عم نجيب.. كل سنة وأنت طيب
سنوات يا عم نجيب لم نشد فيها على يدك.
سنوات لم ننعم فيها بجلستنا، وضحكتك الجميلة المبهجة.
إلا أنك، كما تعلم، في القلب دائما.
كيف لا ووجودك بيننا يعني أننا ما زلنا شبابا رغم اشتعال الرءوس التي حان وقت قطافها، والحيل الذي بات مهدودا؟
أنت هنا يا عم نجيب فالدنيا إذن ما زالت بخير، وطيبة.
الناس هنا في حارة محمد عباس حيث أعيش فرحون بميلادك التسعين، خاصة الست أم عبده التي أطمئنها عليكم دائما. وهي تسألني بين عقد وآخر:
"هو انت يا خويا بتشوف سي نجيب؟"
وأنا أخبرها:
"يوماتي على الله".
"والنبي تبقى تسلم لنا عليه".
"من عينيه".
"تسلم عينيك".
والست أم عبده، كما لا بد وأنك لاحظت، حاالة خاصة بين أهالي المنطقة. فلقد حدث أنها وضعت عبد الرحمن، آخر أولادها، يوم حصولكم على جائزة نوبل بالضبط، وهي تحسب عمر الولد على هذا الأساس. وكثيرا ما تضع يدها على قرعته وتقول:
"الولد اتولد يوم سي نجيب محفوظ ما أخد الجايزة بتاعة نوبل".
وأنا، من ناحيتي، أتطلع إلى هيئة الولد المزرية ولا أراه ملائما أبدا ولكنها، كما تعلم، مسألة أرزاق لا أكثر ولا أقل. لذلك لا أريدك أن تشغل بالك بهذه المفارقة. ما يستوجب عنايتك هو أن الست أم عبده صارت تسلك باعتبارها تمت إليكم بصلة من القربى القوية، وبما أنني أعرفكم فقد اعتبرتني أمت للعائلة بصلة ما وإن تكن بعيدة.
والست أم عبده، إن لم تكن تعلم، هي زوجة الأسطى عطية الذي يسكن تحتنا، والولد عبد الرحمن الذي وضعته يوم حصولكم على نوبل هو مولودها الخامس أو السادس تقريبا.
وقد نزلت زوجتي يومها وهي تحمل ما تيسر لكي تقوم بواجب الجيرة في مثل هذه الأحوال، بينما جلست أنا أمام التليفزيون المفتوح حيث كانت الدنيا مقلوبة بسبب فوزكم. والخلق يعبرون عن سعادتهم الطاغية ويبدون رأيهم في الموضوع.
لقد بدوت لي دائما، أنت، مثل واحد من هؤلاء الرجال الذين يجلسون وراء موائدهم الخشبية المتداعية أمام دور المحاكم ومكاتب السجل المدني يحررون المظالم ويعكفون على حفر الأختام النحاسية لعامة الناس الذين لا يعرفون كيف يبوحون أو يكتبون. ظللت تفعل ذلك أمام المجمع الحكومي الكبير بميدان التحرير على مدى نصف قرن أو يزيد وأنت تضع المنديل عازلا بين رقبتك وياقة القميص. فجأة، رأيت أنا فيما يرى الجالس، هذا المجمع وهو ينهار عليكم دفعة واحدة، ثم لمحتك، حمدا لله، وأنت تنهض سالما دهشا بين الأنقاض، تنفض التراب عن نفسك، وتبحث عن أختامك النحاسية الخام، وأقلامك، أدوات الحفر الصلبة، وكيس نقودك الصغير، لتجد نفسك محاصرا بمئات الأسءلة المنطوقة بكل لسان، بينما أحالت آلات التصوير العالم من حولك إلى كرنفال هائل من الأضواء والألوان والغبار.
كان ذلك شيئا واضحا حقا حتى صعدت زوجتي من زيارتها وراحت تقص علي ما حدث في الطابق الأسفل.
كانت الست أم عبده تنام على السرير نصف نومة. مولودها الجديد "هو عبد الرحمن الذي صار صبيا الآن" إلى جوارها، وحماتها العجوز عند قدميها. وعلى الكنبة جلس لفيف من نساء الحارة ونفر من الأولاد والبنات. كانوا بدورهم يشاهدون التليفزيون، يسمعون حديث الجائزة، ويشاهدونك مغتبطا وكذلك الزحمة.
وعندما ذهبت البنت سماح وعادت من المطبخ بأكواب الحلبة المطحونة قالت الست أم عبده لزوجتي:
"تفضلي يا أم هشام. عقبا لعوضك".
ثم التفتت إلى حماتها العجوز، والدة الأسطى عطية، وأخبرتها أن زوج أم هشام "لا تعني أحدا غيري" يكتب هو الآخر في الكتب والجرائد وساعات يطلع في التليفزيون ونشوفه. والعجوز قالت إنها سمعت ذلك في أحد الأيام، ثم عرفتني بعد ذلك من شعري المنكوش وشاربي الكبير عندما رأتني أحمل الكتب وأطلع على السلم. يجب علي أن أقول الآن بأن هذه العجوز بالذات لم تكن غريبة علي أبدا، فلقد صادفتها فعلا أكثر من مرة وهي تصعد السلم على أربع. هذه المرأة قالت مخاطبة زوجتي:
"قولي لي ياختي، هي الجايزة اللي كسبها سي محفوظ، تطلع كام؟".
زوجتي أخبرتها أنها، يمكن، مليون جنيه.
والعجوز وضعت كوب الحلبة جانبا ثم ضربت بيدها على صدرها وقالت:
"يا مصيبتي".
قالت زوجتي:
"طبعا".
وتهيأت للانصراف.
إلا أن العجوز عادت تسألها:
"إنما الراجل ده، مايديش جوزك حاجة من الفلوس دي؟".
وهذه ردت عليها، باعتبارها تعرف رأيي في هذه المسألة:
"لا طبعا. يديله ليه؟".
والمرأة التي لم تكن تعرف من نظام العمل إلا تلك المقاولات الصغيرة التي يقوم بها ابنها الأسطى مع صبيان مهنى النقاشة التي يظن أنه يجيدها، رجعت تقول:
"الله. مش هو الأسطى بتاعهم؟".
وهنا تدخل أحد أحفادها مقاطعا "علمت أن هذا الولد بالذات حصل على شهادة إتمام الدراسة الإعدادية" وهو قال:
"أسطى إيه يا ستي؟".
وهي استدركت:
"الريس بتاعهم يعني".
ولكن الولد أوضح لها أن هؤلاء الناس شغلهم غير شغلنا، وأن كل واحد منهم يعمل لحسابه فقط.
قالت زوجتي إن المرأة سكتت وإن لم تسلم بالأمر الواضح.
هذا ما جرى بالضبط، وما حاولت طوال الوقت أن أنقله لك.
وقد جاءت فرصة عندما تلقيت الدعوة من رئاسة الجمهورية لحضور الحفل الذي أقيم لتكريمك بالقصر الجمهوري، ولقد وجدتني أثناء وقوفي بين علية القوم أفكر في الست أم عبده التي تسكن تحتنا وزوجها الأسطى عطية ووالدته العجوز التي تصعد السلم على أربع، ولعلك تذكر أنني انحنيت عليك وقبلتك، ولعلك تذكر أيضا أنني تمهلت عند أذنك طويلا لكي أحكي لك، إلا أن قلادة النيل التي كانت تطوق عنقك حالت دون تحقيق ما انتويت.
لم يكن الظرف مناسبا. وقد فت ذلك، قليلا، في عضدي.
والآن، ها هي المناسبة الطيبة تأتي لكي أضعك في الصورة قدر الإمكان، ولكي أقول لك:
كل سنة وأنت طيب.
الناس كلهم،
وخصوصا أم عبده،
بتسلم عليك.
---------------
فيسبوك صفحة هشام ابراهيم اصلان
---------------
فيسبوك صفحة هشام ابراهيم اصلان