وسط الضجيج حول دعوة رئيس حركة أمل نبيه بري الى تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية عاد الكثيرون بالذاكرة الى لبنانيي العقود الماضية من القرن العشرين من رواد النهضة أمثال جبران والريحاني ونعيمه ومارون عبود والمعلم بطرس البستاني وفرح أنطون وشبلي الشميل، والى ماركسيي البدايات، مع فؤاد الشمالي ورئيف خوري ويوسف ابراهيم يزبك وحسين مروة وعمر فاخوري، الى الناشطين في المجتمع المدني أمثال المطران غريغوار حداد وجوزف ولور مغيزل واميل البيطار وباسم الجسر والحزب الديمقراطي اللبناني، الى ميشال أسمر والندوة اللبنانية والى جماعات من الحقوقيين والصحفيين والأكاديميين والناشطين في الحقول التربوية والثقافية والاجتماعية، يوم كانت تطرح المسألة الطائفية في لبنان في إطار التفتيش عن مرتكزات النهوض بلبنان واللبنانيين والعرب للحاق بركب الحداثة والتقدّم والتطور، في سياق التأكيد على حقوق الناس وترسيخ مفاهيم الكرامة الإنسانية بعيداً عن المناورات السياسية وتمرير الرسائل في شتى الاتجاهات والتلهيّ بفك الألغاز والرموز. يوم كان الناشطون العلمانيون واللاطائفيون ينادون بمعالجة المسألة الطائفية في المدارس والجامعات وهيئات المجتمع المدني وعلى صفحات المجلات والصحف الرصينة وفي أروقة دور النشر التي جعلت من بيروت مطبعة الشرق. كل ذلك استباقا" للنزاعات الدامية والحروب الطائفية المدمّرة، وكان الهمّ الوطني اللبناني آنذاك بعضا" من همّ لبناني وعربي وإنساني عام.
وذلك يوم كان هناك من ينادي بعروبة حضارية ديمقراطية تصان فيها حرية الرأي والمعتقد وحرية التنوع والتعدد وحق الاختلاف، يوم كان العلمانيون واللاطائفيون في لبنان والعالم العربي ينطلقون من هواجس المقارنة بين تقدّم الغرب وتخلّف الشرق، ويوم كانوا يأخذون على عاتقهم فضح عنصرية اسرائيل وغيبياتها التوراتية في سياق تبريراتها لإغتصاب فلسطين وتشريد شعبها، بوضع التجربة اللبنانية في وجه الادعاءات الصهيونية.
وقد كان الطرح العلماني أو المدني أو اللاطائفي طرحاً فكرياً وسوسيولوجياً وثقافياً وفلسفياً وانسانياً، وكانت تأتي الردود عليه فكرية متجنّبة الغرق في وحول السياسية اليومية والزواريب المذهبية الضيّقة ومصالح الزعامات والطوائف والعشائر في الداخل والتجاذبات الاقليمية والدولية في الخارج.
وقد شهدت العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين والعقد الأول من هذا القرن انكسار أحلام العلمانيين واللاطائفيين على خشبة الواقع اللبناني والعربي بفعل طوباوية الخارجين على الطوائف الذين ظنوا أنهم بحسمهم المسألة الطائفية في عقولهم ومشاعرهم وأدبياتهم قد قضوا عليها في مجتمعاتهم، وباستحالة تحقيق علمنة الدولة والمجتمع بالمفهوم الغربي في العالم الاسلامي حيث لا فصل بين الدين والدولة وحيث دساتير الدول العربية تنصّ على دين للدولة، ونتيجة التضييق على الحريات في المجتمعات العربية واستبداد الأنظمة بالمتنورين في تلك المجتمعات. كما جاء انكسار أحلام اللاطائفيين بمجتمع مدني بسبب غرق الأحزاب العلمانية اللبنانية في أتون الحرب الأهلية التي عصفت بلبنان وتبنّيها الخطاب الطائفي والتحالف مع قوى طائفية وغضّ النظر عن ممارسات طائفية ومذهبية في السلوك السياسي والحياتي العام باسم الضرورة ومراعاة المرحلة والتدرّج المرحلي في التغيير. وقد أدّت الرهانات الخاطئة والأوهام السلطوية وتبعية بعض المتنورين لأهل المال والسلطة الى تهميش اللاطائفيين، إذ لم يعد لهم أي موقع في الخريطة السياسية اللبنانية. وهكذا غدا الحديث عن العلمنة وعدم تطييف الأرض والبشر في أيامنا هذه ترفاً فكرياً عاجزاً عن استقطاب الجماهير التي غدت أسيرة الدوائر المذهبية الضيقة وفريسة سهلة للخطاب الطائفي.
هذه المقدّمة ليست مضبطة اتهام بحق أحد، كما أنها ليست دفاعاً عن الطائفية السياسية ولا هجوماً على إلغائها. وانما هي ضرورية لتصحيح بعض الأخطاء التاريخية ودفاعاً عن ذكاء المواطن اللبناني لا بل النخب اللبنانية التي ما زالت تحتفظ ببعض النقاء الفكري حتى لا يتمّ استغباؤها على مدار الساعات والأيام في الأحاديث التلفزيونية وفوق المنابر، وذلك عبر الانحراف بالمصطلحات عن الأهداف التي وضعت من أجلها أو عبر طرح شعارات لا تمتّ للبراءة بصلة من حيث التوقيت أو الأهداف أو النتائج المرجوة أو السجالات التي قد تسبّبها.
لأن الغاء الطائفية لا يتمّ إلا على أيدي اللاطائفيين في عملية طويلة وشاقة يختلط فيها الفكري بالسياسي بالديني بالاقتصادي بالتربوي بالثقافي وبالتنموي.
وفي هذا السياق، ثمة تساؤلات عديدة حول الطرح المفاجىء ودون مقدّمات لرئيس حركة أمل نبيه بري لمسألة إلغاء الطائفية السياسية في خضم الاشتباك السياسي والمذهبي الداخلي والاقليمي والدولي الحاصل في لبنان حيث تخوض شريحة كبيرة من شعبه معركة استعادة الاستقلال والسيادة وإعادة تأسيس الدولة. كما جاء هذا الطرح في ظلّ توتر مذهبي سني شيعي وانقسام مسيحي وصعود للأصوليات الدينية في الجوار العربي وفي العالم الاسلامي، وفي ظلّ بروز ايران الفاعلة في الداخل اللبناني كقوة اقليمية نووية شرق أوسطية والتي تخوض معركة شرسة مع ابنائها الاصلاحيين عبر قمع احتجاجاتهم والزج بهم في السجون، وفي ظل تفاقم الاستيطان الاسرائيلي والاندفاع الشرس لتهويد فلسطين.
وهنا يسأل المراقبون عن توقيت هذا الطرح وعن أهدافه القريبة والبعيدة. فمنهم من رأى أن دعوة الرئيس بري لإلغاء الطائفية السياسية قد تزامنت مع ولادة الحكومة الجديدة ومع مجاهرة البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير بمعارضته لجمع الأقلية والأكثرية في حكومة واحدة، وباستحالة التوفيق بين الديمقراطية والسلاح غير الشرعي وبدعوته الى حصر حق استعمال القوة والسلاح وقرارات الحرب والسلم بالدولة اللبنانية دون سواها وهو الذي كان قد نبّه عشيّة الانتخابات النيابية الى تبعية حزب الله لإيران وبخطر فوز المعارضة على الكيان وعلى هوية لبنان العربية.
كما تزامنت هذه الدعوة مع مناقشات البيان الوزاري ومعارضة وزراء ما اصطلح على تسميته مسيحيي الرابع عشر من آذار اعطاء المقاومة الاسلامية التي يمثلها حزب الله شخصية معنوية مرادفة للدولة بعد أن نجح الحزب بأن يكون الناطق الشرعي والوحيد باسم الطائفة الشيعية في لبنان. وعبرّ عن هذه المعارضة إضافة الى الوزراء كل من الرئيس أمين الجميل الذي وصف المناقشات وكأنها تمهد لمعاهدة بين الدولة وحزب الله، ورئيس الهيئة التنفيذية للقوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع الذي رأى أن لا شرعية لأية سلطة تناقض العيش المشترك وان البند الوزاري المتعلق بالمقاومة يتعارض مع اتفاق الطائف. وقد وصل الأمر بعميد الكتلة الوطنية كارلوس اده الى تهنئة حزب الله على نجاحه في الغاء نتائج الانتخابات النيابية وتكريسه لأعراف جديدة لا تتفق مع آليات النظام الديمقراطي اللبناني التي نصّ عليها الدستور اللبناني.
ومن المراقبين من رأى في دعوة الرئيس بري رداً غير مباشر على مطالبة رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان بتعديل صلاحيات رئيس الجمهورية كما وردت في اتفاق الطائف.
ويعود الكثيرون الى زمن الوصاية السورية عندما كان موضوع الغاء الطائفية السياسية يطفو على السطح السياسي اللبناني كلما نادى المسيحيون الذين كانوا خارج السلطة القائمة آنذاك وفي مقدمتهم البطريرك الماروني بانسحاب الجيش السوري، أو عندما كانت أصوات المعترضين على الوجود السوري تدعو الى عدم الانتقائية في تطبيق الطائف الذي جرّد الميليشيات المسيحية من السلاح دون سواها وقلّص صلاحيات رئيس الجمهورية الماروني وأجرى الانتخابات على صعيد المحافظات دون أي تعديل في حدودها الإدارية.
فهل يكون طرح الرئيس بري "فزّاعة" ما للبطريرك صفير وللمسيحيين الرافضين تشريع سلاح حزب الله اذا ما أصروا على هذا الرفض وذلك عبر التلويح بالديمقراطية العددية عبر تعديل بنية النظام اللبناني في ظل الانكماش الديمغرافي للمسيحيين بفعل الهجرة وتضاؤل نسبة الولادات؟
أم هذا الطرح هو من باب التهديد بعدم مسّ موقع الرئاسة الثانية في أي تعديل للصلاحيات والذي قد يدعو اليه الرئيس ميشال سليمان؟ أم من باب الحفاظ على المكتسبات الشيعية التي كرّسها اتفاق الدوحة ومشاورات تشكيل الحكومة الجديدة ومناقشات البيان الوزاري؟
وهل هذه الدعوة التي أطلقها نبيه بري هي لتخويف الفئة الرافضة السير في ركاب المعادلة الجديدة التي أرساها التقارب السوري- السعودي والتي سيكون من أولى نتائجها زيارة الرئيس سعد الحريري الى دمشق؟
هناك من يرى أن ورقة التفاهم بين حزب الله و"التيار الوطني الحرّ" قد ضمنت تحالفا" استراتيجيا" بين شريحة لا يستهان بها من المسيحيين وبين حزب الله مما شكل غطاء" داخليا" وخارجيا" لسلاحه ولحراكه السياسي في الداخل اللبناني. لا سيما أن حزب الله لا يترك مناسبة الا ويردّ التحية باحسن منها الى العماد ميشال عون إما عبر دعمه في مطالبه الوزارية التي استغرق تحقيقها حوالي خمسة أشهر وإما بابرازه الزعيم المسيحي الأقوى والقادر على فرض شروطه على الآخرين، وإما عبر دعمه في الانتخابات النيابية الأخيرة بحيث يدين بالعديد من مقاعده النيابية لكثافة التصويت الشيعي لا سيما في جبيل وبعبدا وجزين؟
وقد شكل الالتفاف الجنبلاطي على حلفاء الأمس في الرابع عشر من آذار وعلى النبرة العالية للسنوات الأربع الماضية ضدّ حزب الله وحلفائه المحليين والاقليميين حافزا" إضافيا" لاستفراد المعترضين على السلاح لا سيما أن الرئيس سعد الحريري كرئيس لحكومة كل اللبنانيين لم يعد باستطاعته الردّ على المناورات والمواقف الاعلامية.
فهل دعوة نبيه بري ناتجة عن شعور متعاظم بالقوة لتأسيس شيعية سياسية شبيهة بالمارونية السياسية في القرن الماضي تفرض أعرافاً وتقاليد سياسية جديدة عبّر عنها السيد حسن نصرالله في اعلان الوثيقة السياسية للحزب عندما طرح الديمقراطية التوافقية مقابل صعوبة تحقيق الغاء الطائفية السياسية؟
أم هي دعوة جديدة لتعبيد الطريق أمام نفوذ سوري جديد يبدو كالضامن لعدم إثارة هذا الموضوع دون الاعتراض على النفوذ المستجدّ؟
وثمة من يتساءل هل أمراء الطوائف الذين يدينون لطوائفهم بوصولهم الى المواقع التي يتواجدون فيها هم المؤهلون لمعالجة المسألة الطائفية وارساء أسس المجتمع المدني؟ وبالتالي، لماذا لم ينبر للدفاع عن دعوة الرئيس بري سوى نواب كتلة التنمية والتحرير والمرجعيات الدينية الشيعية؟ مع العلم أن جميع اللبنانيين يعرفون جيداً مساوىء النظام الطائفي اللبناني وقابليته للانفجار عند نشوب أية أزمة كما يعرفون جيداً الأثمان الفادحة التي دفعوها نتيجة الحروب الطائفية والمذهبية.
وكيف السبيل الى إلغاء الطائفية في ظلّ المدارس الدينية والجمعيات الدينية والأحزاب الدينية والتجمعات السكنية الدينية وقوانين الأحوال الشخصية الخاضعة لسلطة المحاكم الدينية والمحطات التلفزيونية الطائفية والجرائد والاذاعات الطائفية؟ وانكماش التعليم الرسمي وعدم الاهتمام بالجامعة اللبنانية والتحالفات التي تنسجها الطوائف مع الدول الدينية؟
وإذا كان الغاء الطائفية السياسية يمرّ بمراحله الأولى عبر تشكيل هيئة وطنية للتدارس والتحاور والتفاوض، فإن الندية والمساواة هما الشرط الأول للحوار والتفاوض في عملية التغيير والتأسيس لحياة وطنية جديدة أو لنظام سياسي جديد. وهنا ثمة من يسأل عن فرص النجاح في الحوار الجاري بين مسلّح وأعزل. والأمثلة عديدة إن في لبنان أو في العالم عن كيفية فرض المستقوي بالسلاح لوجهة نظره في أية عملية تفاوضية، وكيف أن المعالجات الناجمة عن غصب أو قهر سرعان ما تنفجر أزمات خطيرة وصراعات دامية. لذا تبدو أية عملية اصلاحية بنيوية متعثرة في ظل عدم احتكار الدولة لحصرية السلاح.
ثم إن هناك ظاهرة غريبة في هذا السجال القائم وهي انكفاء هيئات المجتمع المدني عن هذا السجال مع العلم أن العلمانيين واللاطائفيين هم الذين دفعوا أثماناً غالية خلال الحروب المتنقلّة وتقلّبات رجال السياسة، دفعوها اضطهاداً وتشرّداً في بيئاتهم وتهميشاً في المؤسسات والمناصب والمواقع وأحياناً كثيرة حاجة وفقراً وغربة وهجرة الى الخارج ونزوحاً في الداخل. واذا احتلّ أحدهم موقعاً بالصدفة، فإنه يعطي الموقع نكهة ومذاقاً خاصاً.
وبما أن السياسة في لبنان في معظم الأوقات هي مهادنة أو تعبئة للفراغ في انتظار حدوث أمر في الخارج القريب والبعيد، فإنه من المؤسف أن يطرح موضوع بمثل هذه الأهمية لإستقرار لبنان وتقدّمه لتعبئة فراغ ما أو لإستدراج مزايدات ما.
وإذا كان المسيحيون هم المقصودين من هذه الدعوة العاجلة لإلغاء الطائفية السياسية كما يقول البعض، فإنه يترتب على نخبهم الفكرية والسياسية بالتنسيق مع النخب اللبنانية اللاطائفية الأخرى، عدم الاكتفاء بالاحتجاج بنبرة عالية وبرد فعل غاضب إنما التفتيش عن طروحات وحلول جذرية ومستقبلية للمسألة الطائفية مستعيدين دور الروّاد منهم في التصدّي للقضايا الوطنية الكبرى حتى لا تستعمل هذه الفقرة من الدستور "فزّاعة" كلما دقّ الكوز بالجرّة عند كل مفصل أو مفترق.
وبناءً على كل ما تقدّم فإن الارتجال والتسرع في التصدي لموضوع الطائفية هذا المرض المزمن الذي يفتك بالجسد اللبناني يؤكدان عدم جدية هذه الدعوة في التوقيت والأهداف والآليات.
وذلك يوم كان هناك من ينادي بعروبة حضارية ديمقراطية تصان فيها حرية الرأي والمعتقد وحرية التنوع والتعدد وحق الاختلاف، يوم كان العلمانيون واللاطائفيون في لبنان والعالم العربي ينطلقون من هواجس المقارنة بين تقدّم الغرب وتخلّف الشرق، ويوم كانوا يأخذون على عاتقهم فضح عنصرية اسرائيل وغيبياتها التوراتية في سياق تبريراتها لإغتصاب فلسطين وتشريد شعبها، بوضع التجربة اللبنانية في وجه الادعاءات الصهيونية.
وقد كان الطرح العلماني أو المدني أو اللاطائفي طرحاً فكرياً وسوسيولوجياً وثقافياً وفلسفياً وانسانياً، وكانت تأتي الردود عليه فكرية متجنّبة الغرق في وحول السياسية اليومية والزواريب المذهبية الضيّقة ومصالح الزعامات والطوائف والعشائر في الداخل والتجاذبات الاقليمية والدولية في الخارج.
وقد شهدت العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين والعقد الأول من هذا القرن انكسار أحلام العلمانيين واللاطائفيين على خشبة الواقع اللبناني والعربي بفعل طوباوية الخارجين على الطوائف الذين ظنوا أنهم بحسمهم المسألة الطائفية في عقولهم ومشاعرهم وأدبياتهم قد قضوا عليها في مجتمعاتهم، وباستحالة تحقيق علمنة الدولة والمجتمع بالمفهوم الغربي في العالم الاسلامي حيث لا فصل بين الدين والدولة وحيث دساتير الدول العربية تنصّ على دين للدولة، ونتيجة التضييق على الحريات في المجتمعات العربية واستبداد الأنظمة بالمتنورين في تلك المجتمعات. كما جاء انكسار أحلام اللاطائفيين بمجتمع مدني بسبب غرق الأحزاب العلمانية اللبنانية في أتون الحرب الأهلية التي عصفت بلبنان وتبنّيها الخطاب الطائفي والتحالف مع قوى طائفية وغضّ النظر عن ممارسات طائفية ومذهبية في السلوك السياسي والحياتي العام باسم الضرورة ومراعاة المرحلة والتدرّج المرحلي في التغيير. وقد أدّت الرهانات الخاطئة والأوهام السلطوية وتبعية بعض المتنورين لأهل المال والسلطة الى تهميش اللاطائفيين، إذ لم يعد لهم أي موقع في الخريطة السياسية اللبنانية. وهكذا غدا الحديث عن العلمنة وعدم تطييف الأرض والبشر في أيامنا هذه ترفاً فكرياً عاجزاً عن استقطاب الجماهير التي غدت أسيرة الدوائر المذهبية الضيقة وفريسة سهلة للخطاب الطائفي.
هذه المقدّمة ليست مضبطة اتهام بحق أحد، كما أنها ليست دفاعاً عن الطائفية السياسية ولا هجوماً على إلغائها. وانما هي ضرورية لتصحيح بعض الأخطاء التاريخية ودفاعاً عن ذكاء المواطن اللبناني لا بل النخب اللبنانية التي ما زالت تحتفظ ببعض النقاء الفكري حتى لا يتمّ استغباؤها على مدار الساعات والأيام في الأحاديث التلفزيونية وفوق المنابر، وذلك عبر الانحراف بالمصطلحات عن الأهداف التي وضعت من أجلها أو عبر طرح شعارات لا تمتّ للبراءة بصلة من حيث التوقيت أو الأهداف أو النتائج المرجوة أو السجالات التي قد تسبّبها.
لأن الغاء الطائفية لا يتمّ إلا على أيدي اللاطائفيين في عملية طويلة وشاقة يختلط فيها الفكري بالسياسي بالديني بالاقتصادي بالتربوي بالثقافي وبالتنموي.
وفي هذا السياق، ثمة تساؤلات عديدة حول الطرح المفاجىء ودون مقدّمات لرئيس حركة أمل نبيه بري لمسألة إلغاء الطائفية السياسية في خضم الاشتباك السياسي والمذهبي الداخلي والاقليمي والدولي الحاصل في لبنان حيث تخوض شريحة كبيرة من شعبه معركة استعادة الاستقلال والسيادة وإعادة تأسيس الدولة. كما جاء هذا الطرح في ظلّ توتر مذهبي سني شيعي وانقسام مسيحي وصعود للأصوليات الدينية في الجوار العربي وفي العالم الاسلامي، وفي ظلّ بروز ايران الفاعلة في الداخل اللبناني كقوة اقليمية نووية شرق أوسطية والتي تخوض معركة شرسة مع ابنائها الاصلاحيين عبر قمع احتجاجاتهم والزج بهم في السجون، وفي ظل تفاقم الاستيطان الاسرائيلي والاندفاع الشرس لتهويد فلسطين.
وهنا يسأل المراقبون عن توقيت هذا الطرح وعن أهدافه القريبة والبعيدة. فمنهم من رأى أن دعوة الرئيس بري لإلغاء الطائفية السياسية قد تزامنت مع ولادة الحكومة الجديدة ومع مجاهرة البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير بمعارضته لجمع الأقلية والأكثرية في حكومة واحدة، وباستحالة التوفيق بين الديمقراطية والسلاح غير الشرعي وبدعوته الى حصر حق استعمال القوة والسلاح وقرارات الحرب والسلم بالدولة اللبنانية دون سواها وهو الذي كان قد نبّه عشيّة الانتخابات النيابية الى تبعية حزب الله لإيران وبخطر فوز المعارضة على الكيان وعلى هوية لبنان العربية.
كما تزامنت هذه الدعوة مع مناقشات البيان الوزاري ومعارضة وزراء ما اصطلح على تسميته مسيحيي الرابع عشر من آذار اعطاء المقاومة الاسلامية التي يمثلها حزب الله شخصية معنوية مرادفة للدولة بعد أن نجح الحزب بأن يكون الناطق الشرعي والوحيد باسم الطائفة الشيعية في لبنان. وعبرّ عن هذه المعارضة إضافة الى الوزراء كل من الرئيس أمين الجميل الذي وصف المناقشات وكأنها تمهد لمعاهدة بين الدولة وحزب الله، ورئيس الهيئة التنفيذية للقوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع الذي رأى أن لا شرعية لأية سلطة تناقض العيش المشترك وان البند الوزاري المتعلق بالمقاومة يتعارض مع اتفاق الطائف. وقد وصل الأمر بعميد الكتلة الوطنية كارلوس اده الى تهنئة حزب الله على نجاحه في الغاء نتائج الانتخابات النيابية وتكريسه لأعراف جديدة لا تتفق مع آليات النظام الديمقراطي اللبناني التي نصّ عليها الدستور اللبناني.
ومن المراقبين من رأى في دعوة الرئيس بري رداً غير مباشر على مطالبة رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان بتعديل صلاحيات رئيس الجمهورية كما وردت في اتفاق الطائف.
ويعود الكثيرون الى زمن الوصاية السورية عندما كان موضوع الغاء الطائفية السياسية يطفو على السطح السياسي اللبناني كلما نادى المسيحيون الذين كانوا خارج السلطة القائمة آنذاك وفي مقدمتهم البطريرك الماروني بانسحاب الجيش السوري، أو عندما كانت أصوات المعترضين على الوجود السوري تدعو الى عدم الانتقائية في تطبيق الطائف الذي جرّد الميليشيات المسيحية من السلاح دون سواها وقلّص صلاحيات رئيس الجمهورية الماروني وأجرى الانتخابات على صعيد المحافظات دون أي تعديل في حدودها الإدارية.
فهل يكون طرح الرئيس بري "فزّاعة" ما للبطريرك صفير وللمسيحيين الرافضين تشريع سلاح حزب الله اذا ما أصروا على هذا الرفض وذلك عبر التلويح بالديمقراطية العددية عبر تعديل بنية النظام اللبناني في ظل الانكماش الديمغرافي للمسيحيين بفعل الهجرة وتضاؤل نسبة الولادات؟
أم هذا الطرح هو من باب التهديد بعدم مسّ موقع الرئاسة الثانية في أي تعديل للصلاحيات والذي قد يدعو اليه الرئيس ميشال سليمان؟ أم من باب الحفاظ على المكتسبات الشيعية التي كرّسها اتفاق الدوحة ومشاورات تشكيل الحكومة الجديدة ومناقشات البيان الوزاري؟
وهل هذه الدعوة التي أطلقها نبيه بري هي لتخويف الفئة الرافضة السير في ركاب المعادلة الجديدة التي أرساها التقارب السوري- السعودي والتي سيكون من أولى نتائجها زيارة الرئيس سعد الحريري الى دمشق؟
هناك من يرى أن ورقة التفاهم بين حزب الله و"التيار الوطني الحرّ" قد ضمنت تحالفا" استراتيجيا" بين شريحة لا يستهان بها من المسيحيين وبين حزب الله مما شكل غطاء" داخليا" وخارجيا" لسلاحه ولحراكه السياسي في الداخل اللبناني. لا سيما أن حزب الله لا يترك مناسبة الا ويردّ التحية باحسن منها الى العماد ميشال عون إما عبر دعمه في مطالبه الوزارية التي استغرق تحقيقها حوالي خمسة أشهر وإما بابرازه الزعيم المسيحي الأقوى والقادر على فرض شروطه على الآخرين، وإما عبر دعمه في الانتخابات النيابية الأخيرة بحيث يدين بالعديد من مقاعده النيابية لكثافة التصويت الشيعي لا سيما في جبيل وبعبدا وجزين؟
وقد شكل الالتفاف الجنبلاطي على حلفاء الأمس في الرابع عشر من آذار وعلى النبرة العالية للسنوات الأربع الماضية ضدّ حزب الله وحلفائه المحليين والاقليميين حافزا" إضافيا" لاستفراد المعترضين على السلاح لا سيما أن الرئيس سعد الحريري كرئيس لحكومة كل اللبنانيين لم يعد باستطاعته الردّ على المناورات والمواقف الاعلامية.
فهل دعوة نبيه بري ناتجة عن شعور متعاظم بالقوة لتأسيس شيعية سياسية شبيهة بالمارونية السياسية في القرن الماضي تفرض أعرافاً وتقاليد سياسية جديدة عبّر عنها السيد حسن نصرالله في اعلان الوثيقة السياسية للحزب عندما طرح الديمقراطية التوافقية مقابل صعوبة تحقيق الغاء الطائفية السياسية؟
أم هي دعوة جديدة لتعبيد الطريق أمام نفوذ سوري جديد يبدو كالضامن لعدم إثارة هذا الموضوع دون الاعتراض على النفوذ المستجدّ؟
وثمة من يتساءل هل أمراء الطوائف الذين يدينون لطوائفهم بوصولهم الى المواقع التي يتواجدون فيها هم المؤهلون لمعالجة المسألة الطائفية وارساء أسس المجتمع المدني؟ وبالتالي، لماذا لم ينبر للدفاع عن دعوة الرئيس بري سوى نواب كتلة التنمية والتحرير والمرجعيات الدينية الشيعية؟ مع العلم أن جميع اللبنانيين يعرفون جيداً مساوىء النظام الطائفي اللبناني وقابليته للانفجار عند نشوب أية أزمة كما يعرفون جيداً الأثمان الفادحة التي دفعوها نتيجة الحروب الطائفية والمذهبية.
وكيف السبيل الى إلغاء الطائفية في ظلّ المدارس الدينية والجمعيات الدينية والأحزاب الدينية والتجمعات السكنية الدينية وقوانين الأحوال الشخصية الخاضعة لسلطة المحاكم الدينية والمحطات التلفزيونية الطائفية والجرائد والاذاعات الطائفية؟ وانكماش التعليم الرسمي وعدم الاهتمام بالجامعة اللبنانية والتحالفات التي تنسجها الطوائف مع الدول الدينية؟
وإذا كان الغاء الطائفية السياسية يمرّ بمراحله الأولى عبر تشكيل هيئة وطنية للتدارس والتحاور والتفاوض، فإن الندية والمساواة هما الشرط الأول للحوار والتفاوض في عملية التغيير والتأسيس لحياة وطنية جديدة أو لنظام سياسي جديد. وهنا ثمة من يسأل عن فرص النجاح في الحوار الجاري بين مسلّح وأعزل. والأمثلة عديدة إن في لبنان أو في العالم عن كيفية فرض المستقوي بالسلاح لوجهة نظره في أية عملية تفاوضية، وكيف أن المعالجات الناجمة عن غصب أو قهر سرعان ما تنفجر أزمات خطيرة وصراعات دامية. لذا تبدو أية عملية اصلاحية بنيوية متعثرة في ظل عدم احتكار الدولة لحصرية السلاح.
ثم إن هناك ظاهرة غريبة في هذا السجال القائم وهي انكفاء هيئات المجتمع المدني عن هذا السجال مع العلم أن العلمانيين واللاطائفيين هم الذين دفعوا أثماناً غالية خلال الحروب المتنقلّة وتقلّبات رجال السياسة، دفعوها اضطهاداً وتشرّداً في بيئاتهم وتهميشاً في المؤسسات والمناصب والمواقع وأحياناً كثيرة حاجة وفقراً وغربة وهجرة الى الخارج ونزوحاً في الداخل. واذا احتلّ أحدهم موقعاً بالصدفة، فإنه يعطي الموقع نكهة ومذاقاً خاصاً.
وبما أن السياسة في لبنان في معظم الأوقات هي مهادنة أو تعبئة للفراغ في انتظار حدوث أمر في الخارج القريب والبعيد، فإنه من المؤسف أن يطرح موضوع بمثل هذه الأهمية لإستقرار لبنان وتقدّمه لتعبئة فراغ ما أو لإستدراج مزايدات ما.
وإذا كان المسيحيون هم المقصودين من هذه الدعوة العاجلة لإلغاء الطائفية السياسية كما يقول البعض، فإنه يترتب على نخبهم الفكرية والسياسية بالتنسيق مع النخب اللبنانية اللاطائفية الأخرى، عدم الاكتفاء بالاحتجاج بنبرة عالية وبرد فعل غاضب إنما التفتيش عن طروحات وحلول جذرية ومستقبلية للمسألة الطائفية مستعيدين دور الروّاد منهم في التصدّي للقضايا الوطنية الكبرى حتى لا تستعمل هذه الفقرة من الدستور "فزّاعة" كلما دقّ الكوز بالجرّة عند كل مفصل أو مفترق.
وبناءً على كل ما تقدّم فإن الارتجال والتسرع في التصدي لموضوع الطائفية هذا المرض المزمن الذي يفتك بالجسد اللبناني يؤكدان عدم جدية هذه الدعوة في التوقيت والأهداف والآليات.