في التصعيد العسكري الأخير في درعا ظهر حرص روسي منقطع النظير على التوصل إلى حلِّ سلمي، مع التلويح بالخيار العسكري كورقة تهديد، وهذا مخالف للمسار الروسي في عموم سورية والذي كانت فيه موسكو لا تتوانى عن الإفراط باستخدام العنف لفرض الاستسلام على المعارضة، واتباع سياسية الأرض المحروقة، وهذا ما حصل مع باقي المناطق التي كانت خارج سيطرة النظام السوري ولا يوجد طرف خارجي متواجد فيها.
توازنات دولية دقيقة تفسِّر المشهد في درعا، فلم يعد سراً أنَّ إيقاف الدعم عن الجبهة الجنوبية التابعة للمعارضة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وبعض البلدان العربية لم يكن مكسباً مجانياً بالنسبة للروس، بل كان مشروطاً بالتعهد بضبط النفوذ الإيراني، على اعتبار أنَّ هذا النفوذ يثير حساسية إسرائيل، وأيضاً الأردن التي تعتبر بوابة الأمن القومي للخليج العربي، بالتالي فإنَّ الحسم العسكري الشامل سيفوِّت على روسيا فرصة تعزيز المكاسب السياسية، ولذلك سعت روسيا لإيجاد حالة من التوازن بين المكوِّن المحلي من خلال القبول بفكرة بقاء بعض المجموعات غير المنضبطة بسلاحها الخفيف، وكتلة أكبر تابعة للفيلق الخامس بشكل مباشر، في مقابل قوات النظام والميليشيات الإيرانية.
الدوافع السابقة هي ذاتها التي تمنع الحل العسكري الحاسم في درعا والدفع باتجاه تهجير السكان المحليين، بل كان لافتاً خلال المفاوضات بين النظام ومن خلفه روسيا وبين الفعاليات الشعبية في درعا أنَّ الأخيرة هي من كانت تضغط عن طريق المطالبة بـ "تهجير السكان"، فهي تدرك تماماً أنَّ هذا السيناريو غير مرغوب من الفاعلين الدوليين.
ويبدو أنَّ المعسكر الآخر بقيادة الولايات المتحدة أظهر بعض المرونة في ملفات مهمَّة بالنسبة لروسيا، في خطوة تشير إلى الرغبة بجعل درعا نموذجَ اختبار مصغَّر عن الحالة السورية، فأتاحت واشنطن المجال لفتح معبر جابر/ نصيب مع الأردن، ووافقت على تمرير الغاز المصري إلى لبنان عبر سورية، بهدف سبر حجم التعاطي الإيجابي الروسي مع مطالب المجتمع الدولي المتعلِّقة بالوصول إلى حلٍّ مناسبٍ للأزمة السورية، وقد تمَّ أيضاً إرسال رسائل إيجابية لموسكو حول إمكانية رفع جزئي للحظر المفروض على عملية إعادة الإعمار، وذلك من خلال الزيارة التي أجراها "مارتن غريفيث" وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية إلى دمشق آواخر آب/ أغسطس 2021، والتي تزامنت مع إتاحة المجال للنظام للمشاركة في إيصال المساعدات الإنسانية عبر مناطقه.
موسكو اليوم أمام اختبار حقيقي من بوابة درعا، ويتضح الأمر بسلوكها من حيث القدرة على استيعاب المكون المناهض للنظام، ومدى رغبتها بدفع الأسد في المسار السياسي الحقيقي بعيداً عن عمليات تجميليَّة لا تعالج جذور المشكلة، على أنَّ الأهم من ذلك كلِّه هو ما إذا كانت موسكو ستستجيب لمطالب الأطراف الدولية الأخرى بضبط النفوذ الإيراني، أو أنَّها ستستمر بالمناورة وتحصيل المكاسب دون تقديم تنازلات.
وبناء على السلوك الروسي يمكن توقُّع الخطوة التالية من الأطراف الدولية، فإمَّا أن يتم تطوير التفاهمات ومحاولة تعميمها على مجمل سورية، أو العودة إلى عملية الضغط مجدَّداً.
حسم ملف درعا وفق سيناريو يحفظ للأطراف الدولية الأساسية الفاعلة في الملف السوري الحد الأدنى من مصالحها سيكون على الأرجح مُشجِّعاً لها لإيجاد حلٍّ لباقي المناطق بالتوازي مع صياغة اتفاق سياسي نهائي، لأنَّ روسيا حينها تكون قد اجتازت اختباراً صعباً، وتداخلاً كبيراً بين المصالح، لكن من المهم ملاحظة أنَّ التقييم لمدى نجاح تجربة درعا سيتمُّ تأجيله إلى مرحلة ما بعد تنفيذ الاتفاق النهائي الذي سيتم إنجازه بين فعاليات درعا وروسيا، لأنَّ التنفيذ هو المعيار الأساسي.
وبالنظر إلى الملف السوري الذي بات عصيَّاً عن الحل، ولأنَّ كلَّ الأطراف المتصارعة في سورية لا ترى فائدة من خلال أيِّ حلٍّ لا يضمن مصالحها؛ فإنَّ درعا اليوم تمثِّل الاختبار الحقيقي لكلِّ الأطراف.
إذاً من المحتمل أن تشكِّل درعا بداية إسدال الستار على الأزمة السورية، بما في ذلك حسم قضية مصير النظام والعملية السياسية، أو من الممكن أن تدفع إلى المزيد من التعقيد وتحرِّض الدول الفاعلة والمستاءة من الدور الإيراني نحوَ خيارات مفتوحة، من ضمنها استثمار بعض المكونات السورية لطرح ورقة الفيدراليَّة، ويبدو أنَّ حزب "اللواء السوري" و "قوة مكافحة الإرهاب" المشكَّلين حديثاً في السويداء نواة مهمة يمكن البناء عليها في حال تعثر التفاهمات.
إنَّ الصراع المحلي والدولي في درعا هو نموذج مصغَّر عن الحل في سورية، من خلال تعاطي النظام واستجابته لمطالب القوى الشعبية الرافضة لإعادة وجوده، وكذلك مرونة المعارضة في تقديم تنازلات حقيقية للوصول إلى الحل المقبول لها، وصولاً لقبول الأطراف الخارجية المتواجدة في سورية بتفاهمات تكون فيها درعا بوَّابة إسدال الستار على الأزمة في سورية، بما في ذلك حسم قضيَّة نظام الحكم في سورية والعملية السياسة، وربَّما تكون مؤشِّراً على مزيدٍ من التعقيد نظراً لعدم جاهزيَّة هذه الدول للمضي قُدماً في حلٍّ شامل، ليبقى الوضع في سورية كما هو عليه لأجلٍ غير مسمَّى.
------
تي ار تي
عيون المقالات
حلقة برباغندا إيران انتهت مدة صلاحيتها
26/11/2024
- د. منى فياض
الفرصة التي صنعناها في بروكسل
26/11/2024
- موفق نيربية
(هواجس إيران في سوريا: زحمة موفدين…)
24/11/2024
- محمد قواص
مستقبل لبنان بعهدة شيعته!
23/11/2024
- فارس خشان
هل تخشى إيران من الأسد أم عليه؟
23/11/2024
- ضياء عودة
المهمة الفاشلة لهوكستين
23/11/2024
- حازم الأمين
نظام الأسد وحرب النأي بالنفس عن الحرب
21/11/2024
- بكر صدقي
الأسد الحائر أمام الخيارات المُرّة
17/11/2024
- مالك داغستاني
العالم والشرق الأوسط بعد فوز ترامب
17/11/2024
- العميد الركن مصطفى الشيخ
إنّه سلام ما بعده سلام!
17/11/2024
- سمير التقي
تعيينات ترامب تزلزل إيران ورسالة خامنئي للأسد تتعلق بالحرب التي لم تأتِ بعد
17/11/2024
- عقيل حسين
هذا التوجس التركي من اجتياح إسرائيلي لدمشق
16/11/2024
- عبد الجبار عكيدي
السوريات في الحياة الأوروبية والتجارب السياسية
15/11/2024
- ملك توما
هل دقّت ساعة النّوويّ الإيرانيّ؟
13/11/2024
- أمين قمورية
بشـار الأسـد بين علي عبدالله صـالـح وحسـن نصر الله
13/11/2024
- فراس علاوي
“وقف الحروب” اختبارٌ لترامب “المختلف”
13/11/2024
- عبد الوهاب بدرخان
( ألم يحنِ الوقتُ لنفهم الدرس؟ )
13/11/2024
- عبد الباسط سيدا*
قنبلة “بهتشلي”.. ماذا يحدث مع الأكراد في تركيا؟
13/11/2024
- كمال أوزتورك
طرابلس "المضطهدة" بين زمنين
13/11/2024
- د.محيي الدين اللاذقاني
حين تمتحن سورية تلك النبوءات كلّّها
12/11/2024
- ايمن الشوفي
|
درعا نموذجاً لاختبار جاهزية الأطراف للحل في سورية
|
|
|