مرّت عشر سنوات ذاق فيها الشعب السوري، بشرائحه ومكوناته كافة، الويلات من جرائم وقتل للناس وتهجير قسري وتدمير للبلاد وتشويه للعلاقات الاجتماعية، بغرس النعرات الطائفية والقومية والدينية، فازدادت فرقة السوريين، بعدما فرّقتهم عصابة الأسد خمسة عقود. لكنّ الثورة السورية فتحت عصراً جديداً في التاريخ، لأنّها أعلنت أنّ "سورية للسوريين وليست لبيت الأسد" وأنّ على السوريين قلع أشواكهم بأنفسهم، ولذلك واجهوا عصابة متمرّسة وخبيرة في ارتكاب الجرائم.
ومن جهة أخرى، ابتليت الثورة بنخبٍ سياسية (من أحزاب وقوى وشخصيات) وصفت نفسها بالمعارضة للنظام، لكنّها عملت بعقليته، لناحية الترهل والتسلط والإقصاء واحتكار التمثيل ومحاربة النخب الوطنية الحقيقية. باختصار، احتكر النظام المجرم من جهة، والمعارضة الخائبة من جهة أخرى، المشهد السوري، وحرفوه عن مساره الوطني الشعبي الذي لم يكن طائفياً ولا دينياً ولا قومياً.
لقد اكتشف السوريون، بعد عشر سنوات من التضحيات، وتحمّل الإبادة الجماعية والتغيير الديموغرافي، أنّهم ليسوا فقط يراوحون مكانهم، بل تراجعوا كثيراً، لأنّ قانون الزمن يقول إنّ من لا يتحرّك يصبح في الماضي، وبالتالي سيتأخر. وهذا حصل معنا. عشر سنوات وعصابة الأسد لم تغير في منطقها أو توجهاتها الأمنية الدموية. واستمرت المعارضة بتكرار الحكايات نفسها منذ عشر سنوات، على الرغم من أنّ كلامها لم يعد له قيمة ولا احترام.
هناك ثنائية تعيق التقدّم إلى الخلاص من الواقع الكارثي، وهي النظام ونخب المعارضة
لكن من واجبنا أن نذكّر أنّ السوريين العاديين يختلفون عن النخب الموالية والمعارضة، أصحاب المصالح، فقد توصل الشرفاء البسطاء، أخيراً، إلى حقيقة كبرى، مفادها بأنّ السوريين هم أصحاب القضية، ومهما أصبحت معادلات الصراع، فإنّهم سيبقون أصحاب الثورة ومالكي سورية، وأنّ النظام والمعارضة انكشف دورهما، واتضح تلاعبهما بمصير السوريين. مع أنّ من غير الممكن أخلاقياً مقارنة عصابة النظام الدموية المتوحشة بالمعارضة، فإنّنا لا نتحدّث في قوانين الأخلاق والعواطف، بل عن السياسة ومفاعيلها، والمهم النتائج والأساليب التي أدّت إليها. وهنا نقارن بين النظم ونخب المعارضة الذين اعتقدوا أنّهم أوصياء على السوريين، وسيحكمونهم إلى الأبد. وإلّا كيف يبقى الائتلاف الوطني تسع سنوات من دون تغيير، وبماذا يختلف عن استبداد عصابة الأسد واحتكارها السلطة 50 عاماً.
كلّ هذه المقدمة لكي أتطرق إلى المبادرة الوطنية للصديق مضر الدبس، والتي ركّزت على حقائق يؤيدها السوريون العاديون، ويدعو فيها إلى القيام بخطوة للخلاص من هذا الواقع، والاتجاه نحو المستقبل المشرق لكلّ السوريين المؤمنين بوحدة سورية وسيادتها وحريتها وكرامتها، بعيداً عن المتسلطين وذوي العقليات المتخلفة من عصابة الأسد الإجرامية، ومن المعارضة الهزيلة. فكلاهما متمسّك تماماً بعقليةٍ قديمة، تقسّم السوريين إلى "مع وضد" لتبرير سلوكهما الذي لا يتقاطع مع مصلحة الشعب وأخلاقيات السوريين إلّا بالشعارات البرّاقة على مبدأ حقّ يُراد به باطل.
يقول قانون الزمن إنّ من لا يتحرّك يصبح في الماضي، وبالتالي سيتأخر
لقد نشر مضر الدبس سلسلة مقالات قيمة في "العربي الجديد"، حللت واقع السوريين ومسارات الثورة والقوى السياسية، واستنتجت أنّ هناك ثنائية تعيق التقدّم إلى الخلاص من هذا الواقع الكارثي، وهي النظام ونخب المعارضة، لأنّهم يحملون عقلية ما قبل الثورة 2011، فهذه الثنائية تعمّق المشكلات. وتستفيد من استمرار الكارثة وكلٌّ بطريقته. والمطلوب أن نفكّر بطريقة جديدة: إنّ السوريين العاديين يجب أن يأخذوا زمام الأمور بأيديهم، ويتخلّصوا ممن نصّب نفسه وصياً عليهم، وأن يرفع السوريون صوتهم المستقل، والذي يضع الوطن فوق كل اعتبار. وهنا، تشكّل الثنائية ومن يلف لفها عائقاً حقيقياً أمام طموحات السوريين الذين عليهم أن يتحرّروا ممن يدّعي تمثيلهم والدفاع عن مصالحهم، متستراً بشعاراتٍ برّاقة، ظاهرها وطني وحريص على سورية، لكن ممارساته تؤكّد أنه بعيد عن ذلك، فإذا كانت الأداة فاسدة، فلا تنتظروا منها حلاً للتخلص من الفساد، وإذا كانت الأداة مستبدّة ومتسلطة، فلا تنتظروا منها حلاً للخلاص من الاستبداد.
والبيان الذي أصدره مضر الدبس باسم "تأميم سورية" هو بالفعل "مانيفيست" يحاكي "بيان استقلال سورية" الذي أصدره المؤتمر السوري العام في 1920. كما أنّ كلّ ما كتبه صديقنا من أفكار جدير بالاحترام، وهي وجهة نظره، وتستحق مناقشة لها على أوسع نطاق، مع حق التعديل فيها، ولكن بالحفاظ على الجوهر. والسوريون في حاجة للتفكير بعمق في مسيرة الثورة والأدوار السياسية لمختلف الجهات، وكيف دفع الشعب ثمن كل تلك الممارسات، وأكبر دليل على هذا أنّ المأساة مستمرّة والكارثة تتضخم، بينما الأدعياء على تمثيل سورية وشعبها ما زالوا مستمرّين بشعاراتهم الخادعة وكلامهم الفارغ الذي يذر الرماد في العيون.
لم تعد الطرق التقليدية مجديةً للتغلب على التحدّيات الكبرى أمام شعبنا (ثنائية النظام والمعارضة)، بل يجب التفكير بطريقة جديدة وأسلوب جديد للخروج من عنق الزجاجة
-------------
العربي الجديد.