ورغم تأويل صدر للتخفيف من أثر التصريحات واعتبارها وصفا لماضي الجهاز وليس لحاضره؛ لم يغير هذا من أثر ما نشر أو خفف منه، فالتصريحات بثتها ونشرتها الصحف والإذاعات المسموعة والمرئية والألكترونية، وانتقلت كالبرق؛ صوتا وصورة وكتابة. ولم يقلل التأويل من ردود الأفعال الغاضبة، التي عمت قطاعات عريضة من الرأي العام تحمل تقديرا لجهاز المخابرات العامة؛ عرفانا بأدائه الوطني المتميز في حماية مصر، ولمقارعته أجهزة مخابرات منافسة ومعادية والتفوق عليها، وكشف شبكات التجسس والتخريب التي تهدد البلاد وما زالت.
وما صرح به ابو العلا ماضي كشف جوانب ملتبسة وغامضة في العلاقة بين الرئاسة الإخوانية والمخابرات العامة، ومنذ ما قبل إقالة رئيس الجهاز السابق مراد موافي وتعيين الرئيس الحالي رأفت شحاتة، وما طرأ من تغيير على صيغة القسم الذي أداه أمام مرسي، وما أضيف إليه بعبارة 'أن يكون ولائي كاملاً لرئيس الجمهورية'.
وهذا دفع خالد علي؛ المرشح الخاسر في انتخابات رئاسة الجمهورية الأخيرة فأقام دعوى حملت رقم 3265 اختصم فيها د. مرسي بسبب تغيير القسم، وفي جلسة عقدت لنظر الدعوى مؤخرا أمام محكمة القضاء الإداري في 19 مارس الشهر الماضي؛ أكد خالد علي أن حلف اليمين بالشكل الذي تم مخالف للقانون ولمبادئ الشريعة والدستور، وقال في مرافعته 'الولاء لايكون للأشخاص مهما كانت مراكزهم ولا للأجهزة مهما كانت أدوارها وإنما للوطن وللشعب ومصدر السلطات'. وتأجل نظر إلدعوى إلى 25 يونيو القادم.
هذا في الوقت الذي كشف فيه نائب رئيس المخابرات العامة اللواء ثروت جودة في حديث لمجلة روز اليوسف في عددها الأخير، عن أن استهداف جماعة الإخوان للمخابرات العامة ليس وليد اللحظة.. وظهر جليا مع تلقي 'الجماعة' عرضا أمريكيا بدخول شركات المرتزقة وفرق الموت الأمريكية للأراضى المصرية، وفى مقدمتها شركة بلاك ووتر، وكانت'الجماعة' قد أعطت موافقتها المبدئية على العرض الأمريكي(!!) بينما اعترضت القوات المسلحة والمخابرات العامة على ذلك، وحجتهما أن مصر ليست في حاجة لمثل هذه القوات؛ ولديها ضمن تشكيلات قواتها المسلحة فرقا تتفوق عليها بمراحل، مثل الفرقة 777 والفرقة 999.
فُُسرت موافقة 'الجماعة' على الطلب الأمريكى بأنه اعتراف منها بعجز الدولة عن توفير الأمن، وبإعطاء مبرر كاف يسمح بنشر الميليشيات فى الشارع(!). ولم يكن هذا الخلاف الأول أو الأخير، فمع إسناد مهمة إدارة الجهاز لرأفت شحاتة طلب د. مرسى منه عزل المسؤولين عن النشاط الدينى بالجهاز(!) ولخص له شحاتة مهمة الجهاز فى نطاق حماية الأمن القومى من أخطار محتملة من خارج البلاد.. فضلا عن مقاومة الجاسوسية داخل وخارج مصر. ومقاومة النشاط الهدام بمختلف صوره وأشكاله، وذلك بإمداد مؤسسات وهيئات الدولة المعنية بالمعلومات حوله بعد التصديق عليها من رئيس الجمهورية.
والخلاف الأخطر ارتبط بقتل الجنود المصريين في رفح أثناء تناولهم الإفطار في رمضان الماضي، ولا يُحمل نائب رئيس المخابرات السابق المسؤولية كاملة عما حدث لـ'حماس'، خاصة مع توفر المعلومات المسبقة عن العملية، وتم وضعها أمام مرسي بوقت كاف قبل التنفيذ، وهو الذي أشر عليها بـ'الحفظ'، ونفس المعلومات وضعت أمام المشير حسين طنطاوي، وقد كانت سبب في إقالته وإقالة الفريق سامي عنان رئيس الأركان ومدير المخابرات السابق مراد موافي. ويستطرد اللواء جودة: 'إن لم تكن حماس مسؤولة، فهى متواطئة.. ويكفى أن نعلم أن عملية تأمين منفذى الجريمة، تمت من داخل قطاع غزة عبر إطلاق قذائف الهاون على معبر كارنى.. وذلك بعد إطلاق القوات الإسرائيلية النيران على المنفذين'(!!).
ومع كل هذه الخلافات فإنها كانت خلافات منضبطة بسبب اتباع الولايات المتحدة لما يمكن تسميته سياسة 'الاحتواء المتعدد'، لأغلب الأطراف الفاعلة على الساحتين المصرية والفلسطينية، وبدأت بوادر ذلك الاحتواء منذ النصف الأول من تسعينات القرن الماضي. فيما بين عامي 92 1993 إثر تعاون مراكز دراسات أمريكية وعقدها ورشة عمل موضوعها 'حل أزمة الشرق الأوسط من وجهة النظر الأمريكية'، وشارك فيها مجموعة من صناع السياسات؛ من بينهم ديك تشينى، ورونالد رامسفيلد، وكولن باول، وجون كيرى.
وخرجت الورشة بنتيجة مؤداها أن إيران هي الأولى بالمواجهة فى الشرق الأوسط، ويستوجب ذلك دعم التنظيمات والجماعات الإسلامية السنية لتحكم الوطن العربي، وتعمل على تحويل الصراع الأساسي فيه إلى صراع سني شيعي، وليس عداء صهيوني عربي. وتكررت نفس الجهود بعدها بفترة وجيزة ما بين 94 1995 في أعقاب نشر دراسة عن 'كيفية تحريك مياه الشرق الأوسط الراكدة'؛ دعت إلى أهمية ما يعرف بـ'الفوضى الخلاقة'. وأعقبها رواج مفاهيم صراع الحضارات، ونهاية التاريخ؛ تهيئة للصراع القادم بالوطن العربي ومحيطه.
اعتمد ذلك الجهد الأمريكي على تأثيره بين ما يعرف بمنظمات المجتمع المدني الممولة غربيا؛ وكاد ذلك الجهد أن يضيع سدى تحت مفاجأة ما حدث في تونس ومصر، واتساع رقعة الاحتجاجات، وخروج الملايين بأعداد لا يمكن السيطرة عليها، وعلى سبيل المثال فإن من خرجوا إلى الشارع في أنحاء مصر في الفترة من الأربعاء 9 يناير إلى الجمعة 11 يناير 2011 كانوا ما بين واحد وعشرين إلى ثلاثة وعشرين مليون متظاهر؛ من مختلف الأعمار ومن الرجال والنساء في مشهد غير مسبوق تاريخيا وعالميا.
وكم كنت مشدودا إلى حجم من خرجوا من المدن البريطانية وتجمعوا في لندن في تحرك جماهيري لمنع غزو العراق في مطلع 2003، وقُدر العدد بمليوني متظاهر. وأذكر أن صحيفة 'الديلي ميرور' خرجت في اليوم التالي، وعلى كامل صفحتها الأولى صورة المظاهرة المليونية؛ تتوسطها صورة صغيرة لرئيس الوزراء وقتها توني بلير؛ يسد أذنيه بأصابعه، وتحتها تعليق نصه 'هل أصبت بالصمم يا سيد بلير؟'، وكنت أتصورها الأكبر بعد جنازة عبد الناصر الأسطورية. حتى فاجأتنا مصر بعدد فاق كل التوقعات، والذي لا أعلم إن كان قد دخل موسوعة جينيس أم لا.
والحركة الذاتية التي ترتبت تحرك هذا الكم الضخم من البشر في وقت واحد أخرجه عن نطاق السيطرة، وهذا هو أحد أسباب الاستقطاب الحالي، وما يحيطها من ارتباك أمريكي وغربي في التعامل مع الظاهرة والفشل في احتوائها، وبدت الضغوط والكوابح الأمريكية والغربية غير فاعلة، ولم تجد أمامها إلا الرهان على الجناح 'القطبي' ودعم وصوله إلى حكم مصر واستمراره فيه، وفي الوقت ذاته فإن الإدارة الأمريكية تحرص على التواصل مع أحزاب وجماعات معارضة عديدة، ومع ذلك بدا الأمر مختلفا على مستوى الشارع الرافض لأي تدخل أمريكي وغربي، وترتب على ذلك أن استقرت محاور الاستقطاب موزعة على ثلاث قوى كبرى هي:
1 ـ قوى طائفية ومذهبية يقودها جناح 'قطبي' فاشي ودموي، مجراها إخواني قطبي، وروافده سلفية وجهادية عديدة تمكنت من الحكم وتقصي ما عداها، وتفعل ما تريد وتضرب بكل القواعد والقوانين عرض الحائط، وفي حالة صدام دائم مع طوائف الشعب وفئاته، ولم يقتصر صدامها على السياسيين والحزبيين وامتد إلى المجتمع بأسره، وخلق أزمة مجتمعية مستفحلة.
2 ـ قوى معارضة من الأحزاب المدنية؛ استطاع عدد منها أن ينضوي تحت لواء 'جبهة الإنقاذ الوطني'، التي لم تصل بعد لمستوى الفعل المطلوب ومهددة بالانفراط، بتعاملها مع الفلول ومهادنتها للقوى الطائفية والمذهبية المؤثرة؛ رغبة في الحصول على مناصب ومغانم ونفوذ، وأدى ذلك إلى ابتعاد جماعات وأحزاب راديكالية.. لم تجد فيها قدرة على تغيير موازين القوى السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي بقيت على حالها.
3 ـ قوى ثورية ممتدة على مساحة مصر كلها، وهنا أستعير وصف نائب رئيس المخابرات السابق اللواء جودة الذي يقول فيه: 'الشارع ثائر وليس غاضبا'، وهو ما حاولنا لفت النظر إليه مع مهتمين بأمر الشارع المصري ليروه بعيون جديدة، فالثورة لم تجد غير الشارع عاصما بعدما حيل بينها وبين الحكم والمشاركة في القرار، وهذا سر فشل محاولات السيطرة عليها واحتوائها أو ترويضها رغم كم وحجم العنف والاختراق والإفساد الموجه لقادتها ورموزها.
واستقرت قناعة الشارع على أن مكتب الإرشاد يقود 'الثورة المضادة'، ووضعه مع الفلول في مستوى واحد، والشارع على يقين بأن الإخوان هم من بدأوا بالعدوان على الثوار والمعارضة. وهم وحلفاؤهم أجادوا تمثيل دور الضحية طوال الوقت وفقدوا ما كان لهم من رصيد، ويضربون في ككل اتجاه، ويصبون جام غضبهم على أجهزة الصحافة والإعلام، وجريمتها أنها تنقل تصرفاته وعنفه بالصوت والصورة، ومعارك الصحافة والإعلام من الصعب أن يكسبها أحد منذ نيكسون في سبعينات القرن الماضي ودورها في كشف فضيحة 'ووترغيت'، وانتهت باستقالة أحد أقوى رؤساء أمريكا، وبعدها بسنوات كانت فضيحة بل كلينتون مع مونيكا لوينسكي، وخسر معركته أمام الصحافة والإعلام. مضطر للاعتراف والاعتذار، وهي التي هزت حكم مبارك نفسه حتى قامت الثورة وأزاحته.
إلا أن علاج المشاكل في الغرب مختلفة عن مثيلتها في مصر، فإعمال القانون واعتراف الرؤساء والمسؤولين واعتذارهم لشعوبهم وناخبيهم يمتص ضغط أجهزة الصحافة والإعلام، ويجعل الخطايا والفضائح تمر بأقل قدر من الخسائر، وتأتي المشكلة حين لا يقدر الحاكم أو المسؤول العربي على الاعتراف بخطاياه وفضائحه، ولا يمارس فضيلة الاعتذار، وهذا يكسره في ظروف حالة وعي غير مسبوقة تعم الشارع المصري!!.
وما صرح به ابو العلا ماضي كشف جوانب ملتبسة وغامضة في العلاقة بين الرئاسة الإخوانية والمخابرات العامة، ومنذ ما قبل إقالة رئيس الجهاز السابق مراد موافي وتعيين الرئيس الحالي رأفت شحاتة، وما طرأ من تغيير على صيغة القسم الذي أداه أمام مرسي، وما أضيف إليه بعبارة 'أن يكون ولائي كاملاً لرئيس الجمهورية'.
وهذا دفع خالد علي؛ المرشح الخاسر في انتخابات رئاسة الجمهورية الأخيرة فأقام دعوى حملت رقم 3265 اختصم فيها د. مرسي بسبب تغيير القسم، وفي جلسة عقدت لنظر الدعوى مؤخرا أمام محكمة القضاء الإداري في 19 مارس الشهر الماضي؛ أكد خالد علي أن حلف اليمين بالشكل الذي تم مخالف للقانون ولمبادئ الشريعة والدستور، وقال في مرافعته 'الولاء لايكون للأشخاص مهما كانت مراكزهم ولا للأجهزة مهما كانت أدوارها وإنما للوطن وللشعب ومصدر السلطات'. وتأجل نظر إلدعوى إلى 25 يونيو القادم.
هذا في الوقت الذي كشف فيه نائب رئيس المخابرات العامة اللواء ثروت جودة في حديث لمجلة روز اليوسف في عددها الأخير، عن أن استهداف جماعة الإخوان للمخابرات العامة ليس وليد اللحظة.. وظهر جليا مع تلقي 'الجماعة' عرضا أمريكيا بدخول شركات المرتزقة وفرق الموت الأمريكية للأراضى المصرية، وفى مقدمتها شركة بلاك ووتر، وكانت'الجماعة' قد أعطت موافقتها المبدئية على العرض الأمريكي(!!) بينما اعترضت القوات المسلحة والمخابرات العامة على ذلك، وحجتهما أن مصر ليست في حاجة لمثل هذه القوات؛ ولديها ضمن تشكيلات قواتها المسلحة فرقا تتفوق عليها بمراحل، مثل الفرقة 777 والفرقة 999.
فُُسرت موافقة 'الجماعة' على الطلب الأمريكى بأنه اعتراف منها بعجز الدولة عن توفير الأمن، وبإعطاء مبرر كاف يسمح بنشر الميليشيات فى الشارع(!). ولم يكن هذا الخلاف الأول أو الأخير، فمع إسناد مهمة إدارة الجهاز لرأفت شحاتة طلب د. مرسى منه عزل المسؤولين عن النشاط الدينى بالجهاز(!) ولخص له شحاتة مهمة الجهاز فى نطاق حماية الأمن القومى من أخطار محتملة من خارج البلاد.. فضلا عن مقاومة الجاسوسية داخل وخارج مصر. ومقاومة النشاط الهدام بمختلف صوره وأشكاله، وذلك بإمداد مؤسسات وهيئات الدولة المعنية بالمعلومات حوله بعد التصديق عليها من رئيس الجمهورية.
والخلاف الأخطر ارتبط بقتل الجنود المصريين في رفح أثناء تناولهم الإفطار في رمضان الماضي، ولا يُحمل نائب رئيس المخابرات السابق المسؤولية كاملة عما حدث لـ'حماس'، خاصة مع توفر المعلومات المسبقة عن العملية، وتم وضعها أمام مرسي بوقت كاف قبل التنفيذ، وهو الذي أشر عليها بـ'الحفظ'، ونفس المعلومات وضعت أمام المشير حسين طنطاوي، وقد كانت سبب في إقالته وإقالة الفريق سامي عنان رئيس الأركان ومدير المخابرات السابق مراد موافي. ويستطرد اللواء جودة: 'إن لم تكن حماس مسؤولة، فهى متواطئة.. ويكفى أن نعلم أن عملية تأمين منفذى الجريمة، تمت من داخل قطاع غزة عبر إطلاق قذائف الهاون على معبر كارنى.. وذلك بعد إطلاق القوات الإسرائيلية النيران على المنفذين'(!!).
ومع كل هذه الخلافات فإنها كانت خلافات منضبطة بسبب اتباع الولايات المتحدة لما يمكن تسميته سياسة 'الاحتواء المتعدد'، لأغلب الأطراف الفاعلة على الساحتين المصرية والفلسطينية، وبدأت بوادر ذلك الاحتواء منذ النصف الأول من تسعينات القرن الماضي. فيما بين عامي 92 1993 إثر تعاون مراكز دراسات أمريكية وعقدها ورشة عمل موضوعها 'حل أزمة الشرق الأوسط من وجهة النظر الأمريكية'، وشارك فيها مجموعة من صناع السياسات؛ من بينهم ديك تشينى، ورونالد رامسفيلد، وكولن باول، وجون كيرى.
وخرجت الورشة بنتيجة مؤداها أن إيران هي الأولى بالمواجهة فى الشرق الأوسط، ويستوجب ذلك دعم التنظيمات والجماعات الإسلامية السنية لتحكم الوطن العربي، وتعمل على تحويل الصراع الأساسي فيه إلى صراع سني شيعي، وليس عداء صهيوني عربي. وتكررت نفس الجهود بعدها بفترة وجيزة ما بين 94 1995 في أعقاب نشر دراسة عن 'كيفية تحريك مياه الشرق الأوسط الراكدة'؛ دعت إلى أهمية ما يعرف بـ'الفوضى الخلاقة'. وأعقبها رواج مفاهيم صراع الحضارات، ونهاية التاريخ؛ تهيئة للصراع القادم بالوطن العربي ومحيطه.
اعتمد ذلك الجهد الأمريكي على تأثيره بين ما يعرف بمنظمات المجتمع المدني الممولة غربيا؛ وكاد ذلك الجهد أن يضيع سدى تحت مفاجأة ما حدث في تونس ومصر، واتساع رقعة الاحتجاجات، وخروج الملايين بأعداد لا يمكن السيطرة عليها، وعلى سبيل المثال فإن من خرجوا إلى الشارع في أنحاء مصر في الفترة من الأربعاء 9 يناير إلى الجمعة 11 يناير 2011 كانوا ما بين واحد وعشرين إلى ثلاثة وعشرين مليون متظاهر؛ من مختلف الأعمار ومن الرجال والنساء في مشهد غير مسبوق تاريخيا وعالميا.
وكم كنت مشدودا إلى حجم من خرجوا من المدن البريطانية وتجمعوا في لندن في تحرك جماهيري لمنع غزو العراق في مطلع 2003، وقُدر العدد بمليوني متظاهر. وأذكر أن صحيفة 'الديلي ميرور' خرجت في اليوم التالي، وعلى كامل صفحتها الأولى صورة المظاهرة المليونية؛ تتوسطها صورة صغيرة لرئيس الوزراء وقتها توني بلير؛ يسد أذنيه بأصابعه، وتحتها تعليق نصه 'هل أصبت بالصمم يا سيد بلير؟'، وكنت أتصورها الأكبر بعد جنازة عبد الناصر الأسطورية. حتى فاجأتنا مصر بعدد فاق كل التوقعات، والذي لا أعلم إن كان قد دخل موسوعة جينيس أم لا.
والحركة الذاتية التي ترتبت تحرك هذا الكم الضخم من البشر في وقت واحد أخرجه عن نطاق السيطرة، وهذا هو أحد أسباب الاستقطاب الحالي، وما يحيطها من ارتباك أمريكي وغربي في التعامل مع الظاهرة والفشل في احتوائها، وبدت الضغوط والكوابح الأمريكية والغربية غير فاعلة، ولم تجد أمامها إلا الرهان على الجناح 'القطبي' ودعم وصوله إلى حكم مصر واستمراره فيه، وفي الوقت ذاته فإن الإدارة الأمريكية تحرص على التواصل مع أحزاب وجماعات معارضة عديدة، ومع ذلك بدا الأمر مختلفا على مستوى الشارع الرافض لأي تدخل أمريكي وغربي، وترتب على ذلك أن استقرت محاور الاستقطاب موزعة على ثلاث قوى كبرى هي:
1 ـ قوى طائفية ومذهبية يقودها جناح 'قطبي' فاشي ودموي، مجراها إخواني قطبي، وروافده سلفية وجهادية عديدة تمكنت من الحكم وتقصي ما عداها، وتفعل ما تريد وتضرب بكل القواعد والقوانين عرض الحائط، وفي حالة صدام دائم مع طوائف الشعب وفئاته، ولم يقتصر صدامها على السياسيين والحزبيين وامتد إلى المجتمع بأسره، وخلق أزمة مجتمعية مستفحلة.
2 ـ قوى معارضة من الأحزاب المدنية؛ استطاع عدد منها أن ينضوي تحت لواء 'جبهة الإنقاذ الوطني'، التي لم تصل بعد لمستوى الفعل المطلوب ومهددة بالانفراط، بتعاملها مع الفلول ومهادنتها للقوى الطائفية والمذهبية المؤثرة؛ رغبة في الحصول على مناصب ومغانم ونفوذ، وأدى ذلك إلى ابتعاد جماعات وأحزاب راديكالية.. لم تجد فيها قدرة على تغيير موازين القوى السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي بقيت على حالها.
3 ـ قوى ثورية ممتدة على مساحة مصر كلها، وهنا أستعير وصف نائب رئيس المخابرات السابق اللواء جودة الذي يقول فيه: 'الشارع ثائر وليس غاضبا'، وهو ما حاولنا لفت النظر إليه مع مهتمين بأمر الشارع المصري ليروه بعيون جديدة، فالثورة لم تجد غير الشارع عاصما بعدما حيل بينها وبين الحكم والمشاركة في القرار، وهذا سر فشل محاولات السيطرة عليها واحتوائها أو ترويضها رغم كم وحجم العنف والاختراق والإفساد الموجه لقادتها ورموزها.
واستقرت قناعة الشارع على أن مكتب الإرشاد يقود 'الثورة المضادة'، ووضعه مع الفلول في مستوى واحد، والشارع على يقين بأن الإخوان هم من بدأوا بالعدوان على الثوار والمعارضة. وهم وحلفاؤهم أجادوا تمثيل دور الضحية طوال الوقت وفقدوا ما كان لهم من رصيد، ويضربون في ككل اتجاه، ويصبون جام غضبهم على أجهزة الصحافة والإعلام، وجريمتها أنها تنقل تصرفاته وعنفه بالصوت والصورة، ومعارك الصحافة والإعلام من الصعب أن يكسبها أحد منذ نيكسون في سبعينات القرن الماضي ودورها في كشف فضيحة 'ووترغيت'، وانتهت باستقالة أحد أقوى رؤساء أمريكا، وبعدها بسنوات كانت فضيحة بل كلينتون مع مونيكا لوينسكي، وخسر معركته أمام الصحافة والإعلام. مضطر للاعتراف والاعتذار، وهي التي هزت حكم مبارك نفسه حتى قامت الثورة وأزاحته.
إلا أن علاج المشاكل في الغرب مختلفة عن مثيلتها في مصر، فإعمال القانون واعتراف الرؤساء والمسؤولين واعتذارهم لشعوبهم وناخبيهم يمتص ضغط أجهزة الصحافة والإعلام، ويجعل الخطايا والفضائح تمر بأقل قدر من الخسائر، وتأتي المشكلة حين لا يقدر الحاكم أو المسؤول العربي على الاعتراف بخطاياه وفضائحه، ولا يمارس فضيلة الاعتذار، وهذا يكسره في ظروف حالة وعي غير مسبوقة تعم الشارع المصري!!.