هنا أيضا، يجب أن يكون المرء بربع عقل كي تمر عليه «ثورية» الشقفة، الذي نفى من جهة أن أكون أنا من يقرر الجهة التي ستحكم سوريا، لكنه تصرف وأتباعه من جهة أخرى، وكأنني قررت ذلك وانتهى الامر. وربما يكون قد انتقل الى الهجوم دفاعا عن حقه هو بتقرير من سيحكم سوريا مستقبلا، مثلما يقرر اليوم شؤون المجلس. أخيرا، هل استاء الشقفة لأن الاقتراح صدر من موسكو؟ لو كان لدى الشقفة حد أدنى من الفهم والإدراك، لقال في نفسه: هذا اقتراح يجب أن نصمت لبعض الوقت عليه، لأنه سيثير دون شك ريبة أهل السلطة، التي سيقلقها أنه قدم أمام أبواب وزارة خارجية روسيا، وقد يوحي لكثيرين من أتباعها ان أيام نظامهم صارت معدودة، لأن الروس يقبلون حكومة مرحلة انتقالية لن يكونوا هم أو بشار الأسد فيها، فلننتظر إذاً يوما أو يومين قبل ان نقول رأينا بهدوء، خاصة أننا حيال تصريح أدلى به معارض يعلم جيدا انه لا يستطيع، هو أو أي معارض آخر، حسم مصير الأزمة السورية، التي تدولت من رأسها إلى أخمص قدميها؛ وتجاوز حلها أي تفاهم بين السوريين، علما أن ما قاله تصريح وليس مرسوما جمهوريا أصدره بتعيين مناف رئيسا للحكومة الانتقالية. لو انتظر الشقفة، لوفر على نفسه البهدلة، ولسمع ما قاله النظام حول المؤامرة الصهيونية التي تكشف ارتباطات ميشيل كيلو بإسرائيل، ولأدرك أن ما يعتقده في قرارة عقله القليل محض خطأ، فالنظام لم يصل بعد إلى وضع يجعله يتفق معي على رحيل بشار الأسد، وتعيين رئيس حكومة هو ضابط في الجيش العامل، يقال أتباع الشقفة إنه لم ينشق لأنه لم يلتحق بـ«الجيش الحر»، ولم يغادر دمشق لأن أحدا لا يعرف مكانه، أرسله الأسد ليكون بديلا للثورة.
والآن، أليس أمرا مثيرا للعجب أن يثور كل هذا الغبار حول تصريح صحافي يتفق في نصه وروحه مع مقررات المعارضات السورية المختلفة وبرامجها الداخلية والسياسية، وأن لا تتوقف هذه منفردة أو مجتمعة عند تاريخ الشقفة العسكري والسياسي، وتقارن وقائع هذا التاريخ ومفرداته وممارسات الشقفة بعد تأسيس «المجلس»، مع وعوده الديموقراطية اللفظية، التي تناقض أشد التناقض معه؟ أليس أمرا مفزعا أن تسير قطاعات تريد نفسها «علمانية وديموقراطية» وراء رجل مثله أو معه، متجاهلة تاريخه خلال ثمانينيات القرن الماضي، الذي أسهم في تحويل ما كان بدايات ثورة شعبية مدنية إلى أعمال عسكرية إرهابية من نمط طائفي صرف، وتاريخه الحالي الذي يكرر حرفيا تجربة الثمانينيات المدمرة؟ أليس أمرا محبطا أن يتحالف هؤلاء معه، مع أنه صاحب التصريح الذي يدعو الى تدخل عسكري تركي في سوريا بحجة أنه لن يكون تدخلا أجنبيا لأن تركيا دولة إسلامية؟ ألم يسمع هؤلاء كلامه قبل أسابيع قليلة إلى فضائية دبي حول لواء اسكندرون، وقوله بتفاهة من لا وطن له لأن وطنه في مكان آخر، في أيديولوجيته المتأسلمة: ليس لواء اسكندرون سوريا. وعندما لفتت المذيعة، التي أجرت المقابلة معه، نظره إلى أن أن اللواء سوري، لأن الشعب الموجود فيه سوري، رد باستنكار: من قال إنه سوري، ما لنا علاقة بلواء اسكندرون، هي من تقسيمات سايكس بيكو، قبل أن يضيف: كلها أرض واحدة، تركيا وسوريا وغيرها. ويورد، أخيرا، دليلا مقنعا ينفي سورية اللواء وسكانه، حين قال: «فيه كثيرين بتركيا بيحكو عربي»!
ليس هناك أدنى مبرر للحملة عليَّ بسبب مناف طلاس، خاصة من شخص كالشقفة، أمضى حياته كإرهابي تحالف مع «ديموقراطيين» من أمثال صدام حسين وعبد الحليم خدام، الذي شكل معه «جبهة الإنقاذ الوطني»، ثم ترك بعد عامين ونيف «الإنقاذ» و«الوطنية» وبعث رسائل إلى النظام السوري في أعقاب العدوان الإسرائيلي على غزة يعرض عليه التحالف، بعد اكتشافه أنه نظام وطني. وللعلم، فقد نفذ «المراقب العام» هذه البهلوانيات الإنقاذية والتحالفية خلال أقل من ثلاثة أعوام، انتقل خلالها من النقيض إلى النقيض: من إنقاذ سوريا من النظام إلى طلب التحالف معه.
مرة أخرى: هل يصلح شخص كهذا قام بانقلاب حموي ضد الحلبيين في «الجماعة»، امتنع بعده خلال فترة طويلة عن دعوة البيانوني، المراقب العام السابق، إلى اجتماعات مكتب إرشادها رغم أنه عضو فيه؟ هناك إجماع في المجلس وبين أوساط «الاخوان» وحلفائهم على أن الشقفة لا يفقه شيئا في السياسة، لأنه أمضى شبابه في تنظيم سري مسلح، قبل أن يغادر سوريا بعد «نكبة حماه» التي لعب دورا مهما في وقوعها، ويغيب عن الشاشة طيلة ثلاثين عاما ونيف لم يسمع أحد خلالها أي شيء يتصل بأي نضال قام به خلالها، ثم فجأة التقطته جهات غير سياسية وغير سورية ونصّبته «مراقبا» على وطنية «المجلس»، وأمدّته بما تيسر جدا من مال خليجي، ووضعت تحت تصرفه محطة فضائية بقضها وقضيضها، وعددا من غير الإسلاميين في الداخل والخارج، وأطلقت يده في ثورة لا علاقة له بها، ولم تكن للحظة واحدة ولن تكون أبدا ثورة دينية أو مذهبية، حيث أسهم مع النظام في حرفها عن سلميتها ودفعها نحو الطائفية، وتخليها عن فكرة الشعب الواحد ومبدأ الحرية الذي يجمعه ويساوي بين بناته وأبنائه، وعمل بهمة على إدخال المال السياسي إليها وتسخيره لأغراض محض مذهبية في حوزتنا ملايين القصص المشينة عنها، التي يعرفها ملايين السوريين، لأن الشقفة وجماعته ومجلسه لا يصارعون النظام وحده، بل يصارعون بقدر أكبر المعارضة العلمانية والديموقراطية، وإلا لما خوّنوا رموزها ومنظماتها بمناسبة وبلا مناسبة، وشنوا عليها حملات كرتونية مدفوعة الأجر تتهمها بالعمالة لنظام كانوا يريدون التحالف معه بعد غزة، باعتباره نظاما وطنيا، في حين عرفوا كيف يفيدون من تحالف أقلية سورية معهم، استولت بدورها على «إعلان دمشق» وحرفته عن مساره وحوّلته من جهد لتوحيد المعارضة إلى صراع أعمى ضد جميع فصائلها، التي فرزها آخر بيان أصدره «حزب الشعب الديموقراطي» إلى «فريق مشكك ومتواطئ مع السلطة، وآخر منحاز لها ومنخرط فيها»، متناسيا أنه ينخرط في «المجلس الوطني» مع جماعة لو قبلت السلطة التحالف معها قبل أربعة أعوام، لكان حليفه ومراقبها العام السيد رياض الشقفة بين من يطلقون النار اليوم على السوريين؟
ذهب وفد من «المنبر الديموقراطي السوري» إلى موسكو، فانهارت موازين الكون، وخشي «إخوان» المجلس المذهبيون والعلمانيون أن يفرط طابعه التمثيلي، الذي يضعهم في موقع لا يستحقونه، وليس لديهم على الأرض ما يسوغ استحواذهم عليه، وخافوا أن يبرز على الساحتين الدولية والداخلية من يقيد جموحهم ويكشف حقيقة توزع القوى القائم في الساحة السورية. وكان أحد صبيان الشقفة قد أبلغنا في القاهرة أن مجرد المطالبة بلجنة متابعة تلاحق تنفيذ الوثيقتين اللتين تم إقرارهما هناك يعتبر مؤامرة على «المجلس» وبالتالي على الشعب والثورة، لأن المجلس هو ممثلهما الشرعي الوحيد، فالزيارة إلى موسكو لا بد ان تكون حلقة في المؤامرة، بغض النظر عما قلناه أو فعلناه هناك، وعن اتصالنا بأعضاء من «المجلس» شرحنا لهم بالتفصيل ما حدث وقوّمنا معهم موقف الروس، وأخبرناهم أننا انتقدنا مواقف موسكو داخل الاجتماع مع وزير الخارجية ومساعده وأمام أبواب الوزارة، وجعلنا ذهاب بشار الأسد شرط أي حل أو دور روسي أو غير روسي. وكنا خلال الأشهر الماضية أشد الناس حرصا على طابع المجلس التمثيلي، رغم اقتناعنا بأنه لا يمثل السوريين ولو من بعيد، وأن سياساته هي التي دمرت تماما ما كان له من طابع تمثيلي، لأنها ألحقت ضررا فادحا بالحراك وبالثورة، وبدل أن تفهم كيف فتح عنف النظام سوريا على مصراعيها أمام التدخلات الخارجية، وتعمل على فك الثورة عن الخارج وعلى إعادتها إلى أيدي السوريين، كي يصير حلها بأيدي الداخل ممكنا، ربطتها به ربطا نهائيا وتبعيا، وحولتها إلى ألعوبة بيد كل من يرغب في اللعب بها، في إطار عقلية «شقفوية» لا تعرف الوطنية، تعتقد أن التدخل التركي ليس تدخلا بالأصل لأنه إسلامي، وأن لواء اسكندرون ليس سورياً لأنه إسلامي ويتبع اليوم لدولة إسلامية.
أكل «الاخوان» المجلس، فأعفوا الشعب من الوقوف معه، لأن قطاعاته الكبرى لا تريدهم في الحكم أو في قيادة الثورة، كما انفك قسم واسع من المواطنين عن الحراك لأن المجلس يزعم أنه الوريث الشرعي للنظام، لأنه الممثل الشرعي المزعوم للشعب. لا تريد الناس في سوريا أن «تخرج من تحت الدلف لتقف تحت المزراب»، ولا تريد أن يحكمها بعد «البعث» القومي «بعث» إسلامي لن يكتفي بقيادة الدولة والمجتمع، بل سيجعل من نفسه قائد الدين والدنيا.
حرصنا على طابع المجلس التمثيلي ولم نخض أي صراع مع الإسلاميين أو ننتقدهم، بل قدمنا وثيقة في لقاء البحر الميت تطالب الجميع باعتبار التناقض مع النظام حاكما ورئيسا، وتناقضات أطراف المعارضة ثانوية، فرفض أحد رموز «الاخوان» توقيعه، بحجة أنهم أصدروا «عهدة وطنية» تجب ما قبلها وما بعدها، فكأننا أمام نسخة إسلامية من برنامج «البعث» المرحلي.
يلعب الشقفة لعبة مكشوفة قدر ما هي ساذجة. إنه يستخدم المجلس لحسم الصراع على السلطة القادمة قبل أن تسقط السلطة الحالية، وهذه سياسة خاطئة من ألفها إلى يائها تعين النظام على البقاء في السلطة، وتثير أنماطا مختلفة من الوقيعة والشقاق بين أطراف المعارضة وداخل الشعب، وتدخل إلى لغتهما مفردات تؤكد أن الشمولية والإقصاء هما اليوم أيضا طابع جماعة الشقفة، التي تصدر لنا عهدات وطنية تبالغ في احترام حقوقنا، لكنها تعاملنا في كل مناسبة كخونة، حتى إن حادت لغتنا في كلمة هنا وكلمة هناك عن لغتها.
يا سيد شقفة، بيتك من زجاج. لا ترجم غيركم بالحصى، كي لا تنهال عليك الصخور!
--------- / "السفير