تعظيماً لدورها، حلقت تركيا في كل الاتجاهات، تحدوها مصالحها المباشرة وحسب. وحاولت إعادة تعريف موقعها الإقليمي في ظل تداعٍ استراتيجي متسارع للوضع في الإقليم، وبخاصة تداعي الصرح العربي، وفي ظل السبات الموقت للقط الأميركي الكبير، وما نجم عنه من فراغ وانعدام الوزن، وتصاعد النشاط الروسي والإيراني العدواني لملء الفراغ، في ظل كل ذلك التحول سارعت تركيا لإعادة توازن مصالحها وملء الفراغ ودرء مخاطر استفراد روسيا وإيران.
على المحور العربي والإسلامي، طورت تركيا مبادرات استراتيجية لترسيخ نفوذها وتوسيعه، بدءاً من دعم الإسلام السياسي، وتدخلها في سوريا، مروراً بتطوير حضورها في الخليج والبحر الأحمر. وفي ما يتعلق بروسيا وإيران، ركزت تركيا على تطويع جموح كل منهما عبر موازنة القوى من جهة وخلق أرضية عمل مشتركة للمصالح وتكثيف التوافقات ودرء احتمالات الصدام من جهة أخرى.
مع بوتين، أرخت تركيا حبالها وتعاطت بإيجابية مع طموحه لتحويل روسيا الى قطب مهيمن على اقتصادات الطاقة في أوروبا، سواء بالنسبة للطاقة القادمة من الشرق الأوسط، أو وسط آسيا وكازاخستان عبر مشروع أنابيب بحر قزوين، أو البحر المتوسط، حيث تصور بوتين أن تصبح تركيا شريكة وعقدة التوزيع المركزية، وتوج ذلك لاحقاً باتفاقات 2018 بعد جهود مكثفة. لكن حقائق الحياة لم تتح الا تحقيق خط النفط Turk-Stream الخاص بتركيا.
سرعان ما بدأ يتداعى الوهم الروسي - الإيراني حول هرم القط الأميركي وتراخيه. وبدأت الولايات المتحدة تعيد تدعيم متاريسها الاقتصادية والعسكرية والسياسية منذ نهاية عهد أوباما وليتابعها ترامب بأسلوبه الخاص، ليتلوه بايدن في مأسسة خطة التمترس. وفي حينه، التقط أردوغان، بشكل لافت، إرهاصات هذا الانعطاف الأميركي، وسارع لملء الفراغات التي تحتاج الولايات المتحدة لملئها، في مناطق فقدت فيها أدوات التأثير.
وبدءاً من معارك جنوب إدلب 2020، مروراً بترجيح ميزان القوى في ليبيا بعيداً من روسيا، وصولاً إلى ناغورنو-كراباخ، ثم أوكرانيا، أعادت تركيا تموضعها، وسارعت بالتالي لاستعادة دورها كلاعب في حلف أطلسي يعيد لحمته. أما في وسط آسيا، حيث بدأ يغلي مرجل ضخم لآلهة الحروب، فلقد وفر الانسحاب الأميركي من أفغانستان فرصة كبيرة لتركيا كي تعزز دورها وانتدابها المنسق مع الولايات المتحدة لملء الفراغ.
ثم جاءت مغامرة بوتين في أوكرانيا، لتنسف، عملياً، المشاريع التي عوّلت تركيا عليها في التقارب مع روسيا، والأهم أن المغامرة أيقظت القط الأميركي الكبير، وجعلته ينتفض بشراسة. وإذ تمضي الولايات المتحدة بعيداً في تكريس الفرصة التي أتاحتها مغامرة الحرب، لتسريع بناء متاريسها وتدعيمها تحالفاتها وإخراج روسيا تماماً من مسارات العولمة، يزداد تمسك حلفاء الأطلسي بالدور التركي.
ورغم كل ذلك، تجد تركيا نفسها في وضع معقد للغاية. في الجوهر لا تستطيع تركيا أن تركن بأمان لانهيار الوضع الاستراتيجي والأمني من حولها بدءاً من البحر الأسود والشرق الأوسط وصولاً للبحر المتوسط. وفي وقت فقدت فيه صواريخ "S-400" أي مغزى حقيقي، هي تدرك أهمية ارتباطها بالأطلسي، وأهمية الاستمرار في تعظيم موقعها الإقليمي بالنسبة للحلف ذاته.
وبالمقابل، تتمتع تركيا بعلاقات عميقة قديمة مع أوكرانيا، تجسدت في عقود دفاعية كبيرة، ورغم الاحتجاج الروسي تمكنت تركيا من بيعها مسيّرات بيرقدار التي صارت أسطورة في الأغاني الأوكرانية، كما وقعت اتفاقية تعاون دفاعي مع أوكرانيا لإنتاج مسيّرات نفاثة.
لكن تركيا تسعى لعدم الوقوع في براثن الصراع، فرغم إدانتها الشديدة الغزو الروسي لأوكرانيا، وإغلاقها لمضائقها المائية، سمح لها توزيع الأدوار ضمن حلف الأطلسي ألا تندفع في تطبيق العقوبات على روسيا، وتحتفظ بمجالها الجوي مفتوحاً للطائرات الروسية. والأهم، فلقد أتاح لها دورها الأطلسي ان تلعب دور الوسيط بين الطرفين.
مع تداعي المشروع الروسي للهيمنة في الإقليم، لم يعد لروسيا الكثير مما تقدمه على مسارات الطاقة في آسيا والشرق الأوسط وصولاً إلى أوروبا، لا من حيث الاقتصاد ولا من حيث موازين القوى، في حين فتحت الحرب، بالنسبة الى تركيا، فرصاً جديدة كي تستفيد من ثروات روسيا المكلومة والمتضورة.
وبهدف تحويل هذه الأزمة الدولية إلى فرصة، تحتفظ تركيا بعلاقاتها مع روسيا كشريك اقتصادي، لكنها وفي ظل الفراغ الناجم عن الضعف الروسي، تسارع لإعادة ترتيب أوراقها، وتكثيف اتصالاتها بكل خصوم الأمس. وبدءاً من التواصل الإيجابي مع اليونان إلى التواصل الوثيق مع إسرائيل والبحث في توافقات حول الطاقة في المتوسط معها، إلى الزيارة الدرامية المرتقبة لأردوغان إلى المملكة العربية السعودية، ترتسم لوحة جديدة تماماً لدور تركيا.
ستأتي زيارة أردوغان السعودية علامة رئيسية في إعادة هيكلة الموقف الاستراتيجي التركي، وسيساعدها ذلك أيضاً في تعزيز اقتصادها ودعم السلع الأساسية في السوق التركية قبل الانتخابات. وسيكون وصول الشركات التركية إلى السوق السعودية مدعاة للارتياح، سواء في السياحة أو الاستثمار، كما في التصدير.
ذلك أن تركيا تواجه تحديات كبيرة على الصعيد الداخلي أيضاً. فلقد أثرت مناوراتها الإقليمية السابقة في وضعها الاقتصادي. وانعكست سلباً على صادراتها وعلى سعر العملة. ومع تضخم يصل الى 61.1 في المئة، وتراجع الصادرات الصناعية، يعاني الاقتصاد التركي من أزمة جدية، بخاصة بعد ارتفاع أسعار الطاقة وصناعة النقل والمواد الغذائية جراء الصراع في أوكرانيا.
لكن الأهم، هو أن تركيا تعود من جديد لتعزيز علاقاتها الاقتصادية والاستراتيجية مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، في حين تدرك تركيا أن ازدياد عدد يخوت الأوليغارشيين الروس في المنتجعات التركية، لا يتوقع لأموالهم أن تؤثر في تخفيف الأزمة المقبلة، على مشارف الانتخابات.
كان اللعب التكتيكي البارع لأردوغان مفيداً لتركيا في مناخ انعدام الوزن الدولي السابق، لكن ذلك أصبح من الماضي.
ومع تصاعد الاستقطاب الدولي، وبغض النظر عما سيقوله الناخب التركي في الانتخابات المقبلة، يبقى البعد الاقتصادي الأوروبي لتركيا، والبعد الأطلسي الاستراتيجي، حتميات تفرضها الضرورات. فحين تهتز الحبال بشدة يأتي أوان النزول على الأرض.
----------
النهار العربي
----------
النهار العربي