لم يكن خافياً منذ انتصار الثورة المصرية أن إيران تبذل جهوداً كبيرة لتطبيع العلاقات مع مصر. وما إن اندلعت الثورة في سورية حتى أصبح تطبيع العلاقات من وجهة النظر الإيرانية أكثر إلحاحاً. مصر هي الدولة العربية الكبرى، وأكبر دول المشرق العربي الإسلامي؛ وبينما تواجه إيران حصاراً غربياً وعلاقات متأزمة بمعظم دول الجوار العربي، تبدو وكأنها مضطرة للمحافظة على القنوات الدبلوماسية والاقتصادية مع الجارة الكبيرة الأخرى، تركيا. يحقق تطبيع العلاقات مع مصر بعضاً من التوازن في العلاقات الاضطرارية مع تركيا، ويساعد في كسر حدة الاتهامات بالطائفية الموجهة للسياسة الإيرانية في العراق وسورية ولبنان، ويعزز مصداقية نظام الجمهورية الإسلامية في الداخل. وفي سبيل إعادة الحياة إلى العلاقات مع القاهرة، حاولت طهران إقامة قناة اتصال مع حملة د. محمد مرسي الانتخابية، قبل فوزه بالرئاسة، ليس فقط لكون مرسي مرشحاً إسلامياً، وهو بذلك الأقرب إيديولوجياً لإيران، ولكن لأن إيران قدرت أن حظوظ مرسي في الفوز تفوق منافسيه جميعاً. ولكن المحاولة تلك لم تأت بنتيجة تذكر، مما دفع الإيرانيين للتقارب مع مرشح آخر، قومي الاتجاه ومعروف بموقفه الغامض من الثورة السورية. انتهت الانتخابات بالطبع بخسارة الأخير من الجولة الأولى، وفوز مرسي بعد معركة صعبة مع مرشح النظام السابق أحمد شفيق. وأصبحت طهران مضطرة للعودة من جديد إلى التعامل مع مرسي.
لم يخف مرسي منذ توليه مقاليد الرئاسة مساندته للشعب السوري، ودعا صراحة إلى تنحي نظام الأسد. وفي أكثر من مناسبة، أكد مرسي، كلما طرحت مسألة العلاقات المصرية الإيرانية، على أن هناك ثلاثة ملفات لابد أن تتضح قبل عودة العلاقات الطبيعية بين القاهرة وطهران: الموقف الإيراني من سورية، أمن الخليج، والتبشير الشيعي في المجتمعات السنية. ولم تكن زيارة الرئيس المصري القصيرة لطهران، في الصيف الماضي، بمناسبة انعقاد مؤتمر قمة دول عدم الانحياز، سعيدة تماماً، سواء لسوء إدارة بروتوكولية إيرانية، أو لأن مرسي أصر في كلمته الافتتاحية على الإشارة لمظلومية الشعب السوري وإدانة سياسات نظام دمشق. وقد لجأ الإعلام الرسمي الإيراني إلى تحريف خطاب مرسي، في محاولة للتغطية على حقيقة ما قاله بالفعل. ووسط انتشار شائعات بمساهمة طهران في تمويل جبهة الإنقاذ المعارضة، التقى مرسي مرة أخرى أحمدي نجاد، عندما حضر الأخير للقاهرة في شباط/فبراير للمشاركة في قمة منظمة التعاون الإسلامي. وبالرغم من أن اللقاء كان ودوداً، أعاد مرسي التوكيد على ضرورة توضيح إيران موقفها من الملفات الثلاثة.
بيد أن مقاربة مرسي للعلاقات مع إيران، ومن البداية، لم تكن بالبساطة التي ظهرت فيها. ارتكزت مقاربة مرسي إلى حقائق التاريخ والجغرافيا؛ ولم يلعب العامل الإيديولوجي المتعلق بخلفية مرسي الإسلامية وكون إيران جمهورية إسلامية، دوراً ملموساً في تحديد سياسة مرسي المبكرة تجاه إيران. كان مرسي يعرف دعم إيران ‘الإسلامية’ لخصومه الليبراليين في المعارضة، وسمعت إيران بصورة مباشرة، وفي قلب العاصمة الإيرانية، كلمات مرسي التي حرص فيها على إظهار تمايزه الإسلامي. بصورة عامة، نظر مرسي لإيران باعتبارها دولة رئيسية جارة، لن تغادر موقعها، لا اليوم ولا غداً، وأنها قوة إقليمية نشطة، تتفق والمصالح العربية في مسائل وتشتبك في مسائل أخرى؛ وفي ما يتعلق بسورية، على وجه الخصوص، بات من الضروري بدء حوار مع إيران وتشجيعها على الانتقال من موقع المشكلة إلى موقع المشاركة في الحل. وهذا ما دفع القاهرة لتحديد ملفات الاختلاف الثلاثة مع الإيرانيين من اللحظة الأولى لبدء الاتصالات بين البلدين، ومن ثم اقتراح مرسي تشكيل مجموعة رباعية من مصر والسعودية وتركيا وإيران، لبحث الأزمة السورية والعمل على إيجاد تسوية سياسة للأزمة، تحقق مطالب الشعب السوري وتجنب سورية المزيد من الموت والدمار. والحقيقة، أن مرسي كان يدرك عندما أعلن الاقتراح في كلمته أثناء لقاء مكة الإسلامي الطاريء، في آب/أغسطس الماضي، أن الظروف لم تكن ناضجة بعد للتوصل إلى حل سياسي في سورية، ولكنه تصور أن وجود الرباعية الإسلامية سيوفر آلية وفاقية عندما تتاح فرصة الحل. لم توافق السعودية، بالطبع، على اقتراح مرسي، وبالرغم من أن الدول الثلاث، مصر وتركيا وإيران، عقدت لقاءين أوثلاثة، فسرعان ما تراجعت أهمية المجموعة.
خلال الشهور الثمانية الماضية، لم تتطور علاقات مصر مع السعودية وحلفائها من دول الخليج كما ينبغي. أحجمت السعودية وحلفاؤها عن الاستجابة لحاجات مصر المالية والنفطية، وهي حاجات بسيطة بكل المقاييس، وساندت القوى والدوائر المعارضة للرئيس المصري المنتخب، حتى والأخيرة تجر البلاد إلى العنف والفوضى. لم تفلح مواقف مرسي الواضحة والقاطعة من أمن الخليج في تليين موقف السعودية وحلفائها من الحكم الجديد في مصر، وبدا أن وجود رئيس مصري بخلفية إسلامية في نظام حكم ديمقراطي تعددي أخطر على أمن الخليج والسعودية من السياسة الإيرانية. يأس مرسي من تطور إيجابي في موقف الأشقاء هو الذي دفعه إلى اتخاذ خطوتين محدودتين تجاه إيران والعراق: فتح باب السياحة الإيرانية في مصر، ومحاولة الحصول على أربعة ملايين برميل من النفط شهرياً من العراق، بهدف سد حاجة مصر الملحة من السولار، المعروف أنه لا يتوفر بنسب عالية في النفط المصري الخام، وفتح أبواب العراق من جديد للعمالة المصرية.
لم تثر الخطوة تجاه العراق الكثير من الجدل، بالرغم من أن حكومة المالكي حليف أساسي لإيران وأن العراق يشهد حراكاً سنياً شعبياً كبيراً ضد سياسات المالكي الطائفية. ولكن وصول وفد سياحي إيراني لزيارة مواقع مصر الأثرية أطلق جدلاً وحركة معارضة صاخبة، قادتها جماعات سلفية مصرية، وشارك فيها عدد من أبرز القيادات السلفية. ولم يخف قادة المعارضة في جبهة الإنقاذ، الذين يرتبط بعضهم بصلات وثيقة مع إيران، ولا وسائل الإعلام العربية المرتبطة بالسعودية وبعض دول الخليج، سعادتهم برد الفعل السلفي. تحت عنوان حماية مصر من التشيع، ووقف الغزو الإيراني لمصر، نظمت تجمعات في عدة مدن مصرية، ومؤتمرات ولقاءات إعلامية، وكتبت عشرات المقالات الصحافية، بل ونظمت حتى تظاهرات احتجاجية صغيرة.
مصر، بالطبع، لن تتشيع، والحديث عن خطر شيعي في بلد مثل مصر ليس سوى انعكاس لسذاجة في التقدير أو مجرد عبث سياسي. في بعض الدوائر، أصبح الخطر الشيعي على مصر أقرب إلى قضية من لا قضية له. في دوائر أخرى، لا يمكن استبعاد أياد عربية، ترغب في تلقين الرئيس المصري درساً وفي إجهاض محاولته تقييم مسألة العلاقات مع إيران بصورة عقلانية ومصلحية. ولكن من الضروري أيضاً رؤية الصورة الأكبر لهذه المسألة، وهذه مسؤولية إيرانية بصورة خاصة؛ سيما أن موقف الشعوب العربية والإسلامية من إيران مر بأكثر من منعطف، مما يوفر أداة لقراءة صحيحة. بداية، ليس ثمة شك أن انتصار الثورة وإقامة الجمهورية الإسلامية وجد صدى هائلاً في الأوساط الشعبية العربية والإسلامية في نهاية السبعينات؛ ولكن، وإلى جانب الشجب الشعبي للحرب التي بدأها نظام صدام حسين ضد إيران، فقد انحاز الضمير الشعبي في النهاية لجانب وضع نهاية للحرب ووقف نزف الدماء. خلال العقود الثلاثة التالية، رحب الرأي العام العربي والإسلامي بموقف إيران الداعم للمقاومة في لبنان وفلسطين، ووقف ضد الحصار الغربي لإيران ومع حق إيران في تطوير قدراتها النووية السلمية. ولكن موقع إيران الشعبي بدأ في التراجع الفعلي منذ أخذت القوى السياسية العراقية الشيعية المعارضة في التعاون مع إدارة بوش الابن في التحضير لغزو العراق. بعد الاحتلال، لم تستطع تصريحات المسؤولين الإيرانيين المتكررة حول الوحدة الإسلامية، ولا دعم طهران للمقاومة في لبنان وفلسطين تغطية السياسة الطائفية تجاه العراق، ولا سعي القوى العراقية الحليفة لإيران إلى الاستحواذ الطائفي على مقدرات العراق. وما إن اندلعت الثورة السورية حتى أصبحت صورة إيران الطائفية أكثر حدة، عندما لم تجد الشعوب مبرراً لموقف طهران من الثورة ووقوفها الصارخ إلى جانب النظام، سوى التفسيرات الطائفية.
المشكلة، بالطبع، أن العالم الإسلامي، والمجال العربي منه بصورة خاصة، يعيش حقبة من تفاقم الهويات. وبالرغم من أن تضخم الشعور بالهوية هو احدى سمات عالم اليوم، الذي يشهد تسارعاً هائلاً في وسائل الاتصال وانتقال البشر والبضائع والثقافات، فإن جذور الشعور بالتهديد في العالم الإسلامي تعود إلى القرن التاسع عشر، عندما وقف المسلمون حائرين أمام التحدي الغربي الحديث. خلال القرن العشرين، اجتمع التهديد الغربي، حاجة الدولة الوطنية للشرعية، والتدافع المستعر على الموارد المحدودة في الدول الجديدة، لإيقاع مزيد من التشظي في الهويات المتفاقمة وتوليد مناخ من التدافع والصراع الداخلي. بدون هذا المناخ، لم يكن ممكناً لبعض المصريين أن يشعر بتهديد حفنة من السائحين الإيرانيين لسنية بلاد لم تستطع قرون من الحكم الفاطمي محو سنيتها.
في النهاية، ليس ثمة من سبب لأن يتراجع مرسي عن سياسته العربية والإقليمية. السياسة الخارجية لبلد في حجم مصر لابد أن تكون متعددة الأبعاد والأوجه، وأن تستند إلى حسابات عقلانية، لا إلى هواجس وردود فعل. ولكن، في ضوء التدافع الهائل بين القوى الذي يشهده المشرق، وسياسة الحسابات الضيقة التي تتبعها إيران وحلفاؤها في العراق، فإن أحداً لا يجب أن يشجع القاهرة على الذهاب بعلاقاتها مع طهران وبغداد بعيداً.
لم يخف مرسي منذ توليه مقاليد الرئاسة مساندته للشعب السوري، ودعا صراحة إلى تنحي نظام الأسد. وفي أكثر من مناسبة، أكد مرسي، كلما طرحت مسألة العلاقات المصرية الإيرانية، على أن هناك ثلاثة ملفات لابد أن تتضح قبل عودة العلاقات الطبيعية بين القاهرة وطهران: الموقف الإيراني من سورية، أمن الخليج، والتبشير الشيعي في المجتمعات السنية. ولم تكن زيارة الرئيس المصري القصيرة لطهران، في الصيف الماضي، بمناسبة انعقاد مؤتمر قمة دول عدم الانحياز، سعيدة تماماً، سواء لسوء إدارة بروتوكولية إيرانية، أو لأن مرسي أصر في كلمته الافتتاحية على الإشارة لمظلومية الشعب السوري وإدانة سياسات نظام دمشق. وقد لجأ الإعلام الرسمي الإيراني إلى تحريف خطاب مرسي، في محاولة للتغطية على حقيقة ما قاله بالفعل. ووسط انتشار شائعات بمساهمة طهران في تمويل جبهة الإنقاذ المعارضة، التقى مرسي مرة أخرى أحمدي نجاد، عندما حضر الأخير للقاهرة في شباط/فبراير للمشاركة في قمة منظمة التعاون الإسلامي. وبالرغم من أن اللقاء كان ودوداً، أعاد مرسي التوكيد على ضرورة توضيح إيران موقفها من الملفات الثلاثة.
بيد أن مقاربة مرسي للعلاقات مع إيران، ومن البداية، لم تكن بالبساطة التي ظهرت فيها. ارتكزت مقاربة مرسي إلى حقائق التاريخ والجغرافيا؛ ولم يلعب العامل الإيديولوجي المتعلق بخلفية مرسي الإسلامية وكون إيران جمهورية إسلامية، دوراً ملموساً في تحديد سياسة مرسي المبكرة تجاه إيران. كان مرسي يعرف دعم إيران ‘الإسلامية’ لخصومه الليبراليين في المعارضة، وسمعت إيران بصورة مباشرة، وفي قلب العاصمة الإيرانية، كلمات مرسي التي حرص فيها على إظهار تمايزه الإسلامي. بصورة عامة، نظر مرسي لإيران باعتبارها دولة رئيسية جارة، لن تغادر موقعها، لا اليوم ولا غداً، وأنها قوة إقليمية نشطة، تتفق والمصالح العربية في مسائل وتشتبك في مسائل أخرى؛ وفي ما يتعلق بسورية، على وجه الخصوص، بات من الضروري بدء حوار مع إيران وتشجيعها على الانتقال من موقع المشكلة إلى موقع المشاركة في الحل. وهذا ما دفع القاهرة لتحديد ملفات الاختلاف الثلاثة مع الإيرانيين من اللحظة الأولى لبدء الاتصالات بين البلدين، ومن ثم اقتراح مرسي تشكيل مجموعة رباعية من مصر والسعودية وتركيا وإيران، لبحث الأزمة السورية والعمل على إيجاد تسوية سياسة للأزمة، تحقق مطالب الشعب السوري وتجنب سورية المزيد من الموت والدمار. والحقيقة، أن مرسي كان يدرك عندما أعلن الاقتراح في كلمته أثناء لقاء مكة الإسلامي الطاريء، في آب/أغسطس الماضي، أن الظروف لم تكن ناضجة بعد للتوصل إلى حل سياسي في سورية، ولكنه تصور أن وجود الرباعية الإسلامية سيوفر آلية وفاقية عندما تتاح فرصة الحل. لم توافق السعودية، بالطبع، على اقتراح مرسي، وبالرغم من أن الدول الثلاث، مصر وتركيا وإيران، عقدت لقاءين أوثلاثة، فسرعان ما تراجعت أهمية المجموعة.
خلال الشهور الثمانية الماضية، لم تتطور علاقات مصر مع السعودية وحلفائها من دول الخليج كما ينبغي. أحجمت السعودية وحلفاؤها عن الاستجابة لحاجات مصر المالية والنفطية، وهي حاجات بسيطة بكل المقاييس، وساندت القوى والدوائر المعارضة للرئيس المصري المنتخب، حتى والأخيرة تجر البلاد إلى العنف والفوضى. لم تفلح مواقف مرسي الواضحة والقاطعة من أمن الخليج في تليين موقف السعودية وحلفائها من الحكم الجديد في مصر، وبدا أن وجود رئيس مصري بخلفية إسلامية في نظام حكم ديمقراطي تعددي أخطر على أمن الخليج والسعودية من السياسة الإيرانية. يأس مرسي من تطور إيجابي في موقف الأشقاء هو الذي دفعه إلى اتخاذ خطوتين محدودتين تجاه إيران والعراق: فتح باب السياحة الإيرانية في مصر، ومحاولة الحصول على أربعة ملايين برميل من النفط شهرياً من العراق، بهدف سد حاجة مصر الملحة من السولار، المعروف أنه لا يتوفر بنسب عالية في النفط المصري الخام، وفتح أبواب العراق من جديد للعمالة المصرية.
لم تثر الخطوة تجاه العراق الكثير من الجدل، بالرغم من أن حكومة المالكي حليف أساسي لإيران وأن العراق يشهد حراكاً سنياً شعبياً كبيراً ضد سياسات المالكي الطائفية. ولكن وصول وفد سياحي إيراني لزيارة مواقع مصر الأثرية أطلق جدلاً وحركة معارضة صاخبة، قادتها جماعات سلفية مصرية، وشارك فيها عدد من أبرز القيادات السلفية. ولم يخف قادة المعارضة في جبهة الإنقاذ، الذين يرتبط بعضهم بصلات وثيقة مع إيران، ولا وسائل الإعلام العربية المرتبطة بالسعودية وبعض دول الخليج، سعادتهم برد الفعل السلفي. تحت عنوان حماية مصر من التشيع، ووقف الغزو الإيراني لمصر، نظمت تجمعات في عدة مدن مصرية، ومؤتمرات ولقاءات إعلامية، وكتبت عشرات المقالات الصحافية، بل ونظمت حتى تظاهرات احتجاجية صغيرة.
مصر، بالطبع، لن تتشيع، والحديث عن خطر شيعي في بلد مثل مصر ليس سوى انعكاس لسذاجة في التقدير أو مجرد عبث سياسي. في بعض الدوائر، أصبح الخطر الشيعي على مصر أقرب إلى قضية من لا قضية له. في دوائر أخرى، لا يمكن استبعاد أياد عربية، ترغب في تلقين الرئيس المصري درساً وفي إجهاض محاولته تقييم مسألة العلاقات مع إيران بصورة عقلانية ومصلحية. ولكن من الضروري أيضاً رؤية الصورة الأكبر لهذه المسألة، وهذه مسؤولية إيرانية بصورة خاصة؛ سيما أن موقف الشعوب العربية والإسلامية من إيران مر بأكثر من منعطف، مما يوفر أداة لقراءة صحيحة. بداية، ليس ثمة شك أن انتصار الثورة وإقامة الجمهورية الإسلامية وجد صدى هائلاً في الأوساط الشعبية العربية والإسلامية في نهاية السبعينات؛ ولكن، وإلى جانب الشجب الشعبي للحرب التي بدأها نظام صدام حسين ضد إيران، فقد انحاز الضمير الشعبي في النهاية لجانب وضع نهاية للحرب ووقف نزف الدماء. خلال العقود الثلاثة التالية، رحب الرأي العام العربي والإسلامي بموقف إيران الداعم للمقاومة في لبنان وفلسطين، ووقف ضد الحصار الغربي لإيران ومع حق إيران في تطوير قدراتها النووية السلمية. ولكن موقع إيران الشعبي بدأ في التراجع الفعلي منذ أخذت القوى السياسية العراقية الشيعية المعارضة في التعاون مع إدارة بوش الابن في التحضير لغزو العراق. بعد الاحتلال، لم تستطع تصريحات المسؤولين الإيرانيين المتكررة حول الوحدة الإسلامية، ولا دعم طهران للمقاومة في لبنان وفلسطين تغطية السياسة الطائفية تجاه العراق، ولا سعي القوى العراقية الحليفة لإيران إلى الاستحواذ الطائفي على مقدرات العراق. وما إن اندلعت الثورة السورية حتى أصبحت صورة إيران الطائفية أكثر حدة، عندما لم تجد الشعوب مبرراً لموقف طهران من الثورة ووقوفها الصارخ إلى جانب النظام، سوى التفسيرات الطائفية.
المشكلة، بالطبع، أن العالم الإسلامي، والمجال العربي منه بصورة خاصة، يعيش حقبة من تفاقم الهويات. وبالرغم من أن تضخم الشعور بالهوية هو احدى سمات عالم اليوم، الذي يشهد تسارعاً هائلاً في وسائل الاتصال وانتقال البشر والبضائع والثقافات، فإن جذور الشعور بالتهديد في العالم الإسلامي تعود إلى القرن التاسع عشر، عندما وقف المسلمون حائرين أمام التحدي الغربي الحديث. خلال القرن العشرين، اجتمع التهديد الغربي، حاجة الدولة الوطنية للشرعية، والتدافع المستعر على الموارد المحدودة في الدول الجديدة، لإيقاع مزيد من التشظي في الهويات المتفاقمة وتوليد مناخ من التدافع والصراع الداخلي. بدون هذا المناخ، لم يكن ممكناً لبعض المصريين أن يشعر بتهديد حفنة من السائحين الإيرانيين لسنية بلاد لم تستطع قرون من الحكم الفاطمي محو سنيتها.
في النهاية، ليس ثمة من سبب لأن يتراجع مرسي عن سياسته العربية والإقليمية. السياسة الخارجية لبلد في حجم مصر لابد أن تكون متعددة الأبعاد والأوجه، وأن تستند إلى حسابات عقلانية، لا إلى هواجس وردود فعل. ولكن، في ضوء التدافع الهائل بين القوى الذي يشهده المشرق، وسياسة الحسابات الضيقة التي تتبعها إيران وحلفاؤها في العراق، فإن أحداً لا يجب أن يشجع القاهرة على الذهاب بعلاقاتها مع طهران وبغداد بعيداً.