يعيب هذا التحليل/الوصف أمران أساسيّان: الأول، أنّه يستند إلى ربط مبالغ فيه بين الفاعل ونتائج فعله ذهنيّاً، فـ «داعش» ستحاول «التمدّد» خارج حدودها لأنّها تطبّق أيديولوجيّتها ومبادئها التي تبرّر وجودها، وستطبّقها بغض النظر عن الآثار الجانبيّة لفعلها ضمن مناطق الآخرين عموماً. في الوقت نفسه، سيقوم الآخرون أيضاً بالردّ على العدوان متى حصل، كذلك بغض النظر عن الجهة التي يصدر منها أو مدى استفادتها داخليّاً، هذا إن وُضِع ميزان القوّة جانباً. فحروب الطرفين تندلع بناءً على غايتهما بالسيطرة أو الدفاع، وليست مرتبطة مباشرة بتأثيراتها على الجهة الثانية، زد على ذلك أنّ الوظيفة التي تؤدّيها حالة الحرب داخليّاً على المجتمعات متشابهة في شتّى أنحاء العالم، وليست حالة خاصّة بالجهتين السابق ذكرهما.
الأمر الثاني هو عدم تفسير هذا التحليل لأسباب وقوع الطرفين في خسائر استراتيجيّة (يُفترض أنّ المسرحيّات لا تسبّبها عادةً) نتيجة الحرب خلال مناسبات عدّة، فـ «داعش» التي خسرت بشكلٍ ما حاضنتها الشعبيّة في ريف الحسكة ما كانت لتدخل معارك كهذه تكبّد حاضنتها ضرائب باهظة، جعلتها تفكّر مليّاً قبل إظهار تأييدها لـ «داعش» مرّة أخرى، كما الحال في تل براك وتل حميس وقرى أخرى في المنطقة. وما كانت وحدات حماية الشعب لتدخل في معارك خاسرة في تل أبيض وريفها من محافظة الرقّة والتي جعلت مجرّد الشكّ بانتماء أحدهم إلى حزب الاتحاد الديموقراطي جريمة عقابها النفي والمصادرة إن لم يكن القتل. وهذا بينما كانت سابقاً المقارّ التابعة لتيّار الحزب المذكور تعمل في المدينة بشيء من الحريّة، يضاف إليها تعرّضهم لاستغلال الأحزاب الكرديّة الأخرى لهذه الهزيمة إعلاميّاً لتأكيد مساوئ استبعادها عن إدارة المنطقة وجيشها.
ليس مجانباً للصواب القول إنّ «داعش» تؤدّي «وظيفة» للنظام، بل إنّ وجودها بحدّ ذاته قد يُعتبَر خدمة له، عبر محاربة الطابع المدني والمعتدل للثورة السوريّة وتحويله إلى طابع متطرّف ونكوصي يعود إلى قرون عدّة خلت. لكن، في الأغلب، فإنّ أصوليّة «داعش» المعروفة هي التي تمنعها من تجنّب أداء هذه الوظيفة على حساب التخلّي عن مبادئها، فمن «ابتغى العزّة بغير الإسلام أذلّه الله» بحسب مفهومهم.
ومن جهة أخرى، فالمقاربة السابقة لا تعني أنّه لا تتمّ فعلاً الاستفادة من هذه الحروب في التسويق الداخلي لحزب الاتحاد الديموقراطي. فهو يشنّ حملة شرسة ضدّ التنظيمات الأخرى أثناء كلّ حملة عسكريّة وبعدها، خصوصاً إن كان الائتلاف قد أصدر بياناً «سلبيّاً» من وجهة نظرهم، فعندها يتمّ كيل الاتهامات عبر كل وسائل الإعلام التي يمتلكها الحزب لتصوير المجلس الوطني الكردي (المنضوي في الائتلاف) بأنّه «متاجر بدماء الشهداء»! وتتمّ ترجمة هذه الاتهامات الإعلاميّة إلى حالات نفي واعتقال واعتداء بالضرب على الصحافيين وأعضاء الأحزاب الأخرى وإغلاق مقارّهم. كلّ هذه الانتهاكات وغيرها تؤدّي إلى اعتقاد غير واقعي ربّما حول تقصّد هذه الجهة إشعال فتيل الحرب مع «داعش» وغيرها لتبرير أفعالها داخليّاً.
لا يقود ربط حزب الاتحاد الديموقراطي و «داعش» بالنظام بأسلوب التبعيّة له وتحكّمه مطلق بهما إلى أيّ تفسير جدّي أيضاً، فهذا الربط يفتقر الى الأدلّة الملموسة (ماديّة أو منطقيّة) التي تقطع الشك باليقين، بل يعتمد على تحليل وظيفة هاتين القوّتين بشكل غائي، أي اعتبار أنّ حقيقة كون نتائج أفعالهما تصبّ في خدمة النظام يجعلهم «عملاء» للنظام أو من صنائعه. لكن أليس من الممكن القول إنّ تشتّت المعارضة المسلّحة وفشل الائتلاف أيضاً يصبّان في خدمة النظام والجهات الأخرى؟ فلماذا لا تُطبّق هذه القاعدة عليهما أيضاً؟
يضاف أن هذا التحليل يبدو وكأنّه هروب من المسؤوليّة، فحين تكون إحدى الجهات التي تحاربها المعارضة تابعةً للنظام، عندها لن تُحمَّل المعارضة مهمّة البحث في الأسباب الحقيقيّة الكامنة وراء نشأة هذه الجهات، وإن لم تكن المعرفة بأسباب نشوئها صحيحةً، فلن تكون معرفة مآلاتها سهلة، لا بل سيؤدّي اعتبار كهذا إلى تفاقم زخم هذه الجهات وازدياد شعبيتها ونفوذها بشكل يوحي فعلاً أنّ الثورة انتهت.
-----------
الحياة