على أن أصحاب فكر الهندسة الاجتماعية يطالبون بوسائل القوة الناعمة أن يقرر الناس التنازل – بحريتهم – عن حريتهم . وذلك هو المحال المنطقي، لأن الناس في اللحظة التي يقررون فيها أن يسمعوا ويطيعوا يكونون قد تنازلوا عن إرادتهم مقدما ً فلا يعتبرون بنص المصطلح شعباً بل مجرد حشد " شعبوي " مفعول به .. وكيف ُيعد مثل هذا الحشد حاكما ً لنفسه بينما هو يسلم الحاكمية لغيره تحت أي شعار دينيا ً كان أم علمانيا ً ؟
فهل يمكن للمسار الديمقراطي أن يبدأ وهذا الفكر متربص به ابتداء ؟
إن النظام الديمقراطي هو حكم مفترض فيه أن يستهدف تحقيق السعادة لأكبر أفراد المجتمع، دون أن يستعبدهم أو يذلهم، إذ يتيح لقسم كبير من الشعب أن يشارك فيه، وأن ينتخب – بحرية ووعي – الأشخاص َ الذين سيحكمونه. فهو إذن مجتمع المساواة والحرية، حيث دولة القانون والفصل بين سلطات الدولة الثلاث وتداول السلطة دوريا ً وقبول المعارضة وعدم إقصاء الأقليات ...الخ، وبهذا السلوك العام يتم تحرير وحماية وتطوير الطاقات الحيوية للإنسان . لكن الإشكالية تبدأ بالقول إن هذه الدولة تقوم على المواطنة لا على الشخصية، ذلك أن المواطنة تعني أن الفرد – الذي بلا ملامح - هو من تتعامل معه الدولة، حيث لا شأن لها بــ " شخصه " إن كان بشوشا ً أم عبوسا ً قمطريراً ، مرح الأعطاف أم نكدياً، محبا ً لجيرانه أم حقودا ً حسوداً، رجلاً كان أم امرأة ، مسلما ً أم مسيحياً أم ملحدا ً..الخ
فهل تؤمن الدولة العربية " الحديثة " ومعها سائر القوى السياسية من جماعات وأحزاب بحقوق الأشخاص فعلا ً؟ كلا فهي تصر على التدخل في تعليم وتربية وتثقيف الناس ، بل وتنسب لنفسها ديناً وكأنها شخص طبيعي، بينما هي في الواقع شخصية اعتبارية لا تموت ولا تبعث يوم القيامة مثل البشر العاديين.
ولأن الديمقراطية لا تولد إلا في مجتمع حر فلقد كان مفترضا ً قيام الدولة "الحديثة" بدعم الفردية Individuality التي هي عامود المواطنة، وأن تدع الشخصيةpersonality ليشكلها الناس بمحض إرادتهم، بيد أن هذا لا يحدث ولن يحدث ما بقيت الدولة العربية الحديثة مقتنعة بفلسفة الهندسة الاجتماعية ، وهي فلسفة تتعامل مع الكائن الحي بحسبانه مفعولا ً به وليس فاعلا ً، وبذا تخفي الدولة ُ حقيقة ارتيابها في جدارة الديمقراطية مهما تقل بغير ذلك، والأسوأ أن يشارك الدولة َ في هذا الارتياب المؤمنون مثلها بفكرة الهندسة الاجتماعية من ناصريين وماركسيين وقوميين وإسلاميين فضلا عن دعاة اللبرالية في جانبها الاقتصادي حسبُ ، ولهذا نرى هؤلاء جميعاً "يضمرون" قناعتهم بنموذج النسق الوحيد أو الحزب الواحد ، بينما هم في العلن يعرضون عبر خطاب "شعبوي " بضاعة مزجاة تحسبها ديمقراطية وهي في الحقيقة غير ذلك.
في تاريخنا العربي الإسلامي بدأ مسار الدولة بـإقرار أن مبدأ " الشورى" مقتصر على أهل الحل والعقد (= النخبة السياسية والدينية غير الملزمة آراؤها للحاكم) لينتهي هذا المسار إلى الأخذ بالمفهوم الغربي للمصطلح مع تحفظات مرجعها فلسفة الدولة شبه الدينية، التي انحرفت – منذ العصر الأموي – عن غايات الدين الإسلامي الحنيف ومقاصده العظمى : تحرير البشر من الخضوع إلا لله . ولكن بمقتضى قيام دولة الخلافة أموية كانت أم عباسية أم عثمانية جرى تأميم الدين ليكون مجرد وسيلة لحماية سلطة الدولة وحكامها على اختلاف مواقعهم ، ومن ثم فقد صح قول شاعرنا أبي العلاء : إنما هذي المذاهب أسباب ٌ / لجلب الدنيا إلى الرؤساء ِ
والحاصل أن أصحاب الهندسة الاجتماعية – بوعي منهم أو بغير وعي - إنما يطمسون جوهر الصراع الحقيقي المتمثل في طبيعة العلاقة بين فقر وبؤس الطبقات الشعبية من جهة، وبين نظام الاستغلال الاقتصادي والاجتماعي السائد عبر العصور .
فكيف يمكن للشعب أن يتحرر وأن يمارس حقه في حكم نفسه بنفسه ما لم يبدأ بثورة ثقافية يستعيد بها وعيه الذي استلب منه منذ انقسم المجتمع البشري إلى طبقات بعضها يملك الثروات ، وبعضها محروم منها ليس أمامه غير بيع قواه العضلية والعصبية لكي يأتي لنفسه ولعياله باللقمة الجافة وبالملبس البالي الخشن ؟
-----------------
جريذة نهضة مصر