لمشروع إقامة منطقة آمنة، كونه لا يشكل مصلحة لتركيا فحسب، بل للأوروبيين أيضاً.
وتسعى تركيا للحفاظ على شراكتها مع روسيا وعلاقتها بالغرب، فالجانب الأكبر من المصالح التركية في سوريا مرتبط بروسيا أكثر من الولايات المتحدة، ويرى "علوش" أن أنقرة تسعى للحصول على أكبر قدر من المكاسب من كلا الطرفين، رغم أن العملية صعبة ومعقدة وتحتاج توازناً دقيقاً بين المكاسب والمخاطر.
وأردف: "تركيا ستتضرر من تداعيات أي تصعيد حول ملف دخول المساعدات الإنسانية إلى المناطق التي تديرها بسوريا، إلا أنها ستسعى لدفع الغرب إلى لعب دور أكبر في هذه المسألة ومساعدتها في جهود تحقيق الاستقرار الاقتصادي في الشمال السوري".
وهناك أكثر من اتفاق في الشمال السوري بعضها بين تركيا والولايات المتحدة، وبعضها بين تركيا وروسيا، ووفقاً للباحث في العلاقات الدولية، الدكتور باسل الحاج جاسم، ترى أنقرة أن تلك الاتفاقيات لم تنفذ، واليوم قد تكون الفرصة مواتية لتركيا من أجل تحقيق مكاسب في ملفات عديدة من ضمنها ملف الشمال السوري.
وأفاد الحاج جاسم في حديث مع موقع تلفزيون سوريا، بأن عودة اللاجئين من تركيا، وإنشاء المنطقة الآمنة التي تريدها تركيا ودعم الناتو لها، هي من الملفات المهمة لتركيا، وإذا حققت ما تريده بهذا الخصوص، تكون قد تجاوزت أكبر المخاطر والعقبات في علاقاتها سواء مع موسكو أو واشنطن، في سوريا.
ويؤكد الدكتور سمير صالحة، في حديث مع موقع تلفزيون سوريا، أن المنطقة الآمنة، والشق المتعلق بمنطقة شمال شرقي سوريا، موضوع أساسي في التفاوض بالنسبة لتركيا، إضافة لدعم خطة إعادة مليون لاجئ سوري إلى المنطقة، ومراجعة العواصم الغربية سياساتها تجاه قسد وغيرها، وحسم ملف تنظيم الدولة بأسرع وقت ممكن.
بطبيعة الحال، تحقيق تقدم في هذه الملفات لصالح تركيا، يبقى رهن التفاهمات مع الولايات المتحدة بشكل أساسي، مع ضمان عدم استفزاز روسيا، والحفاظ على الاتفاقيات الموقعة بين الجانبين حول وقف إطلاق النار في الشمال السوري، خاصة أن أنقرة تبذل وسعها لتهيئة أجواء مناسبة في البلاد قبل الانتخابات الرئاسية، ونزع نقاط القوى من يد المعارضة التركية، بما في ذلك ملف اللاجئين السوريين، لذا يبدو ملف المنطقة الآمنة غاية في الأهمية وأولوية للرئاسة التركية، وربما يكون خلق هذه المنطقة ومساهمة واشنطن بها أو عدم عرقلتها، هو الثمن لقبول انضمام فنلندا والسويد إلى الناتو، مع مراعاة مخاوف أنقرة الأمنية ووقف دعم "حزب العمال الكردستاني" و"قسد"، ورفع الحماية عن المطلوبين لها في الدولتين.
-----------
موقع تلفزيون سوريا: