كنت و"مؤيد" و"لما" عائدين ليلاً من مخيم أطمة الزيتون، في الداخل السوري المحرر، عند الساعة الثامنة مساءً تقريباً، بعد جولةِ تسليم مواد إغاثيةٍ، إلي ذلك المعبر "البرزخ"، وكالعادة، بعد ان تعلمت كيفية التعامل مع أولئك الصيادين المتمرسين على اصطيادك، كيما يدخلونك الى تركيا بشكل غير نظامي وذلك عبر الإلتفاف حول المعبر، عبر طريق زراعية طينيةٍ مليئة بأشجار الزيتون، وبعد بازارٍ وأخذٍ وردْ، وافق المهرب على تهريبنا بمبلغ 700 ليرة سورية، كانت هي المبلغ المتبقي معي ليلتها، لأني كنت المسؤول عن توزيع المساعدات العينية والمادية، داخل المخيم، ولم يتبق معي سوى ذلك المبلغ ليلتها، وكنت أعرف بأني حين سأعبر الى تركيا، سأتصل بأحد الأصدقاء، كي ينقلنا بسيارته، أو على الأقل، سيبعث لنا بتكسي، تقلنا إلي بلدة الريحانية الحدودية المجاورة للمعبر.
وفيما نحن على البازار "كما يقال بالعامية" مع المهرب، إذ بسيارة سوريةٍ صغيرة، بيضاء اللون بمقعدين أمامين، تتسع للسائق وبجانبه شخص آخر، ولها صندوق صغير مغلق، آتيةٌ باتجاهنا تماما، توقفتْ، ونزل منها السائق، وأنزل زوجته التي كانت بدورها تحمل طفلا رضيعا، تلفه بغطاءٍ سميك، لتقيه صقيع تلك الليلة التي انحدرت فيها درجة الحرارة الى ما دون الصفر حتما، وكان ضباب كثيف يلف الأنحاء، بغلالةٍ بيضاء باهتة، والأبخرة التي تخرج مع أنفاسنا تدلُّ على برودة تلك الليلة القاسية، وبعدها ذهب ليفتح مؤخرة السيارة، ليقع منها على الارض كمٌّ من الحاجيات التي بدت وكأنها جمعت على عجلٍ، ومعها وقع على الأرض أربعة أطفال، نعم وقعوا كمن كانوا حملا زائدا في السيارة، لايتجاوز أكبرهم العاشرة من العمر، إثنان منهما، بديا بملامح مرعبة وكأنهما قد جاءا لتوهما من جحيم لايعرف كنهه إلا من عاش لحيظاته، والآخران كانا بلا حذاء ولا حتى جرابات، بوجوهٍ متعبة، وتبدو ملامح اللامبالاة عليها، كان الأطفال مكدسين فوق بعضهم البعض كعلب كرتونية، وتحتهم، كم هائل من الأغطية، والثياب وحاجيات منزلٍ جمعت على عجلٍ ووجل، هرباً من قصفٍ لايفرّق بين بيت وبيت، بين كبير وصغير، بين امرأة أو رجل أو طفل، وكانو يرتجفون من الخوف والبردْ.
هجم عليهم، كما هجم علينا من قبل، صيادوا الفرص، مهربي البرزخ إياه، وابتدأو بالبازار، لكن رب العائلة لم يكن يملك مالاً ولا الأم أيضاً، فقد كان هروبهما للنجاة بحياتهم، غير آبهين بالمال "إن توفر أصلا"، ولا بأي شيئٍ آخر سوى النجاة من قصف طائرات الأسد الغادرة.
سمعت المهربين يتكالبون على تلك العائلة النازحة الهاربة من الجحيم، سمعت أحدهم يقول: اعطني الساعة التي بيدك، والآخر يريد مسجلة السيارة، مقابل تهريب عائلتك، فتوجهت الى قلب تلك المعمعة، محاولا فك أسر تلك العائلة، من براثن المهربين، مازحا أحياناً ولابسا ثوب الجد أحياناً، وكأني خبير تهريب وتربطني صداقةٌ مصلحةٍ باؤلئك المهربين، وقلت للمهرب: إنها عائلة أختي الهاربةْ، وسأدفع لك ماشئت حين نعبر الى الجانب التركي، فوافق المهرب على مبلغ ألفي ليرة سورية،لتهريبنا جميعاً، عائلة أختي المفترضة، أختي وخمسة أطفال، أصغرهم بعمر أربعة أشهر، اسمه "أحمد"، و زينب، وخالد وعبد الله وفرج، وقال لي الزوج"أخي هدول أمانة برقبتكون، وأنا رح فوت بالسيارة نظامي، ورح لاقيكون بالجانب التركي"، لأنه على مايبدو يحمل جواز سفر سوري نظامي يؤهله للدخول بسيارته عبر المعبر النظامي لباب الهوى.
توليت انا حمل أحمد الرضيع، وعلى ظهري شنطة كبيرة بها كل معداتي، من كاميرا وفيديو، وبعض الماء، والكثير من بوح الخاطر ونبض التجارب، التي كنت ادونها يوما بيوم، حتى لايداهمني الألزهايمر مبكرا وأفقد بعضا منها، وتولت لما حمل زينب، وتولى مؤيد حمل خالد، وبقي عبد الله وفرج يمشيان بجانبنا لانهما يلبسان حذائيهما المفترضين.
في أطمة، تعزفُ السماء أمطارها بشغفٍ،
تفرغ الغيمات أثدائها، دفعة واحدة،
على عراتكَ يا الله.
في أطمة،
يعربد الطين،
الزيتون،
والصقيع، في حانةِ الفقراء ذاتها،
تلك ال من تنك وقصدير عتيقٍ كالفقر،
ويسبغ الموت أسداله، بلا رأفة ،
على الخيماتِ،
حارقاً جسد الصبية،
المرتجفة من خوفٍ وبرْدْ.
أطمة
المسورة بأسلاكٍ
كي لايعبر الفرح،
لكن زينب كانت تضحك،
وأحمد كان يعبئ النجمات في عبه،
وليلى الصغيرة،
صنعتْ فرحاً من بقايا الزجاجاتِ
ولبنى ال من حمص،
كانت تلوك بقايا غصن زيتونٍ
وتبتسم للغريب المرْ.
معبر باب الهوى، هو مبنىً مسور بأسوارٍ عالية على جوانبه، يبلغ طوله حوالي ال ثمانمائة متر، له بوابتان حديديتان، أحدهما للقادمين والأخرى للمغادرين، كان الوقت قد تجاوز الثامنة والنصف ليلاً، وقد خلا الجانب السوري من صخب الباعة وسائقي التكسي، وفوضى تبادل البضائع واستلام المصابين في معارك الداخل السوري، وباعة القهوة والسجائر، الذين يشتغلون في كل شي وبأي شئ الا الثورة، يعيشون على هامش كل شيئ، على هامش القرى والبلدات والحدود، وعلى هامش الثورة أيضاً، المعبر مضاءٌ جيدا بكشافات كبيرة تتيح للجنود الأتراك، رؤية كل شيئ يعبر أمامهم وعن بعد. وهم مخولون بإطلاق النار فوق رؤوس الهاربين في حال عثروا على أحدهم.
على جانبي المعبر، هنالك طريقان، أحدهما ترابي زراعي، والآخر اسفلتي، وكان حظنا سيئا تلك الليلة، فالمعبر الأسفلتي كان مغلقا لسببٍ ما، فما كان من المهرب الا أن أشار لنا بعبور المعبر الآخر، الطيني اللزج كالصابون بسبب المطر والضباب، وابتدأنا رحلة العبور.
ابتدأنا بالنزول من على الطريق الأسفلتي، باتجاه الشرق، لنعبر فوق حجارة كبيرةٍ تفصلنا عن الحاجز السلكي المثقوب بفعل مقصات المهربين، والذي يبدو بأن السلطات التركية تركته كما هو بدون إصلاح، كرسالةٍ لنا نحن السوريين بأننا نراكم، لكننا نغضُّ الطرف عن هروبكم، وكم كانت الحجارة زلقةً ليلتها، كانت المسافة بين الطريق الى تلك الفجوة في الشريط تبلغ العشرين الى ثلاثين متراً تتخللها مفاجئات غير متوقعة، مثل بروز قضبان حديدية غير مرئية، مزقت لي بنطالي، وكان أحدنا كلما واجه مفاجئة ما يصرخ منبها الآخرين وراءه، كي لا يمروا فوقها، نسيت وأنا أحمل أحمد الذي كان يداعب وجهي بيديه الصغيرتين الباردتين، آلام ظهري، وآلام الجرح الذي خلفته عملية استئصال سرطانٍ كاد يفتك بي، لكنه فتك بكليتي اليسرى، منبهها إيياي لما هو أعظم، نسيت الحمل الثقيل على ظهري وكنت انظر الى أحمد وأقول في نفسي، وله " لك الحياة يا أحمد" ولأن إسمينا، متطابقان، كنت كمن يناجي ذاته.
كانت خطواتي صغيرة جداً كي لا أنزلق، ويقع أحمد من يدي، فأحمد هو مستقبلي ومستقبل البلد، كنت حريصا على حفظ توازني، وكانت حواسيّ كلها تعمل بشكلٍ متناغم على وقع الخطر المحدق بنا جميعاً، وقلبي كان يخفق بشدةٍ كيما يوفر الدم لدماغي الذي كانت تتناهبه لحظتها آلاف الأفكار.
انتهينا من المرحلة الآولى بسلام، وعبرنا الشريط الحدودي عبر الثقب، لنبدأ رحلة الألف ميل الزلقة تلك.
الأرض طينية مزروعة بأشجار الزيتون، وهناك على يسار الطريق، ولكثرة عبور المشاة الهاربين، صارت الأرض ممهدةً نوعا ما، لكنها زلقة لدرجة مرعبة، تواجهك حفر غير مرئيةٍ، والليلة شديدة الظلمة، كنا نعتمد على أضواء هواتفنا المحمولة كي نتبين معالم الطريق.
ماإن وضعت قدمي على أول الطريق، فإذ بي أنزلق وكدت أن أفقد توازني، لولا أن حائط المعبر كان على يساري، فاستندت عليه، لكن صرخة الام التي انطلقت خوفا، أرعبنتي وأرعبت الطفل أحمد الذي ابتدأ بالبكاء فجأة، بعد ان كان يضحك ويداعب وجهي بيديه، لكنها بعد ان رأتني استند الى الجدار، هدأت قليلاً، فقال لنا المهرب ارجوكم التزموا الهدوء، لأن الجنود الأتراك موجودون في مكان ما، وأن سمعوا شيئأ سيغلقون المعبر، وسنضطر للرجوع الى الخلف. فما كان من الأم إلا أن هدأت وهدأ بكاء أحمد معها.
الهي، الهَ الهاربين في هذا الصقيع العظيم؛ امددني بدفء لحظتين، كيما يعبر أحمد الرضيع عبر هذا الجحيم الثلجي الى الضفة الأخرى لطينك الأزلي، أمددني بشمسٍ تشرق من قلبي، لتدفأ قدما أخويه العارية، أمددني بجلد الصخر، وصبر الجِمال، لأعبر الحاجز التركي، غير أبه ببندقية الجندي فوق رأسي، إلهي، الهَ العاجزين، أتسمعني؟؟؟
كان مؤيد ولما، يحملان طفلا على كتف ويسندانه بيدٍ، وباليد الأخري وكان مؤيد ينير الطريق بهاتفه المحمول، كان يمشي أمامنا مباشرة، وكنا نمشي وراء بعضنا البعض بخطٍّ طولي، كنت انا ورائه مباشرةً، قلت له ابقى قريبا مني، وقلت لام الطفل ابقي ورائي مباشرةً، اسندي لي ظهري وتمسكي بي بذات الوقت، كي احافظ على توازني، و في حال انزلاقي يكون مؤيد أمامي، والأم خلفي، كجدارٍ يمنعني من الوقوع أرضاً.
كانت أطول مسافة مشيتها بحياتي، رغم انها لاتتجاوز الميل، لان روح أحمد، وجسده الصغير، كانت بين يدي، كنا نرى بعض الهاربين من تركيا الى سوريا وبالعكس يمرون بجانبنا، وكنا نتبادل السلام، كأننا نمشي في شارع ما في سوريا، ونرد التحية بأحسن منها، تعبتُ قليلا، فطلبت من المجموعة التوقف، كي أستردّ أنفاسي، لعن الله التدخين وساعته، في تلك اللحظات تعرف ماهي مساوئه.
جلست على صخرة بجانب الطريق لبعض الوقت، ونهضت، بعد ان استعدت بعض قواي، وكأن يدا الهية كانت تدفعني، وتترفق بأحمد الكبير وبأحمد الصغير.
تابعنا المسير رويدا، على صابون الأرض الطينية التي تشبعت بمطر الليلة وبضبابها، كان همنا الوصول، وعدم الإنزلاق، وبنفس الوقت، التخفي عن أعين الجند، المتربصة، بطرائد الليل وعابريه الى بر أمانٍ مرتجى، الى أن وصلنا الى المرحلة الأصعب من الطريق.
هنا تصبح الأرض صخرية تنتهي بنهيرٍ صغير, بطول مائتي متر تقريباً، ولا مجال لأحدنا بالعبور، وهو يحمل اي شيئ بيديه، لأننا وببساطة نحتاج لكلتا اليدين، لتسلق الصخور وللنزول عنها.
التمعت في رأسي فكرة، كما البرق، خلقتها الحاجة، لأن الحاجة أمّ الإختراع، قلت: لنعمل جسراً نستطيع من خلاله تمرير الأطفال واحدا واحداً، وهو أن يقف أحدنا تحت الصخرة، والآخر فوقها ليتلقف الطفل من تحت الى فوق، ومن فوق الى تحت، وطلبنا من المهرب ان يساعد الأم بالعبور أولا، الى بر الأمان لكي تتلقف الأطفال من يدينا، حال الإنتهاء من حملهم واحدا تلو آخر.
ابتدأنا بالرضيع أحمد، وقف مؤيد فوق الصخرة، ليتلقف أحمد من يدي، ووقفت لما أسفل الصخرة لتتلقفه من يدي مؤيد، ومن ثمة أتحرك أنا وأتسلق الصخرة وأنزلها، لأتلقف أحمد من يدي لما، وهلم جر، استمرت العملية مايقارب الأربعين دقيقة،
عبر أحمد الصغير بسلام وتلقفته يد الأم المرتجفة من الخوف والبرد والجوع والعطش، كانت نظرات الإمتنان والفرح بادية على وجهها الذي كان يحمل آلاف التعابير المرئية وغير المرئية، كانت الظلمة تخفي بعضها، ونور الهاتف يبدي بعضها الآخر، من قلقٍ وخوفٍ وحزنٍ ورعبٍ وامتنان، إلي أن انتهينا من حمل كل الأطفال الى صدر امهم التي احتضنهم بشغفٍ، وكأنها لم ترهم منذ امد الخلق الى الآن.
عبرنا الثقب في اسلاك المعبر التركي واحدا تلو الآخر، والتهم الضباب أجسادنا، فما عدنا نرى شيئا ،ولا نسمع سوى نبض قلوبنا، ولهاثنا المتعب، وبعض همهمات خافتةٍ كان يحجبها الضباب الثقيل،
يدا أحمد مازالت تلاعب وجه أحمد، في هذا البرزخ الممتد.
--------------------------
معبر باب الهوى الحدودي
12-1-2013
وفيما نحن على البازار "كما يقال بالعامية" مع المهرب، إذ بسيارة سوريةٍ صغيرة، بيضاء اللون بمقعدين أمامين، تتسع للسائق وبجانبه شخص آخر، ولها صندوق صغير مغلق، آتيةٌ باتجاهنا تماما، توقفتْ، ونزل منها السائق، وأنزل زوجته التي كانت بدورها تحمل طفلا رضيعا، تلفه بغطاءٍ سميك، لتقيه صقيع تلك الليلة التي انحدرت فيها درجة الحرارة الى ما دون الصفر حتما، وكان ضباب كثيف يلف الأنحاء، بغلالةٍ بيضاء باهتة، والأبخرة التي تخرج مع أنفاسنا تدلُّ على برودة تلك الليلة القاسية، وبعدها ذهب ليفتح مؤخرة السيارة، ليقع منها على الارض كمٌّ من الحاجيات التي بدت وكأنها جمعت على عجلٍ، ومعها وقع على الأرض أربعة أطفال، نعم وقعوا كمن كانوا حملا زائدا في السيارة، لايتجاوز أكبرهم العاشرة من العمر، إثنان منهما، بديا بملامح مرعبة وكأنهما قد جاءا لتوهما من جحيم لايعرف كنهه إلا من عاش لحيظاته، والآخران كانا بلا حذاء ولا حتى جرابات، بوجوهٍ متعبة، وتبدو ملامح اللامبالاة عليها، كان الأطفال مكدسين فوق بعضهم البعض كعلب كرتونية، وتحتهم، كم هائل من الأغطية، والثياب وحاجيات منزلٍ جمعت على عجلٍ ووجل، هرباً من قصفٍ لايفرّق بين بيت وبيت، بين كبير وصغير، بين امرأة أو رجل أو طفل، وكانو يرتجفون من الخوف والبردْ.
هجم عليهم، كما هجم علينا من قبل، صيادوا الفرص، مهربي البرزخ إياه، وابتدأو بالبازار، لكن رب العائلة لم يكن يملك مالاً ولا الأم أيضاً، فقد كان هروبهما للنجاة بحياتهم، غير آبهين بالمال "إن توفر أصلا"، ولا بأي شيئٍ آخر سوى النجاة من قصف طائرات الأسد الغادرة.
سمعت المهربين يتكالبون على تلك العائلة النازحة الهاربة من الجحيم، سمعت أحدهم يقول: اعطني الساعة التي بيدك، والآخر يريد مسجلة السيارة، مقابل تهريب عائلتك، فتوجهت الى قلب تلك المعمعة، محاولا فك أسر تلك العائلة، من براثن المهربين، مازحا أحياناً ولابسا ثوب الجد أحياناً، وكأني خبير تهريب وتربطني صداقةٌ مصلحةٍ باؤلئك المهربين، وقلت للمهرب: إنها عائلة أختي الهاربةْ، وسأدفع لك ماشئت حين نعبر الى الجانب التركي، فوافق المهرب على مبلغ ألفي ليرة سورية،لتهريبنا جميعاً، عائلة أختي المفترضة، أختي وخمسة أطفال، أصغرهم بعمر أربعة أشهر، اسمه "أحمد"، و زينب، وخالد وعبد الله وفرج، وقال لي الزوج"أخي هدول أمانة برقبتكون، وأنا رح فوت بالسيارة نظامي، ورح لاقيكون بالجانب التركي"، لأنه على مايبدو يحمل جواز سفر سوري نظامي يؤهله للدخول بسيارته عبر المعبر النظامي لباب الهوى.
توليت انا حمل أحمد الرضيع، وعلى ظهري شنطة كبيرة بها كل معداتي، من كاميرا وفيديو، وبعض الماء، والكثير من بوح الخاطر ونبض التجارب، التي كنت ادونها يوما بيوم، حتى لايداهمني الألزهايمر مبكرا وأفقد بعضا منها، وتولت لما حمل زينب، وتولى مؤيد حمل خالد، وبقي عبد الله وفرج يمشيان بجانبنا لانهما يلبسان حذائيهما المفترضين.
في أطمة، تعزفُ السماء أمطارها بشغفٍ،
تفرغ الغيمات أثدائها، دفعة واحدة،
على عراتكَ يا الله.
في أطمة،
يعربد الطين،
الزيتون،
والصقيع، في حانةِ الفقراء ذاتها،
تلك ال من تنك وقصدير عتيقٍ كالفقر،
ويسبغ الموت أسداله، بلا رأفة ،
على الخيماتِ،
حارقاً جسد الصبية،
المرتجفة من خوفٍ وبرْدْ.
أطمة
المسورة بأسلاكٍ
كي لايعبر الفرح،
لكن زينب كانت تضحك،
وأحمد كان يعبئ النجمات في عبه،
وليلى الصغيرة،
صنعتْ فرحاً من بقايا الزجاجاتِ
ولبنى ال من حمص،
كانت تلوك بقايا غصن زيتونٍ
وتبتسم للغريب المرْ.
معبر باب الهوى، هو مبنىً مسور بأسوارٍ عالية على جوانبه، يبلغ طوله حوالي ال ثمانمائة متر، له بوابتان حديديتان، أحدهما للقادمين والأخرى للمغادرين، كان الوقت قد تجاوز الثامنة والنصف ليلاً، وقد خلا الجانب السوري من صخب الباعة وسائقي التكسي، وفوضى تبادل البضائع واستلام المصابين في معارك الداخل السوري، وباعة القهوة والسجائر، الذين يشتغلون في كل شي وبأي شئ الا الثورة، يعيشون على هامش كل شيئ، على هامش القرى والبلدات والحدود، وعلى هامش الثورة أيضاً، المعبر مضاءٌ جيدا بكشافات كبيرة تتيح للجنود الأتراك، رؤية كل شيئ يعبر أمامهم وعن بعد. وهم مخولون بإطلاق النار فوق رؤوس الهاربين في حال عثروا على أحدهم.
على جانبي المعبر، هنالك طريقان، أحدهما ترابي زراعي، والآخر اسفلتي، وكان حظنا سيئا تلك الليلة، فالمعبر الأسفلتي كان مغلقا لسببٍ ما، فما كان من المهرب الا أن أشار لنا بعبور المعبر الآخر، الطيني اللزج كالصابون بسبب المطر والضباب، وابتدأنا رحلة العبور.
ابتدأنا بالنزول من على الطريق الأسفلتي، باتجاه الشرق، لنعبر فوق حجارة كبيرةٍ تفصلنا عن الحاجز السلكي المثقوب بفعل مقصات المهربين، والذي يبدو بأن السلطات التركية تركته كما هو بدون إصلاح، كرسالةٍ لنا نحن السوريين بأننا نراكم، لكننا نغضُّ الطرف عن هروبكم، وكم كانت الحجارة زلقةً ليلتها، كانت المسافة بين الطريق الى تلك الفجوة في الشريط تبلغ العشرين الى ثلاثين متراً تتخللها مفاجئات غير متوقعة، مثل بروز قضبان حديدية غير مرئية، مزقت لي بنطالي، وكان أحدنا كلما واجه مفاجئة ما يصرخ منبها الآخرين وراءه، كي لا يمروا فوقها، نسيت وأنا أحمل أحمد الذي كان يداعب وجهي بيديه الصغيرتين الباردتين، آلام ظهري، وآلام الجرح الذي خلفته عملية استئصال سرطانٍ كاد يفتك بي، لكنه فتك بكليتي اليسرى، منبهها إيياي لما هو أعظم، نسيت الحمل الثقيل على ظهري وكنت انظر الى أحمد وأقول في نفسي، وله " لك الحياة يا أحمد" ولأن إسمينا، متطابقان، كنت كمن يناجي ذاته.
كانت خطواتي صغيرة جداً كي لا أنزلق، ويقع أحمد من يدي، فأحمد هو مستقبلي ومستقبل البلد، كنت حريصا على حفظ توازني، وكانت حواسيّ كلها تعمل بشكلٍ متناغم على وقع الخطر المحدق بنا جميعاً، وقلبي كان يخفق بشدةٍ كيما يوفر الدم لدماغي الذي كانت تتناهبه لحظتها آلاف الأفكار.
انتهينا من المرحلة الآولى بسلام، وعبرنا الشريط الحدودي عبر الثقب، لنبدأ رحلة الألف ميل الزلقة تلك.
الأرض طينية مزروعة بأشجار الزيتون، وهناك على يسار الطريق، ولكثرة عبور المشاة الهاربين، صارت الأرض ممهدةً نوعا ما، لكنها زلقة لدرجة مرعبة، تواجهك حفر غير مرئيةٍ، والليلة شديدة الظلمة، كنا نعتمد على أضواء هواتفنا المحمولة كي نتبين معالم الطريق.
ماإن وضعت قدمي على أول الطريق، فإذ بي أنزلق وكدت أن أفقد توازني، لولا أن حائط المعبر كان على يساري، فاستندت عليه، لكن صرخة الام التي انطلقت خوفا، أرعبنتي وأرعبت الطفل أحمد الذي ابتدأ بالبكاء فجأة، بعد ان كان يضحك ويداعب وجهي بيديه، لكنها بعد ان رأتني استند الى الجدار، هدأت قليلاً، فقال لنا المهرب ارجوكم التزموا الهدوء، لأن الجنود الأتراك موجودون في مكان ما، وأن سمعوا شيئأ سيغلقون المعبر، وسنضطر للرجوع الى الخلف. فما كان من الأم إلا أن هدأت وهدأ بكاء أحمد معها.
الهي، الهَ الهاربين في هذا الصقيع العظيم؛ امددني بدفء لحظتين، كيما يعبر أحمد الرضيع عبر هذا الجحيم الثلجي الى الضفة الأخرى لطينك الأزلي، أمددني بشمسٍ تشرق من قلبي، لتدفأ قدما أخويه العارية، أمددني بجلد الصخر، وصبر الجِمال، لأعبر الحاجز التركي، غير أبه ببندقية الجندي فوق رأسي، إلهي، الهَ العاجزين، أتسمعني؟؟؟
كان مؤيد ولما، يحملان طفلا على كتف ويسندانه بيدٍ، وباليد الأخري وكان مؤيد ينير الطريق بهاتفه المحمول، كان يمشي أمامنا مباشرة، وكنا نمشي وراء بعضنا البعض بخطٍّ طولي، كنت انا ورائه مباشرةً، قلت له ابقى قريبا مني، وقلت لام الطفل ابقي ورائي مباشرةً، اسندي لي ظهري وتمسكي بي بذات الوقت، كي احافظ على توازني، و في حال انزلاقي يكون مؤيد أمامي، والأم خلفي، كجدارٍ يمنعني من الوقوع أرضاً.
كانت أطول مسافة مشيتها بحياتي، رغم انها لاتتجاوز الميل، لان روح أحمد، وجسده الصغير، كانت بين يدي، كنا نرى بعض الهاربين من تركيا الى سوريا وبالعكس يمرون بجانبنا، وكنا نتبادل السلام، كأننا نمشي في شارع ما في سوريا، ونرد التحية بأحسن منها، تعبتُ قليلا، فطلبت من المجموعة التوقف، كي أستردّ أنفاسي، لعن الله التدخين وساعته، في تلك اللحظات تعرف ماهي مساوئه.
جلست على صخرة بجانب الطريق لبعض الوقت، ونهضت، بعد ان استعدت بعض قواي، وكأن يدا الهية كانت تدفعني، وتترفق بأحمد الكبير وبأحمد الصغير.
تابعنا المسير رويدا، على صابون الأرض الطينية التي تشبعت بمطر الليلة وبضبابها، كان همنا الوصول، وعدم الإنزلاق، وبنفس الوقت، التخفي عن أعين الجند، المتربصة، بطرائد الليل وعابريه الى بر أمانٍ مرتجى، الى أن وصلنا الى المرحلة الأصعب من الطريق.
هنا تصبح الأرض صخرية تنتهي بنهيرٍ صغير, بطول مائتي متر تقريباً، ولا مجال لأحدنا بالعبور، وهو يحمل اي شيئ بيديه، لأننا وببساطة نحتاج لكلتا اليدين، لتسلق الصخور وللنزول عنها.
التمعت في رأسي فكرة، كما البرق، خلقتها الحاجة، لأن الحاجة أمّ الإختراع، قلت: لنعمل جسراً نستطيع من خلاله تمرير الأطفال واحدا واحداً، وهو أن يقف أحدنا تحت الصخرة، والآخر فوقها ليتلقف الطفل من تحت الى فوق، ومن فوق الى تحت، وطلبنا من المهرب ان يساعد الأم بالعبور أولا، الى بر الأمان لكي تتلقف الأطفال من يدينا، حال الإنتهاء من حملهم واحدا تلو آخر.
ابتدأنا بالرضيع أحمد، وقف مؤيد فوق الصخرة، ليتلقف أحمد من يدي، ووقفت لما أسفل الصخرة لتتلقفه من يدي مؤيد، ومن ثمة أتحرك أنا وأتسلق الصخرة وأنزلها، لأتلقف أحمد من يدي لما، وهلم جر، استمرت العملية مايقارب الأربعين دقيقة،
عبر أحمد الصغير بسلام وتلقفته يد الأم المرتجفة من الخوف والبرد والجوع والعطش، كانت نظرات الإمتنان والفرح بادية على وجهها الذي كان يحمل آلاف التعابير المرئية وغير المرئية، كانت الظلمة تخفي بعضها، ونور الهاتف يبدي بعضها الآخر، من قلقٍ وخوفٍ وحزنٍ ورعبٍ وامتنان، إلي أن انتهينا من حمل كل الأطفال الى صدر امهم التي احتضنهم بشغفٍ، وكأنها لم ترهم منذ امد الخلق الى الآن.
عبرنا الثقب في اسلاك المعبر التركي واحدا تلو الآخر، والتهم الضباب أجسادنا، فما عدنا نرى شيئا ،ولا نسمع سوى نبض قلوبنا، ولهاثنا المتعب، وبعض همهمات خافتةٍ كان يحجبها الضباب الثقيل،
يدا أحمد مازالت تلاعب وجه أحمد، في هذا البرزخ الممتد.
--------------------------
معبر باب الهوى الحدودي
12-1-2013