انتهت الرسالة إلى اعتذار وطلب: "لذا أعتذر منكم يا أصدقائي في تلك الجلسة. لن أقبل برحيله! وأريد القصاص من كل المجرمين، ورأس بشار في المقدمة، حتى لو دفعت حياتي ثمناً!".
غسان ياسين، الشاب الحلبي، والمعتقل السابق، الذي يبلغ من العمر 36 عاماً، عُرف بكونه الوحيد الذي تجرأ وهو داخل سوريا على المشاركة الهاتفية في برنامج "البلد بارك" الذي عرضته قناة "أورينت" حول يوم الغضب السوري. قبل فراره من سوريا، تكرر اعتقاله في آب 2011، بعدما كتب على صفحته تعليقاً قال فيه: "هم يطاردون عصابات مسلحة مجهولة، ونحن سنطرد عصابة واحدة معروفة"، التعليق الذي أعاد نشره عدد من أصدقائه، ليزجّ بعدها بأيام في أحد معتقلات الأمن السوري في حلب، وليقضي فيها بضعة أسابيع.
فالعديدون باتوا يمضون اليوم نحو مصير لم يكن وارداً لديهم مناقشته، أو مجرد التفكير فيه، في الأمس القريب، أو ربما البارحة مساء.
ح. ع. هو أيضاً محامٍ مخضرم، أمضى في المهنة أكثر من خمسة عشر عاماً، ما يعني في مدينة مثل مدينة حلب أنّ لديه من الشهرة والكفاءة والمردود الماديّ المجزي ما يتناسب مع سنوات خبرته من جهة، ومع كونه شخصاً محبوباً خدوماً في الحيّ الذي يقطنه، ولدى أبناء الناحية التي ينحدر منها.
وصل إلى المقهى، حيّا زميليه المحاميين، ثم جلس على كرسيّ جلسة من سيرحل عاجلاً: "جميل أنني رأيتكما معاً لأودّعكما. أنا مغادر إلى صلاح الدين".
"صلاح الدين" هو الحي الذي سيطر عليه "الجيش الحر" في مدينة حلب. وهو معقل من معاقل العمل الثوري المسلّح ضد الجيش النظامي الذي يقصف أحياء حلب ويدمّرها.
وحين لاحظ علامات الدهشة والاستغراب على صاحبيه، أوضح: "وصلنا اليوم صباحاً أن أخي الصغير س استشهد ليل البارحة في صلاح الدين، تعرفون أنه ترك الجامعة وانخرط في الجيش الحر منذ مدة، بعدما استشهد صديقاه في التظاهرات".
"ولم يعد من الطبيعي بعد استشهاده أن نقبع في بيوتنا في انتظار قدرنا الذي لا بد أن يأتي على شكل اعتقال وتشبيح وتنكيل وإهانات لن نتحملها. نعرف كيف سيكون الأمر. سيستبيحون أعراضنا. سيغتصبون نساءنا وربما يقتلوننا أمام أطفالنا. هذا إذا لم يقتلوهم معنا. سيحرقون بيوتنا ويدمرونها فوق رؤوسنا".
"لذا قرّرنا دون تراجع، أنا وأخواي، أن نمضي ثلاثتنا مع عائلاتنا اليوم إلى صلاح الدين. لن ننتظر حتفنا. سأمضي وسأمسك أنا قيادة المجموعة التي كان يقودها أخي. جميعهم شبه أميين. ولن يتمكنوا من قيادة ذاتهم. أو سيتحولون شيئاً فشيئاً إلى جناح قتالي آخر غريب تماماً عن روح الثورة".
أنهى حديثه بابتسامة: "غداً الجمعة... الشغل كثير... هات لأضمّكما".
مع انطلاق حراك الجامعة، بقي متفرجاً لفترة. إلى أن صدف وجوده في كلية طب الأسنان، ودخول الشبّيحة إلى حرم الكلية، وشاهد بأم عينه كيف أبرحوا الطلاب والطالبات ضرباً، وروّعوا الجميع.
كان نصيبه من اللكمات والسياط كافياً لأن يفرّ إلى منزله، ويجلس مدة أسبوع، ويلازم حجرته وشاشة كومبيوتره، كي يشاهد ما سبق أن شاهده من أفلام الـ"يوتيوب"، لكن بعين جديدة.
هو يعرف أصدقاءه النشطاء. ويعرف كيف يتصل بهم. ويعرف الهتاف جيداً. ويعرف ما سيفعل يوم الجمعة المقبل.
"باشر معنا نشاطه السلمي. ولم نعرف اسماً حقيقياً إلى أن استشهد. شارك في التظاهرات بهمّة لا مثيل لها. وأسهم في بناء الكثير من التجمعات الشبابية من دون أدنى تطلع للقيادة أو التصدر. ظل محتجباً دائماً عن الأضواء إلى أن توجّه للعمل المسلّح، ولم نره بعدئذ إلا في صور استشهاده".
شعار بدأ منذ اليوم الأول للتظاهرات السلمية، تظاهرات الحرية والكرامة، في سوريا.
وخياران لم يرغب الشعب بأيٍّ منهما. لكنهما أيضاً خياران لا يعرف النظام للشعب غيرهما.وحكايات انتشار عدوى الثورة، وتصاعد إيقاعها وقسوتها، وتعدّد أدواتها، في انتظار "يوم مشرق آخر".
¶¶¶
هذه ليست حالةً نادرة من التحولات التي تطرأ على مواقف الناس خلال حياتهم اليومية العادية. وليس القصاص وحده هو ما يدفع السوريين إلى تغيير مواقفهم. بل ثمة دافع آخر لعلّه أشد تأثيراً في تحولاتهم. إنه الجحيم الذي ينتظرهم إذا استتبت الأمور للنظام. فالعديدون باتوا يمضون اليوم نحو مصير لم يكن وارداً لديهم مناقشته، أو مجرد التفكير فيه، في الأمس القريب، أو ربما البارحة مساء.
¶¶¶
في جلسة نموذجية عُقدت أوائل أيلول 2012 في مقهى شعبي في حي الأشرفية بحلب، وهو الحيّ الذي يضمّ خليطاً عرقياً إتنياً واسع الطيف، نظر أحد المحامين الى ساعته، وقال لجليسه الذي جاء مصادفة إلى المقهى ليأخذ "نفَس أرغيلة" قبل حلول يوم الجمعة الذي سيحبس الكثيرين في بيوتهم: "أنتظر مجيء ح. ع. اتّصل بي قبل ساعة وقال لي إن أمراً مهماً يتطلب اللقاء، وحدّثني عن شيء لم أستوعبه يتعلق بالوداع". ح. ع. هو أيضاً محامٍ مخضرم، أمضى في المهنة أكثر من خمسة عشر عاماً، ما يعني في مدينة مثل مدينة حلب أنّ لديه من الشهرة والكفاءة والمردود الماديّ المجزي ما يتناسب مع سنوات خبرته من جهة، ومع كونه شخصاً محبوباً خدوماً في الحيّ الذي يقطنه، ولدى أبناء الناحية التي ينحدر منها.
وصل إلى المقهى، حيّا زميليه المحاميين، ثم جلس على كرسيّ جلسة من سيرحل عاجلاً: "جميل أنني رأيتكما معاً لأودّعكما. أنا مغادر إلى صلاح الدين".
"صلاح الدين" هو الحي الذي سيطر عليه "الجيش الحر" في مدينة حلب. وهو معقل من معاقل العمل الثوري المسلّح ضد الجيش النظامي الذي يقصف أحياء حلب ويدمّرها.
وحين لاحظ علامات الدهشة والاستغراب على صاحبيه، أوضح: "وصلنا اليوم صباحاً أن أخي الصغير س استشهد ليل البارحة في صلاح الدين، تعرفون أنه ترك الجامعة وانخرط في الجيش الحر منذ مدة، بعدما استشهد صديقاه في التظاهرات".
"ولم يعد من الطبيعي بعد استشهاده أن نقبع في بيوتنا في انتظار قدرنا الذي لا بد أن يأتي على شكل اعتقال وتشبيح وتنكيل وإهانات لن نتحملها. نعرف كيف سيكون الأمر. سيستبيحون أعراضنا. سيغتصبون نساءنا وربما يقتلوننا أمام أطفالنا. هذا إذا لم يقتلوهم معنا. سيحرقون بيوتنا ويدمرونها فوق رؤوسنا".
"لذا قرّرنا دون تراجع، أنا وأخواي، أن نمضي ثلاثتنا مع عائلاتنا اليوم إلى صلاح الدين. لن ننتظر حتفنا. سأمضي وسأمسك أنا قيادة المجموعة التي كان يقودها أخي. جميعهم شبه أميين. ولن يتمكنوا من قيادة ذاتهم. أو سيتحولون شيئاً فشيئاً إلى جناح قتالي آخر غريب تماماً عن روح الثورة".
أنهى حديثه بابتسامة: "غداً الجمعة... الشغل كثير... هات لأضمّكما".
¶¶¶
كان م. د. طالباً جامعياً مسالماً. قالوا: "كان بسيطاً نقياً صادقاً متواضعاً، لم نر مثل إخلاصه". لم يكن نشطاً من نشطاء الحراك الثوري. بل كان في بدايات الثورة يهزأ أحياناً من حماسة زملائه الذين يحدّثونه عن درعا، وعن حمص، وعن سوريا الجديدة، وعن أن "الشعب يريد إسقاط النظام". مع انطلاق حراك الجامعة، بقي متفرجاً لفترة. إلى أن صدف وجوده في كلية طب الأسنان، ودخول الشبّيحة إلى حرم الكلية، وشاهد بأم عينه كيف أبرحوا الطلاب والطالبات ضرباً، وروّعوا الجميع.
كان نصيبه من اللكمات والسياط كافياً لأن يفرّ إلى منزله، ويجلس مدة أسبوع، ويلازم حجرته وشاشة كومبيوتره، كي يشاهد ما سبق أن شاهده من أفلام الـ"يوتيوب"، لكن بعين جديدة.
هو يعرف أصدقاءه النشطاء. ويعرف كيف يتصل بهم. ويعرف الهتاف جيداً. ويعرف ما سيفعل يوم الجمعة المقبل.
"باشر معنا نشاطه السلمي. ولم نعرف اسماً حقيقياً إلى أن استشهد. شارك في التظاهرات بهمّة لا مثيل لها. وأسهم في بناء الكثير من التجمعات الشبابية من دون أدنى تطلع للقيادة أو التصدر. ظل محتجباً دائماً عن الأضواء إلى أن توجّه للعمل المسلّح، ولم نره بعدئذ إلا في صور استشهاده".
¶¶¶
إنّه إذاً الموت ولا المذلّة. شعار وخياران وحكايات. شعار بدأ منذ اليوم الأول للتظاهرات السلمية، تظاهرات الحرية والكرامة، في سوريا.
وخياران لم يرغب الشعب بأيٍّ منهما. لكنهما أيضاً خياران لا يعرف النظام للشعب غيرهما.وحكايات انتشار عدوى الثورة، وتصاعد إيقاعها وقسوتها، وتعدّد أدواتها، في انتظار "يوم مشرق آخر".
النهار البيروتية