يكمن العنصر الثاني المهم في سياسة تركيا المتوازنة تجاه الحرب الأوكرانية في مساعدتها كلا الجانبين، كما أنها تسبب الألم لكل منهما أثناء سعيها لتأمين مصلحتها الخاصة. فقد دمرت الطائرات المسيّرة التركية التي بحوزة الجيش الأوكراني كثيراً من القوافل والدبابات الروسية (من اللافت للنظر أن الضباط الروس شاهدوا الطائرات المسيّرة التركية تحطم هجوم الجيش السوري على إدلب سنة 2020، لكنهم لم يعدلوا التكتيكات العسكرية الروسية في أوكرانيا). بالإضافة إلى ذلك، منعت الحكومة التركية عبور السفن الحربية الروسية عبر مضيق البوسفور. وبعد غرق الطراد «موسكفا»، تحتاج روسيا إلى تعزيزات بحرية لتهدد باجتياح ميناء أوديسا الأوكراني الحيوي. غير أن التصرف التركي يوصد هذا الباب تماماً. وعززت الخطوات التركية الملموسة من وضع تركيا مع حلف «الناتو». وكانت فرنسا وإيطاليا قد اتفقتا في قمة الحلف التي عقدت الشهر الماضي، على إعادة إبرام اتفاق مع تركيا بشأن تصنيع نظام للدفاع الجوي.
وكانت وزارة الخارجية الأميركية بعثت برسالة الشهر الماضي، إلى الكونغرس تبرر فيها بيع الولايات المتحدة طائرات «إف - 16» إلى تركيا. وشددت الرسالة على الاهتمام الأميركي بالعلاقات الدفاعية الأميركية - التركية الجيدة. كما أشادت وزارة الدفاع الأميركية بإغلاق تركيا لمضيق البوسفور. وكانت التصريحات الصادرة عن باريس وواشنطن بشأن الدفاع عن تركيا غائبة لعدة أشهر، لكن الإجراءات التركية الملموسة التي تدعم حقاً الموقف الغربي بشأن أوكرانيا تمنحها أداة ضد منتقدي تركيا.
في الأثناء ذاتها، تجنبت أنقرة فرض العقوبات على روسيا، وتساعد وارداتها من الغاز والنفط الروسيين الرئيس بوتين في تمويل الحملة العسكرية الروسية. وتفعل ألمانيا الشيء نفسه، لكنها تتلقى انتقادات أكثر من تركيا. وفي الوقت نفسه، ترحب الموانئ التركية بيخوت أصدقاء بوتين من أصحاب المليارات، كما ترحب المدن التركية مثل أنطاليا وإسطنبول بالاستثمارات الروسية. بل إن تركيا تعكف الآن على تأسيس نظام جديد للمدفوعات يستخدم الروبل الروسي لتسوية الصفقات التجارية. بالطبع، لدى تركيا مصلحة اقتصادية كبيرة، وتبرر أنقرة موقفها بغياب متطلب من الأمم المتحدة لفرض العقوبات.
وهي تعرف أن حق النقض الروسي في مجلس الأمن يجعل عمل الأمم المتحدة مستحيلاً. ومن ناحية أخرى، فإن القانون الدولي واحترام الالتزامات المنصوص عليها في اتفاقية مونترو لسنة 1936 يمكنان أنقرة من منع السفن الحربية الروسية في مضيق البوسفور. ومن ثم، فإن إردوغان يساعد كلا الجانبين ويُلحق بهما الأضرار.
العنصر الأخير في استراتيجية التوازن التركية هو إبقاء قنوات الاتصالات مفتوحة مع جميع الأطراف.
ويزور الزعماء الغربيون كييف ويتحدثون مع الرئيس الأوكراني زيلينسكي كل يوم، لكن زعماء الغرب لن يلتقوا ببوتين في الأسابيع المقبلة، خصوصاً بعد جرائم الحرب الروسية ضد المدنيين الأوكرانيين. وسوف يستغل إردوغان ووزير خارجيته هذا الغياب الغربي للحفاظ على الحوار مع موسكو. وأجرى إردوغان محادثة هاتفية أخرى مع بوتين في 21 أبريل (نيسان)، في الوقت الذي تتواصل فيه أنقرة باستمرار مع كييف.
وعلى الرغم من غضب إردوغان من واشنطن وباريس في السنوات الأخيرة، فإنه لم يوصد الباب أبداً أمام القادة الغربيين. فقد حضر قمة «الناتو»، والتقى بخصمه الرئيس ماكرون، ولا يزال إردوغان يأمل في التوصل إلى مصالحة سياسية مع الرئيس بايدن حتى مع علم الرئيس التركي أنهما لن يكونا أصدقاء أبداً.
وسوف تصبح سياسة التوازن التركية أكثر صعوبة خلال الأسابيع المقبلة. وكانت وزيرة الخزانة الأميركية حذرت في 13 أبريل، الدول التي تتجاهل العقوبات الغربية على روسيا من عواقب محتملة. ويعتقد المحللون أنها تشير إلى الصين، ولكن تحذيرها موجه أيضاً إلى تركيا. وإذا أصبح القتال في شرق أوكرانيا أكثر حدة، فسوف تزداد الضغوط الغربية على تركيا لفرض العقوبات.
وفي الوقت نفسه، يمكن لروسيا استغلال تجديد الأمم المتحدة المقبل للمساعدات الإنسانية للمدنيين السوريين في إدلب أوائل يوليو (تموز) كأداة ضد تركيا. ويشير الإعلان التركي في 23 أبريل بمنع الرحلات الجوية العسكرية الروسية فوق تركيا إلى سوريا، إلى أن إردوغان يستعد لمزيد من المصارعة مع بوتين في سوريا، ولكن يمكن للرئيسين التحدث عن ذلك بشكل مباشر.
-----------
الشرق الاوسط
* دبلوماسي أميركي سابق.