في المقابلات التلفزيونية الكثيرة التي كان يظهر بها، كان جورج قرداحي يظهر في القنوات التي تلتقي معه سياسيا.. مع أن كلمة "سياسيا" مبالغ بها هنا.. فحزب الله مثلا لم يذهب إلى سوريا كي يلعب سياسة، بل ذهب حاملا أسلحة القتل. دعك من الحديث عن الهوامش وتعدد وجهات النظر في تلك القنوات، ودعك من الحديث عن الثوابت والاختلافات، فكل شيء متفق عليه ومرسوم.. لأن جورج قرداحي سيجد نفسه وكأن "البيت بيته"، سواء كان في (المنار) أو (إن بي إن) أو (الجديد) أو حتى (إم تي في) التي قد تختلف معه في المواقف، لكنها تدرك بحكم الزمالة والعشرة أن للاختلاف حدودا.. والكلمة الأخيرة ستكون له، مهما نجح البعض في اختراق مواقفه التي لا تحتاج لتوصيف.
الابتسامة المرسومة التي ينجح جورج قرداحي بمهارة في جعلها دافئة. الطقم الأنيق، ربطة العنق المميزة، الصوت الرخيم حين يرطن بأسماء قتلة ومجرمين ويحولهم إلى أبطال ومقاومين يواجهون حربا كونية.. كل شيء منسجم في تشكيل اللوحة العامة التي سيزينها الإعلامي القدير.. ولن يستطيع أحد أن يفسد بريستجيها ووظيفتها التضليلة، لأنه سيكون محمياً من الرأي الآخر.
لكن جورج قرداحي وقد غدا وزير إعلام، وجد نفسه في موقف مختلف خلال مشاركته في بدعة اسمها (برلمان الشعب) ترعاها قناة (الجزيرة). فخلف الديكور الأنيق وحسن إضاءة الأستوديو، والشروط الفنية الاحترافية التي اطمأن السيد وزير الإعلام، إلى أنها ستنتج حواراً تلميعياً منضبطاً، لن تسمح فيه المؤسسة التي تستضيفه بأن ينقلب إلى مواجهة خاسرة.. أو – لا قدر الله - إلى محاكمة للضمير المُباع، والموقف المعادي لحرية شعب بأكمله، وشهادة الزور التي يختلط فيها التضليل المتعمد بالافتراء.
ويبدو أن الله قدّر.. وتحولت مشاركة جورج قرداحي إلى هذا المنحى؛ بل تحولت على يد الصحفي الشاب محمود رحيل المشارك في البرلمان، إلى صرخة تشبه ما قاله الطفل في مسرحية (الملك العاري)، حين صرخ في وجه حاشية الملك الذين تركوا ملكهم عارياً، ثم أوهموه أنهم صنعوا له رداءً لم يرتديه أحد قبله: "ولكنك عار أيها الملك. عارٍ تماماً. ولا ترتدي شيئاً!"نعم كان جورج قرداحي عارياً تماماً إلا من رداء الباطل الذي لم يعد بإمكانه اليوم أن يجمّل المواقف البشعة والجرائم القذرة..
كان جورج قرداحي عارياً تماماً إلا من رداء الباطل الذي لم يعد بإمكانه اليوم أن يجمّل المواقف البشعة والجرائم القذرة..
صحفي شاب لا يملك أي سلطة ولا منصباً ولا حتى وظيفة ثابتة ربما، لكنه مؤمن بأن حركة التاريخ لا بد أن تسير إلى الأمام، وأن قدر الطغاة والقتلة وأنصارهم هو السقوط في الوحل مهما حاولوا أن يقاموا حركة التغيير.. واجه جورج قرداحي بعاره. صرخ فيه أمام الكاميرات.. ولكنك عارٍ يا أستاذ جورج. عارٍ تماماً.. وكل تلك المساحيق والكلمات المنمقة وردودك المراوغة لم تنجح في أن تخفي حقيقتك الطائفية التي لا يجرؤ أحد على مواجتهك بها.
كان المشهد الحواري يتناول ترشيح جورج قرداحي لبشار الأسد كشخصية العام ثم بعد وقائع الثورة السورية التي حاول جورج تأويلها وتحريفها لتخدم رواية النظام.. لكنه في العمق كان يقول مونولوجاً آخر لم نسمعه على الشاشة، مونولوجاً يفضح ثقافة جورج قرداحي في العمق.. فهو يناصر قاتلاً، كل ضحاياه من السنة الذين يرى فيهم "دواعش يستحقون القتل" ويرى فيمن قتل وهجّر الملايين ولم يستثنِ في قصفه بالمدافع والصواريخ والطائرات والبراميل المتفجرة.. لا طفلاً ولا شيخاً ولا امرأة. لا بيتاً ولا مدرسة ولا مشفى، لا مسجداً ولا كنيسة ولا موقعاً أثرياً.. يرى فيه ضمانة العلمانية وعدم تهجير مسيحيي الشرق.
يالهذه العلمانية المجرمة إذا كان عنوانها تفضيل بقاء قاتل كبشار الأسد على شعب مشرد مستباح مملوء بالعزة والكرامة كالشعب السوري. ويالهؤلاء المسيحيين كم يتاجر بهم قرداحي وباسيل وعون وكم يهينونهم وهم أبناء المنطقة الأصلاء، حين يربطون بقاءهم بوجود مجرم وضيع كبشار الأسد مغتصبا للسلطة والقانون.
يفضح الحوار ثقافة جورج قرداحي في العمق.. فهو يناصر قاتلاً، كل ضحاياه من السنة الذين يرى فيهم "دواعش يستحقون القتل" ويرى فيمن قتل وهجّر الملايين ولم يستثنِ في قصفه بالمدافع والصواريخ والطائرات والبراميل المتفجرة.. لا طفلاً ولا شيخاً ولا امرأة... يرى فيه ضمانة العلمانية وعدم تهجير مسيحيي الشرق.
يتبنى السيد قرداحي رواية هذا النظام ليس لأنه "ليس متعمقاً بالتفاصيل الداخلية لسوريا" كما زعم، ففي أحد الردود اتضح أنه متابع جيد، تحدث عن أكلة الأكباد، معمماً حادثة فردية واحدة أدانها جمهور الثورة وتبرأ منها ومتحدثاً عنها بصيغة الجمع مثل أي شخص لا يحترم مصداقيته، تحدث عن رمي الجنود من شاهق في عدرا، وخلط حوادث متخيلة ومجتزأة بحوادث حدثت نعم.. كي يقول إن القاتل والمقتول مدانان. من يطلب الحرية والكرامة لأنهما الحامل الأساسي لكل حقوق الحياة الحرة الكريمة، ومن يطلب أن يستمر في ممارسة الديكتاتورية والاستئثار بالحكم لأن أباه المجرم ورّثه إياه وكأنه مزرعة له.. وبالنهاية هو يتبنى رواية النظام وهو يعرف تماماً أنها كاذبة.. فهل يجهل أي لبناني عاش في هذه الجغرافيا، وعاصر عقدين من الوجود العسكري والمخابراتي السوري في لبنان.. ما هو هذا النظام؟
أنتم كلبنانيين تعرفون يا سيد جورج طبيعة النظام السوري واستبداده وإجرامه معرفتكم بلون عيونكم.. لكن مناصرتك له رغم معرفتك بوحشيته وطبيعته الإجرامية والاستبدادية.. تقول لنا شيئاً واحداً، وهو أنك ترى أننا لا نستحق كسوريين نظاماً غير هذا يحكمنا بالحديد والنار، ويسوقنا إما لساحات الهتاف بالولاء له للأبد، أو لساحات الموت إذا قررنا أن نطالب بحريتنا.
كم كان مخزياً أن تردد عبارة "المؤامرة الكونية على سوريا" في المواجهة مع هذا الصحفي الشاب الذي فضح نفاقك. فإذا كان هذا النظام الذي شرد الملايين واستمر يقصف مناطق سكنية بالطائرات والبراميل عشر سنوات وقتل نحو مليون مواطن تحت التعذيب، وسربت صور جرائمه من داخل السجون ووصلت إلى الكونغرس الأمريكي، واعترف تقرير للأمم المتحدة أنه استخدم السلاح الكيماوي المحرم دوليا أكثر من 50 مرة.. إذا كان النظام مازال قائماً بعد عشر سنوات من ارتكابه لكل هذا، ومازال له مقعد ومندوب في الأمم المتحدة، فقل لنا بربك: كيف يكون الدعم الدولي اللا محدود وإفلات المجرمين من الجرائم ضد الإنسانية إذا كانت هذه هي "مؤامرة كونية"!
أنتم كلبنانيين تعرفون يا سيد جورج طبيعة النظام السوري واستبداده وإجرامه معرفتكم بلون عيونكم.. لكن مناصرتك له رغم معرفتك بوحشيته وطبيعته الإجرامية والاستبدادية.. تقول لنا شيئاً واحداً، وهو أنك ترى أننا لا نستحق كسوريين نظاماً غير هذا يحكمنا بالحديد والنار.
في النهاية تحولت يا أستاذ جورج إلى مادة مثيرة للتشفي في فيديو متداول على وسائل التواصل الاجتماعي.. وتحولت المواجهة معك إلى انتصار عليك لصحفي شاب ربما كان من جيل أحفادك.. ليس لأن لديه خبرة بالإعلام وفنون الكلام أكثر منك.. بل لأن كل خبرات الدنيا لا تستطيع أن تنقذ رجلاً يدافع عن باطل وهو يعرف تماما أنه باطل.
أما حجب الثقة عنك يا سيد جورج في لعبة برلمان الشعب الإعلامية، وأنا لا أسميها لعبة لأسفهها، بل لأنها افتراضية ولا وجود لها على أرض الواقع للأسف، فحجب الثقة هو إعلان سحب البساط من تحت أقدام جيل بأكمله أنت تمثله.. جيل تملّقَ وكذبَ وافترى وعقد الصفقات مع أصحاب النفوذ وأجهزة المخابرات ورهن ضميره بمصالحه وحساباته الشخصية والطائفية الرخيصة.. ثم ارتدى الثياب الأنيقة والابتسامات اللزجة ونظرات الحنان الدافئة وجلس يعطينا دروساً في التسامح الاجتماعي والأتيكيت والتهذيب والأخلاق!
-----------
اورينت نت