.
كانت تلك 'الفلسفة' تثير القشعريرة حقاً، ليس لأننا بالفعل كنّا نؤدّي 'خدمة العلم'، لا أكثر؛ ولسنا، استطراداً، على دراية بفنون القتال عامة، وقتال الشوارع والأزقة والمدن خاصة؛ بل، كذلك، لأنّ مفهوم 'الدرع البشري' في ذاته يحيل إلى صيغة الدريئة التي تتلقى الرصاص، وتلك هي وظيفتها الوحيدة! المدهش أنّ الضابط كان على حقّ، في نهاية المطاف، لأنّ أياً من زملائنا الطلاب الضباط لم يُقتل في المواجهات، رغم أنّ بعضها كان ساخناً بالفعل (كما في معركة حيّ الصاخور، مثلاً)، ورغم أنّ مجموعاتنا كانت تُنشر على هيئة دروع بشرية، وحدث مراراً أنّ الرصاص كان يمرّ من فوق رؤوسنا!
وفي هذه الأيام تحديداً، إذْ يحاصر عسكر النظام مدينة حلب، ويعتزم حرق الأخضر فيها قبل اليابس، أستعيد ـ ضمن اختلاطات متلاطمة لمشاعر الاعتزاز والأسى، البهجة والسخط، الدهشة واليقين... ـ واقعة ذات مغزى بالغ الخصوصية؛ شهدتها، شخصياً، صحبة عدد من الزملاء، في 'جبّ القبة'، أحد أعرق أحياء المدينة، والذي يقع على مرمى أمتار من سور القلعة. كنّا يومها في ساعات الفجر الأولى، وفرغنا من تفتيش أحد البيوت، ليس دون فظاظة شديدة تعمدها عناصر 'الوحدات الخاصة'، دون أن نعثر على أي سلاح، حين باغتنا المقدّم هـ. م. دخل إلى البيت مجدداً، وألقى نظرة سريعة على المكان، ثمّ سأل الساكن الوحيد (وكانت سيدة سبعينية) إنْ كانت عندها شربة ماء؛ فأجابته بنبرة جافة، ونظرة صقيعية: 'عندك البئر، فانزحْ منه واشربْ'.
ابتسم المقدّم، على نحو ماكر لن ندرك مغزاه إلا بعدئذ، وغادر المكان مع عناصره، وبقينا نحن مرابطين أمام البيت، حتى تصلنا تعليمات أخرى. وبعد دقائق أطلّت السيدة، وهي تحمل 'صدر' قشّ عريضاً، تكدست فوقه أصناف منوّعة من الجبن، والعسل، والمربى، والزيتون، والزعتر، والزيت، والبيض المقلي والمسلوق، وخبز الصاج الساخن... كانت السيدة تجهل مللنا ونحلنا، أدياننا وطوائفنا، مناطقنا وأعراقنا، ولكنها قالت، بصوت واهن ولكنه يطفح حناناً وعذوبة: 'أنتم مجبرون على هذا، وأمهاتكم بعيدات عنكم، فاعتبروني أمّكم، واقبلوا هذا الفطور بالنيابة عنهنّ'. وقبل أن نتحرر من المفاجأة الصاعقة، أو نمتلك الوقت لنتداول في ما إذا كان من الصائب ('عسكرياً'، على الأقلّ!) أن نقبل هذه الدعوة السخية الاستثنائية، تعالى مجدداً صرير عجلات سيارة الـ'رينج روفر'، يقودها المقدّم دون سواه، والابتسامة ذاتها على وجهه. 'ليس عندك شربة ماء يا خالة، أليس كذلك؟'. 'لك ماء البئر' ردّت الخالة بحزم، 'وهؤلاء أولادنا، لهم القلوب والعيون'!
تلك هي حلب، وهذه حكاية واحدة صغيرة تعكس وجدانها السوري الثرّ، وتؤشر على بعض أسفارها وأطوارها وأحوالها، بوصفها الشهباء الكريمة المجيدة الأبية، صاحبة الموقع السياسي والثقافي والحضاري، الإنساني والوطني والكفاحي، الذي تضرب جذوره عميقاً، بل تغوص في الأعمق من تاريخ سورية، القديم والوسيط والحديث والمعاصر.
وتلك هي الحاضرة التي حرص النظام أن يُطبق عليها الخناق (وربما أكثر ممّا فعل مع دمشق)، ففرض عليها حصاراً خارجياً، وأقام الحواجز في الشوارع والأحياء الرئيسية، كما نصب عدسات المراقبة في الساحات العامة وأمام المساجد، ولجأ إلى طرائق أشدّ شراسة في تفريق التظاهرات أو الاعتصامات. وهي، أيضاً، حلب بعض كبار التجّار، الذين تحالفوا مع بعض المشايخ ورجال الدين، فلعبوا دوراً ميدانياً مباشراً في إخماد النقمة الشعبية، واعتمدوا في هذا أساليب شتى تبدأ من التلويح بقطع الأرزاق، ولا تنتهي عند إصدار الفتاوى.
'حلب الشهباء'، مدينة تلك السيدة الفريدة، 'الأمّ شجاعة' على نحو ما صوّر برتولت بريخت، وأرفع؛ صارت، أيضاً، 'حلب الشهداء'، بالعشرات كلّ يوم. هي، كذلك، عاصمة الانتفاضة، راهناً وحتى إشعار آخر؛ وتلك التي تشهد، وتستعيد، أمثولة محمود درويش: 'في كلّ مئذنة/ حاوٍ، ومغتصب/ يدعو لأندلسٍ، إنْ حوصرت حلبُ