نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

المهمة الفاشلة لهوكستين

23/11/2024 - حازم الأمين

العالم والشرق الأوسط بعد فوز ترامب

17/11/2024 - العميد الركن مصطفى الشيخ

إنّه سلام ما بعده سلام!

17/11/2024 - سمير التقي

( ألم يحنِ الوقتُ لنفهم الدرس؟ )

13/11/2024 - عبد الباسط سيدا*

طرابلس "المضطهدة" بين زمنين

13/11/2024 - د.محيي الدين اللاذقاني

اليونيسيف ومافيا آل كابوني دمشق

12/11/2024 - عبد الناصر حوشان


جيلان متعاديان في مترو موسكو




أستاروجنا دفيري زاكريفايوتسا سلي دو شي ستانسي بارك كولتوري....... تلك هي الجملة التي يسمعها سكان موسكو على الاقل أربع أو خمس مرات في اليوم الواحد وتعني : انتباه.. الابواب ستغلق.. المحطة المقبلة بارك كولتوري أو نوفي تشيريوموشكي أو أخوتني رياد أو أو .........


إنه الصوت المسجَّل الذي يدوي داخل مترو الانفاق وفي كل محطات المترو في موسكو معلما الركاب باسم المحطة التي تلي .... هؤلاء الركاب الموسكوفيون وغير الموسكوفيين الذين يشكل قطاع المترو بالنسبة اليهم شريان حياتهم الرئيسي الذي لولاه لصعبت حياتهم وبدت شبه مستحيلة في ظل زحمة السير الخانقة التي تعيشها العاصمة الروسية موسكو، مع تزايدٍ قلّ مثيله في عدد السيارات الاجنبية (أكثر من الروسية الصنع على الطرقات في الفترة الاخيرة) حتى أنك تعتقد للوهلة الاولى أن السيارات تلك هي هبة من الدولة ليس الا. لكنك لا تلبث أن تتذكر أن زمن العطاءات السوفييتية ولى ومظاهر التقشف التي فرضها الزمن الشيوعي أيضا ولت واستبدلت بمنظومة استهلاكية رأس مالية لا يمكن وصفها باقل من فاحشة. تتجلى هذه المظاهر بالسيارات الكثيرة الفارهة المتراصة في شوارع موسكو الواسعة وأمام واجهات المطاعم والمحلات التجارية التي تشعرك بان الانسان بات أقل قيمة من السلع المعروضة المبهرة للنظر ، أقل قدرة على حماية نفسه من البرد والخطر والعولمة بينما السلع تلك محمية بأصحابها الفخورين بها الذين لا يبخلون عليها ببوليصة تأمين تقي من فقدانها .
ورغم أن الروس يعيشون اليوم معالم الحداثة وغزو الحضارة المستوردة التي تحاول أن تسخّف ماضيهم ما استطاعت بايديولوجيته ونهجه وأبعاده، الا أن آثار أفكارهم وعظمة تقديرهم لتاريخهم وأنفسهم وطريقة تسويقهم لبلدهم كلها أمور لا يمكن أن تمحى من ذاكرة أماكنهم التي واكبت الماضي السوفييتي والحاضر الاتحادي ، أماكن باتت شاهدة على عصرين وسياستين وشعبين بوجهين وحلمين....
من تلك الاماكن التي تضعك أمام مواجهة مباشرة مع زمنين روسيين مختلفين تماما هو مترو الانفاق الذي تقابل فيه ركاب جيل الانتصارات القديمة التي لم يعد من جدوى اليوم في النوم على أمجادها وحفظ نياشينها ـ بحسب اعتقاد الجيل الجديد ـ الذي تختلف ملامحه كليا عن ملامح الاجيال السابقة. إذ تلاحظ أن الدم الروسي الجديد يتوق الى الانطلاق والتمدد في رحاب العالم أجمع ويبدو قلقا على الدوام يريد أن يحقق انتصارات شخصية ثقافية مهنية مادية اجتماعية فيستخدم روسيا معبرا محدودا له للوصول الى المعابر الاوسع والاشمل والاكثر عالمية. فعلى سبيل المثال نلاحظ أن أغلب الشباب الروسي اليوم يخاطب الآخرين بلغات أجنبية منها وأهمها الانكليزية والفرنسية والالمانية والاسبانية، ولم تعد اللغة الروسية هي لغة المخاطبة الحصرية مع غير الروس. وبالتالي لم تعد لغة التقوقع والتعصب في حصرية استخدامها كالسابق من الجيل السوفييتي الذي لا يزال بعض ناسه شواهد على عصر واكبوه وما لبثوا أن فقدوه وهم اليوم كأنهم يغردون خارج سربهم. ومع ذلك نرى كثيرين منهم في القطارات ـ التي وحدها لم تتبدل الا من بعض عمليات الصيانة والتحديث ـ جالسا بجانب راكب من جيل آخر يتأمله كمن يدرس حالة يحاول الامعان بمميزاتها واختلافاتها ليحسم أمره تجاهها فيضيع في تقييمه ومشاعره الملتبسة كانه يُعجب بها ويكرهها في آن. ويظهر ذلك جليا من خلال نظراته القاسية والمنتقدة وملامح وجهه التائهة... وأما الآخرون من جيل الشباب المنطلق المتحرر من قبضة الماضي وثقله فواثقُ الخطوة ينتظر محطات حياته المتتالية كما خَطّط لها ولا يهمه إن هو حاليا ينتظرها داخل الانفاق لانه على يقين من أنه سينتقل الى ما فوق الارض طالما أن أدوات الحياة العصرية يجمعها في يده ... هذا هو الروسي الجديد اليوم الذي يلهث كالقطار الذي يركبه للوصول الى المحطة المرجوة، وهو على يقين من أنه في كل يوم يمر يدفن على الاقل وجها واحدا من أصحاب التباهي الشفوي وبعض المظاهر الشكلية التي تتمثل باعتمار قبعة سوفييتية على الرأس أو قراءةِ كتب تعود لزمن لينين وستالين وغيرهما من الرموز السوفييتية ....
لا شك أن المترو في موسكو تحديدا، الذي يقل يوميا حوالي تسعة ملايين راكب وذلك، عبر اثني عشر خطا وست وعشرين عقدة ومئة وسبع وسبعين محطة مزودة باحدث أنظمة المراقبة والانذار، يشكل أعجوبة تقنية معمارية وفنية متفردة. ليس فقط لانه بناء معماري عملاق بل وتحفة فنية نادرة شارك في تشييدها العشرات من أعظم الرسامين والنحاتين والحرفيين السوفييت الذين حولوا كل محطة الى متحف مستقل يضم أروع اللوحات والتماثيل والثريات الفاخرة والجدران والاعمدة المرصعة بالاحجار الكريمة النادرة والمرمر والرخام النادر. لا شك أن هؤلاء المبدعين هم مفخرة جيل الامس وجيل اليوم على حد سواء ويتجلى ذلك مما تسمعه داخل محطات المترو وهم يشرحون للسياح ويستفيضون عن تاريخ المترو وصانعيه ومبدعيه الذين ـ بحسب الاغلبية منهم ـ لا يتكررون في أيامنا.
إذاً هناك نقطة التقاء أو نافذة ولو صغيرة على شكل فتحات بشفرات من حديد كالتي تجدها في القطارات الروسية تمنح بعض الهواء والتنفس المؤقت بين الجيلين الروسيين المتباعدين في التعاطي مع روسيا اليوم على خلفية عظمة الامس .
من الامور المشتركة الثابتة التي لا يمكن عدم أخذها بالحسبان هي ظاهرة القراءة أو المطالعة التي، وإن اختلفت أدواتها وطبيعة عناوينها، تبقى حالة ثقافية روسية استثنائية في زمن لم يعد للكتاب دور أو مكان وسط ضجيج المعاني السريعة والكلمات المختصرة والعلاقات الانسانية التي تشبه باهدافها وبداياتها وخواتيمها وجبات الفاست فود التي ما أن تلتهمها حتى تشعر سريعا بالتخمة والانزعاج والرغبة في إفراغ معدتك منها لترتاح وتشعر مجددا بالخفة .. فالكتاب رغم كل شيء لا يزال حاضرا في روسيا، أما حاملوه فبامكانك أن تكتشف ميولهم وأفكارهم من العنوان واللغة اللذين يحملهما ذلك الكتاب.. فغالبا ما تكون اللغة روسية وأما إذا كانت اللغة "أجنبية" فمعناه أن صاحبه قد تخطى عقدا وتعقيدات روسية جمة وكانه يقول بتباه إنه مسح كل شكل من أشكال الحواجز التي تمنعه من الوصول الى ما فوق الارض، ولو أن مترو الانفاق يبقى وسيلة تنقله الاسرع والاقل تكلفة ليصل الى أبعد مسافة يريدها.. وأما عنوان الكتاب فاحيانا يكون ثقيلا معقدا يعود الى الزمن الغابر زمن الشيوعية والاشتراكية ونظريات النهوض ما بعد الحقبة السوفييتية، فاذا بقارئه يبدو مركّزا في مضمونه وصفحاته لدرجة أنه ـ ومن حركات وجهه نفهم ـ يكتشف لاحقا أن المحطة التي يريد أن ينزل فيها فاتته فينتظر وصول المحطة المرجوة من جديد ويغرق في كتابه على الفور فنكتشف طبعا أنه من الجيل الذي فاته القطار، ومع ذلك لا يريد أن يعترف أو يقبل بتلك الحقيقة المرة. هو يحاول دائما أن يجد له مقعدا في المترو ومحطة يهدف للوصول اليها في حين يجلس بقربه شباب روس يغلي بالشكل والمضمون. فهؤلاء أيضا يقرأون الكتب بمواضيعها المختلفة لكن أوراق كتبهم بيضاء جديدة تحتاج الى وقت طويل جدا لتصبح صفراء عتيقة وبالية... حتى أنهم يقرأون الكتب على شاشات ديجيتال الكترونية فلا حاجة للكتاب المصنوع من الورق والحبر. وأيضا يستخدمون الكتب السمعية التي تتلى عليهم بالصوت بواسطة "الاير بيس " أو السماعة التي لا تفارق آذانهم على الاطلاق فهي أيضا وسيلة للاستماع الى الاغاني الصاخبة جدا لدرجة أن الركاب القريبين يسمعون ويستمعون أيضا. إلا أنها ـ أي السماعة تلك ـ أسلوب يستخدمه الراكب الروسي الشاب لينفصل عن أجواء المترو وركابه الذين غالبا ما يكون البعض منهم ثملاً من الفودكا ـ الارخص ثمناً في روسيا ـ عدا رائحة السكر التي تفوح منه عن بعد فيتحرش بالناس ويتكلم بصوت عال ويشتم دون سبب .... أو لسبب يدركه في وعيه أو لا وعيه يتعلق بمستقبل لا ينتظره وماض لم يعطه بوليصة تامين تضمن له حاضره. لم يتبق له إذن سوى زجاجة فودكا تشل تفكيره بكل الازمنة التي عاشها والتي يمكن أن يعيشها بعد. لكن في الانفاق فقط وفي المترو الذي يحمل قصص الخيبات التي رافقت ولا تزال الكثير من الروس، والمترو الذي يحمل أيضا وفي وقت واحد الامل والتحدي للبعض الاخر الذي يستخدم الانفاق وعتمتها كوسيلة للوصول الى الشمس والسماء حتى.
لا شك في أن مترو الانفاق في روسيا، وفي ظل ذاكرة كل خيبات وانتصارات ركابه بقساوتها وروعتها، ماض دون توقف.. وأما استراحاته القصيرة جدا بين محطة وأخرى فليست أبعد من كونها فواصل ونقاط يلجأ اليها روسي الماضي والحاضر على السواء ليتابع مشواره القاتم الغامض المعالم كنفق المترو المظلم الذي ـ مرغما ـ يمر به يومياً مرات عدة عله يستغني عن خدماته في يوم من الايام.
------------------
المستقبل

كارن عابد
الاحد 31 يناير 2010