أنماط التحليل الشائعة متنوعة، ويمكن أن توجد بعضها مجتمعة لدى الشخص نفسه، بحسب الحدث السياسي المتناول، واللحظة الزمنية التي يمر بها صاحب التحليل. هذا يعني أن الشخص المحلِّل للسياسات أو القارئ للواقع لا يتوافر، من الأصل، على تماسك منهجي، ترابط المقدمات والنتائج، وثبات وجهات نظره نسبياً عبر الزمن، لذلك ليس هناك ما هو أصعب من الدخول في نقاش مع هذا النمط من “المحلِّلين”، إذ لا يمكن أن يكون هناك أي معنى أو نتيجة لأي حوار معهم طالما لم يعترفوا بضرورة التعب على الذات، وبذل جهد فكري سياسي مهم بهدف التخلص من أنماط التحليل السياسي الشائعة،
والتي أعرضها بحسب رؤيتي في ما يلي:
1- التحليل السياسي الأيديولوجي: أصحاب الأيديولوجيات المغلقة والشمولية في العموم بعيدون جداً من تقديم تحليل سياسي حقيقي أو قراءة علمية لحوادث الواقع، إذ تستولي على رؤوسهم المسبقات والمسلمات الأيديولوجية التي يسعون لإثبات صحتها في الواقع، ليكون هاجسهم الأساسي إثبات أن الواقع والمتغيرات تسير وفقاً لتعاليم أيديولوجياتهم، وأنهم كانوا على صواب دائماً. وهناك أمثلة لا حصر لها على هذا النمط من تحليل الواقع، فالمحلِّل الأيديولوجي الشيوعي مثلاً من الصعب غالباً أن يستوعب فكرة الدور الروسي الذي يقف ضد تطلعات شعوب المنطقة، وسيظل ينتج قراءة سياسية للواقع أساسها القناعة بالسعي الروسي للسلام والمناصرة الروسية. والمحلِّل الأيديولوجي الإسلامي، منطلقه على الأغلب في تحليل الدور الإيراني في سورية هو الخلاف المذهبي بين السنة والشيعة، فيما المحلِّل الأيديولوجي القومي الكردي يحلِّل السياسة التركية في الأغلب استناداً إلى أيديولوجية قومية متوجسة وعدائية تجاه تركيا جملة وتفصيلاً. أما المحلِّل القومي العربي فمن العبث إقناعه بأن مصر السيسي مختلفة عن مصر عبد الناصر، لذلك يلهث باتجاه، كما يقول ويكرِّر، باتجاه دور مركزي لمصر في حل القضية السورية. جميع هذه القراءات أيديولوجية وذاتية ولا علاقة لها بالسياسة أو الواقع.
2- التحليل السياسي الإعلامي: يعتمد هذا النوع من التحليل على استنباط الحقائق وقراءة الواقع من خلال متابعة التصريحات الإعلامية لأصحاب القرار أو من رصد الأخبار الانتقائية أو الجزئية أو المحوَّرة أو الكاذبة التي تبثها القنوات الفضائية. هنا يفوت هؤلاء مقولة إلياس مرقص “الدبلوماسية هي فن الكذب”، بمعنى أن تصريحات وبيانات الشخصيات والجهات والقوى السياسية تحتوي بطريقة أو أخرى شيئاً من الكذب أو التلفيق بالضرورة. الإعلام فيه ما هو صادق وما هو كاذب، ويحتاج تبيان الحقائق إلى الكثير من المقارنة والتدقيق والبحث والتمحيص لكل ما نراه ونسمعه. من المشكلات المعهودة أيضاً في هذا السياق الركون إلى الصحافة الغربية، وبحكم عقدة النقص لدى أبناء المنطقة تجاه الغرب، تصبح أي مقالة منشورة في الصحافة الغربية ذات صدقية عالية، ويُعتمد عليها في التحليل السياسي.
3- التحليل السياسي الطائفي أو المذهبي: ثمة نوع من التحليل السياسي الذي شاع خلال العامين الماضيين، وهو التحليل الذي يستند إلى خلفية طائفية أو موقف طائفي أصلاً في قراءة الواقع السياسي. هناك مثلاً تحاليل شائعة لوضع وسياسات وممارسات إيران وحزب الله والسعودية وقطر وتركيا وجبهة النصرة وغيرها، تختلط بهذه الدرجة أو تلك بالخلفية الطائفية للمتحدث والطرف الخاضع للتحليل. هذا النمط من التحليل لا يوصلنا بالتأكيد إلى معرفة الواقع وفهم السياسات الفاعلة فيه، فالدول والشخصيات المختلفة يمكن أن تستخدم الخطاب الطائفي للتضليل أو بقصد التعبئة والتجييش، لكنها في الأغلب غير معنية بالطوائف والمذاهب.
4- التحليل السياسي الرغبوي أو الذاتي: وهذا نمط من التحليل يعبر عن استمرار نمط العلاقة الطفولية في التعاطي مع الواقع. فبدلاً من اشتقاق الهدف من الواقع، تجري قراءة الواقع بالانطلاق من الهدف. فقد سمعنا مثلاً كثيراً من القراءات والتحاليل السياسية الساذجة التي تنبأت بسقوط النظام السوري خلال شهرين أو بضعة أشهر، وهي قراءات تفرض رغبتها وأمنياتها على الواقع، ليصبح الواقع بالتالي في هذا التحليل طوع بنان الأمنيات والأمزجة الشخصية. كذلك، هناك شكل من تحليل الواقع ينطلق أساساً من تبني موقف سياسي قطعي، وبالاستناد إلى هذا الموقف يجري التعامل مع حوادث الواقع. مثلاً، صاحب الموقف الموالي للنظام سيقرأ الوضع الميداني بطريقة مختلفة عن قراءة صاحب الموقف المعارض، وهي قراءة ذاتية لا ترى الواقع كما هو بمعزل عن الموقف السياسي.
5- التحليل السياسوي: وهذا نمط من التحليل يهتم كثيراً بالبنية السياسية الفوقية، أي مراكز القرار والحكم، وعلاقات أركانها ببعضهم بعضاً وبالآخرين، فنرى صاحب التحليل مهتماً بأخبار العلاقات الشخصية للرؤساء والملوك والأمراء، باعتبارها أمراً حاسماً في تحريك الواقع والعلاقات بين الدول والقوى المختلفة. لا نزال نتذكر التحاليل السياسية التي فسرت السياسة الأميركية في سورية بالاستناد إلى شائعات أو ادعاءات طالت الرئيس الأميركي أوباما، مثل “الكشف” المبين عن أصوله الشيعية، وكذلك التحاليل التي قرأت أوضاع النظام السوري استناداً إلى تناول عدد من شخصياته كرستم غزالة وعلي مملوك وغيرهم.
6- التحليل السياسي الإقليدي أو الخطي: هناك نمط من التحليل يقوم على النظر إلى العلاقات السياسية على أنها علاقات بسيطة خطية، تماماً كالهندسة الإقليدية التي تعتمد العلاقات الخطية في مستوٍ مؤلف من بعدين فحسب. فهذا التحليل يعمل على تقسيم الدول والقوى والفاعلين إلى معسكرات مغلقة، تقوم بينها علاقات تبعية خطية في اتجاه واحد. وبالتالي يجري تفسير حوادث الواقع استناداً إلى هذا التبسيط المضلِّل. فالعلاقات الدولية أعقد كثيراً، ولا تسير بشكل خطي بسيط، بل تنبني عبر الزمن في صيغ مركبة ومعقدة بشكل كبير. علاقة أميركا بإسرائيل وبدول الخليج مثلاً في غاية التعقيد، ولا تقوم على أساس خطي ينطلق من أميركا ويصب في هذه الدول، فليس كل ما تقوم به هذه الدول يخضع للضوء الأخضر الأميركي، بل يمكن لهذه الدول، مع اختلاف في الدرجة في ما بينها بالطبع، أن تؤثر نسبياً في السياسة الأميركية، ومثلها أيضاً علاقة روسيا وإيران بالنظام السوري. بمعنى آخر، نكتشف دائماً تناقضات أيديولوجية واقتصادية وسياسية معقدة بين الدول المتحالفة في ما بينها.
7- التحليل السياسي القياسي: هنا يقوم المحلِّل ببساطة باستحضار تجربة سياسية من التاريخ أو الواقع الحديث، ويسبغها على واقع آخر، لتصبح مهماتنا مقصورة على التكرار الطفولي، ونقل الممارسات من التجربة المعتمدة وتطبيقها في الواقع الجديد. هذا يحدث بالطبع من دون قراءة معمقة للتجربة وتفاصيلها وأحوالها وشروطها وزمنها والأطراف الفاعلة فيها. فقد قام مثلاً بعض المحلِّلين “العتاة” باستحضار التجربة الليبية وحشروا الواقع السوري فيها، وتنبؤوا بمسار هذا الواقع بالاستناد إلى ما حدث في ليبية من تدخل عسكري، والظواهر التي رافقته مثل تشكيل “مجلس انتقالي ليبي” وغيرها، لكن الواقع كان فظاً معهم، وأظهر طفولية تحليلاتهم بوضوح. في الحقيقة، القياس الميكانيكي هو أبسط طرق التفكير، ويعبر عن سذاجة مؤلمة في قراءة الواقع.
8- التحليل السياسي الرقمي: هناك نمط من تحليل الواقع يستند بشكل رئيسي إلى أرقام إحصائية اعتباطية، أو أرقام منشورة في الإعلام، أو أرقام ملوية الذراع، اختلقها أو حوِّرها “باحث” ذو موقف سياسي أو أيديولوجي أو مذهبي. من الجدير القول إن الأرقام الإحصائية واحدة من عناصر كثيرة في التحليل، ولا يمكن الاعتماد عليها وحدها في كشف الواقع والتنبؤ بمساره، خصوصاً أن معظم الدراسات الإحصائية الشائعة تعتمد بعداً رقمياً واحداً في التعاطي مع الواقع، إضافة إلى اختلاف الأرقام باختلاف الباحثين واللحظة الزمنية التي تجرى فيها الدراسة. من الأمثلة على ذلك التحاليل المنتشرة التي تعتمد على أرقام النفط والطاقة في تفسير حوادث الواقع وسياسات الدول، إذ لا يمكن أن يكون الحقل السياسي انعكاساً صرفاً لتلك الأرقام وتأثيراتها، على الرغم من تأثيرها الأكيد.
9- التحليل السياسي الحقوقي: في هذا النمط من التحليل الذي يقوم به بعض نشطاء حقوق الإنسان، تجري مقاربة الواقع من خلال الحقوق وليس المصالح وتوازنات القوى، وتتحدد مواقف المحلِّل الحقوقي تجاه حوادث الواقع بالاستناد إلى الحقوق فحسب. يؤمن هذا المحلِّل ضمنياً بأن الحقوق هي التي تحرك الواقع وتصنع سياساته، فنراه يدخل في جدالات حقوقية لا نهائية لإثبات صحة مقولاته. في الحقيقة، لو كانت الحقوق هي الأساس لاسترجعنا فلسطين والجولان منذ نصف قرن على الأقل. ويلاحظ كذلك أن الحقوق تعمل لدى الحقوقي المحلِّل في مكان وتغيب في مكان آخر. فالحرب السعودية في اليمن هي عدوان على الإنسانية من وجهة نظر حقوقية، بينما حرب حزب الله في سورية ليست كذلك، مع العلم أنه لا قيمة لمثل هذه الرؤى أصلاً، للأسف، في حقل السياسة.
10- التحليل السياسي القائم على “الجكارة”: وقد شاع مثل هذا التحليل في ظل حالة التوتر والاستقطاب الحادة في الوضع السوري، فليس من النادر أن يقوم محلِّل ما بتقديم تحليله للواقع بالانطلاق من عدائية مفرطة أو بتأثير من هامشيته المزمنة، مقدماً رؤية مستحيلة التصديق، ولا غاية لها سوى “احتقار” عقل الآخر، كالتحليل الذي قدمته بعض الشخصيات والقوى “المعارضة” لقصف غوطة دمشق بالكيماوي، إذ اعتبرت أن “المعارضة المسلحة” في ريف دمشق هي التي أطلقت الصواريخ الكيماوية، وهو تحليل لا يصب، في الحقيقة، سوى في خانة “المجاكرة”.
أخيراً، إن القدرة على إنتاج تحليل سياسي صائب وقراءة حوادث الواقع ومساراته وسياساته، تحتاج إلى جملة من الأدوات الضرورية، ومن دونها لا يمكن أن نسمي أي مقاربة للواقع والوضع السياسي إلا شكلاً من أشكال الهذر والتخريف، أو شكلاً من التضليل المقصود أو غير المقصود للذات والآخر، ولهذا الأمر ميدان آخر يطول الحديث فيه.
---------
حرمون