بغداد التي عرفناها، كانت مدينة تعرف كيف تصنع الحب و توزعها في أزقتها القديمة و الضيقة بحميمية جعلت الشناشيل المتقابلة تبدو و كأنها لبيت واحد و التي تحولت الى مقار للفقراء العاشقين لها، على جسورها، و لكل جسر نوارس تعرفه و لاتغادره الى الآخر، نوارس قررت ان تهجر كل الجسور و دجلة حين بدأت بغداد تأن من الاحتلال و لم تتحمل اجنحتها البيضاء ثقل رماد الحرب و الحزن و الدم. بغداد صنعت الحب ووزعته على مدى تاريخها، هذا الحب الذي لم يتمكن من حمايتها سوى بالدعاء و ضم شموخها في القلوب.
ابدأ بالكتابة من ندى دوماني التي فاز فلمها الوثائقي القصير في حزيران بالجائزة الأولى لمهرجان نابولي للأفلام الوثائقية القصيرة و الخاص بالمخرجات فقط في دورته الخامسة.
اسم الفلم: رحلة المكان، و هو بدقائقه العشرين تقريبا، عن بغداد "فأنا أعشق بغداد ويجرحني كثيراً ما يحلّ بها"، هكذا كتبت في مقالة سابقة لها. و بغداد في رحلة المكان، تتلألأ في دموع اربع شخصيات، قامت ندى بمحاورتها. الفلم، بلا ديكور او بهرجة، فلا شيء يستطيع ان يمنح عشقها لبغداد حجمه سوى دموع في المنفى.
شخصيات، جعلت ندى من خلال التركيز على عيونها، المتلقي ان يرى بغداد التي عرفناها فيها.
الشخصيات كانت السيدة الجليلة امل الخضيري و التي اتفقنا ان نناديها ( خالة امل) التي كانت مؤسسة كاملة بمفردها، مؤسسة اسمها ( البيت العراقي) استطاعت من خلالها ان تحافظ على التراث العراقي من الشمال الى الجنوب، و من الشرق الى الغرب، و جمعت كل ما يمت الى هذا التراث من فن و فولكلور و مشغولات و مصنوعات يدوية. قامت باعمار مؤسستها مع بدء حملة الاعمار في منتصف 1991، لكن البيت العراقي تعرض الى النهب و الحرق في نيسان 2003، و لم يبق منها سوى قبضة الباب و التي كانت تمثل اسمها ( امل). و خالة امل تعشق بغداد و دجلتها، و مؤسستها و بيتها كانتا على دجلة، الأولى في نهاية شارع الرشيد و الثاني في الكريعات. خالة امل التي تسيل دموعها من قلبها كلما ذكرت بغداد، لم تقل في الفلم بأنها و منذ ان غادرت بغداد تواجه مرضا اصاب جلدها، لم تجد علاجا لها، و هي تعرف بأن لا علاج لمرضها سوى الجلوس في حديقتها و شم نسيم دجلة. و الشخصية الثانية النحات الكبير محمد غني حكمت، و الذي جذب المشاهدين بدموع تترقرق من عيني شاب تجاوز السبعين من عمره، ينام حالما ببغداد التي جملها بتماثيل و نصب، بقيت بعد ان نهب من نهب متحف الفن و كان احدى قاعاته تضم كل اعماله على مدى عقود. محمد غني الذي نحت العذراء مريم و هي ترتدي عباءة عراقية ووجهها يشبه تماما سيدة عراقية، فالعراق، دائما، في قلبه، حتى و ان كان في المنفى. و الشخصية الثالثة الفنان الدكتور بلاسم محمد الذي يؤكد في الفلم و في الواقع بأنه ولد في بغداد ليموت فيها، و يترك دموعه على وجهه النحيل، ليؤكد بأنه يغادر بغداد ليعود اليها، فلا معنى للحياة خارجها. و الشخصية الرابعة الاعلامية ميسون الموسوي، و هي بالرغم من قصر حياتها في بغداد التي قدمت اليها من الحلة، الا انها و هي تتذكر بيتها و جيرانها و اصدقاءها و ما تركته وراءها، تعلن عن عشقها لبغداد، و تتسءل بدموعها عن سبب نفيها!
ندى دوماني، في فلمها الأول الذي انتجته الهيئة الملكية للأفلام، تؤكد تشبثها ببغداد، تماما كما فعلت حين اصرت على تنفيذ فكرة الصديق بيير غاسمان، و كان رئيس البعثة الدولية للصليب الأحمر في بغداد بعد الاحتلال و هي الناطقة الرسمية باسمها. و كانت الفكرة ان تمول المنظمة كتابا عن العراق. و صدر الكتاب الذي قمت مع ندى بتحريره و جمعه بعنوان " جروح في شجر النخيل" و كتب مقدمته الأديب المعروف امين معلوف و نشره رياض الريس. و بين غلافي الكتاب، بغداد و العراق و ارادة شخصيات رفضت ان تغادر العراق لحين نشر الكتاب في نيسان 2007. في الكتاب، العراق الذي يقول عنه معلوف " ليس فقط العراق الذي اضاء طفولة البشر و صباهم، انما العراق الأقرب الينا بكثير. العراق الذي اضاء طفولتنا نحن و صبانا، عراق النهضة و التحديث، عراق الادباء و الملحنين و الرسامين و النحاتين و البنائين، عراق الانسان و الكلمة. الاهوال كادت تنسينا عراقنا الأحب، طمر حيا امام اعيننا و لم نكترث. جلد و مزق و اهرق دمه، و راح ضحية الجميع بلا استثناء، طمر حيا امام اعيننا و كل منا رمى الضريح حفنة من تراب و تمتم نصف صلاة، ثم ادار ظهره و اسلم ضميره للنسيان".
ندى، التي تعرف تماما معنى رحلة المكان، بعد ان واجهت الحرب اول مرة في لبنان، و لم تجد جوابا عن سؤال، سألتها و معها جميع اللبنانيين عن سبب قتلهم دون تمييز او استثناء. و هي منذئذ تحاول ان تصرخ " كفى" للحرب و الانتهاكات و مصادرة الاحلام.
ندى، افتقدك، و افتقد نهارات الجمعة التي كنا نبدأها في مقهى الشابندر، و نزور المكتبات في المتنبي و نبقى ندور في مقاهي الرشيد، و نذهب لشرب الشاي في مقهى البيروتي، حيث كنت اتمكن من التعرف، دائما، على نورس دون غيره اصبح صديقا، و لا يغادر الشاطئ او النهر قبل ان نمر على البيروتي. افتقدك، كما افتقد بغداد و شقتي التي لم انم فيها لثلاثة سنوات غير اربع ليال. افتقدك، و افتقد ضحكتك و انت تواجهين حربا و غربة و فقدانا، ضحكة كانت تحمل الكثير من الوجع، ضحكة كنت تحاولين ان تبعدي وجعها عن بغداد.. هل استعطت؟
ادري بأنك الأولى في أي عمل تقومين به، و اعلم بأن بغداد، دائما، ستكون في ذلك العمل، تنتظرين ان تعودي اليها.
و مبارك لك الجائزة الأولى صديقتي. و (يللا) تسألينني في رسالتك : متى نلتقي و متى اكون في عمان. و (يللا) مني لوجع العراق ان ينتهي، و سنلتقي ان شاء الله، اذا استمر العنف يخطئني، كما أخطأني طوال السنوات الست المريرات، و كما أخطأك سواء في لبنان او في العراق.
------
كتابات
ابدأ بالكتابة من ندى دوماني التي فاز فلمها الوثائقي القصير في حزيران بالجائزة الأولى لمهرجان نابولي للأفلام الوثائقية القصيرة و الخاص بالمخرجات فقط في دورته الخامسة.
اسم الفلم: رحلة المكان، و هو بدقائقه العشرين تقريبا، عن بغداد "فأنا أعشق بغداد ويجرحني كثيراً ما يحلّ بها"، هكذا كتبت في مقالة سابقة لها. و بغداد في رحلة المكان، تتلألأ في دموع اربع شخصيات، قامت ندى بمحاورتها. الفلم، بلا ديكور او بهرجة، فلا شيء يستطيع ان يمنح عشقها لبغداد حجمه سوى دموع في المنفى.
شخصيات، جعلت ندى من خلال التركيز على عيونها، المتلقي ان يرى بغداد التي عرفناها فيها.
الشخصيات كانت السيدة الجليلة امل الخضيري و التي اتفقنا ان نناديها ( خالة امل) التي كانت مؤسسة كاملة بمفردها، مؤسسة اسمها ( البيت العراقي) استطاعت من خلالها ان تحافظ على التراث العراقي من الشمال الى الجنوب، و من الشرق الى الغرب، و جمعت كل ما يمت الى هذا التراث من فن و فولكلور و مشغولات و مصنوعات يدوية. قامت باعمار مؤسستها مع بدء حملة الاعمار في منتصف 1991، لكن البيت العراقي تعرض الى النهب و الحرق في نيسان 2003، و لم يبق منها سوى قبضة الباب و التي كانت تمثل اسمها ( امل). و خالة امل تعشق بغداد و دجلتها، و مؤسستها و بيتها كانتا على دجلة، الأولى في نهاية شارع الرشيد و الثاني في الكريعات. خالة امل التي تسيل دموعها من قلبها كلما ذكرت بغداد، لم تقل في الفلم بأنها و منذ ان غادرت بغداد تواجه مرضا اصاب جلدها، لم تجد علاجا لها، و هي تعرف بأن لا علاج لمرضها سوى الجلوس في حديقتها و شم نسيم دجلة. و الشخصية الثانية النحات الكبير محمد غني حكمت، و الذي جذب المشاهدين بدموع تترقرق من عيني شاب تجاوز السبعين من عمره، ينام حالما ببغداد التي جملها بتماثيل و نصب، بقيت بعد ان نهب من نهب متحف الفن و كان احدى قاعاته تضم كل اعماله على مدى عقود. محمد غني الذي نحت العذراء مريم و هي ترتدي عباءة عراقية ووجهها يشبه تماما سيدة عراقية، فالعراق، دائما، في قلبه، حتى و ان كان في المنفى. و الشخصية الثالثة الفنان الدكتور بلاسم محمد الذي يؤكد في الفلم و في الواقع بأنه ولد في بغداد ليموت فيها، و يترك دموعه على وجهه النحيل، ليؤكد بأنه يغادر بغداد ليعود اليها، فلا معنى للحياة خارجها. و الشخصية الرابعة الاعلامية ميسون الموسوي، و هي بالرغم من قصر حياتها في بغداد التي قدمت اليها من الحلة، الا انها و هي تتذكر بيتها و جيرانها و اصدقاءها و ما تركته وراءها، تعلن عن عشقها لبغداد، و تتسءل بدموعها عن سبب نفيها!
ندى دوماني، في فلمها الأول الذي انتجته الهيئة الملكية للأفلام، تؤكد تشبثها ببغداد، تماما كما فعلت حين اصرت على تنفيذ فكرة الصديق بيير غاسمان، و كان رئيس البعثة الدولية للصليب الأحمر في بغداد بعد الاحتلال و هي الناطقة الرسمية باسمها. و كانت الفكرة ان تمول المنظمة كتابا عن العراق. و صدر الكتاب الذي قمت مع ندى بتحريره و جمعه بعنوان " جروح في شجر النخيل" و كتب مقدمته الأديب المعروف امين معلوف و نشره رياض الريس. و بين غلافي الكتاب، بغداد و العراق و ارادة شخصيات رفضت ان تغادر العراق لحين نشر الكتاب في نيسان 2007. في الكتاب، العراق الذي يقول عنه معلوف " ليس فقط العراق الذي اضاء طفولة البشر و صباهم، انما العراق الأقرب الينا بكثير. العراق الذي اضاء طفولتنا نحن و صبانا، عراق النهضة و التحديث، عراق الادباء و الملحنين و الرسامين و النحاتين و البنائين، عراق الانسان و الكلمة. الاهوال كادت تنسينا عراقنا الأحب، طمر حيا امام اعيننا و لم نكترث. جلد و مزق و اهرق دمه، و راح ضحية الجميع بلا استثناء، طمر حيا امام اعيننا و كل منا رمى الضريح حفنة من تراب و تمتم نصف صلاة، ثم ادار ظهره و اسلم ضميره للنسيان".
ندى، التي تعرف تماما معنى رحلة المكان، بعد ان واجهت الحرب اول مرة في لبنان، و لم تجد جوابا عن سؤال، سألتها و معها جميع اللبنانيين عن سبب قتلهم دون تمييز او استثناء. و هي منذئذ تحاول ان تصرخ " كفى" للحرب و الانتهاكات و مصادرة الاحلام.
ندى، افتقدك، و افتقد نهارات الجمعة التي كنا نبدأها في مقهى الشابندر، و نزور المكتبات في المتنبي و نبقى ندور في مقاهي الرشيد، و نذهب لشرب الشاي في مقهى البيروتي، حيث كنت اتمكن من التعرف، دائما، على نورس دون غيره اصبح صديقا، و لا يغادر الشاطئ او النهر قبل ان نمر على البيروتي. افتقدك، كما افتقد بغداد و شقتي التي لم انم فيها لثلاثة سنوات غير اربع ليال. افتقدك، و افتقد ضحكتك و انت تواجهين حربا و غربة و فقدانا، ضحكة كانت تحمل الكثير من الوجع، ضحكة كنت تحاولين ان تبعدي وجعها عن بغداد.. هل استعطت؟
ادري بأنك الأولى في أي عمل تقومين به، و اعلم بأن بغداد، دائما، ستكون في ذلك العمل، تنتظرين ان تعودي اليها.
و مبارك لك الجائزة الأولى صديقتي. و (يللا) تسألينني في رسالتك : متى نلتقي و متى اكون في عمان. و (يللا) مني لوجع العراق ان ينتهي، و سنلتقي ان شاء الله، اذا استمر العنف يخطئني، كما أخطأني طوال السنوات الست المريرات، و كما أخطأك سواء في لبنان او في العراق.
------
كتابات