لأكثر من مئتي عام ظلّ قانون نيوتن للحركة يُدرّس على أنه حقيقة فيزيائية مسلّم بها، فـالجسم الساكن يبقى ساكناً، ما لم تؤثر عليه قوى ما” إلى أن جاءت نظريّة النسبيّة لآينشتاين وأحدثت فيه تغييراً جذريّا، ليصبح الزمن بُعداً رابعاً، فما دامت الأرض تدور حول نفسها، وتدور حول الشمس، التي ترتهن بدورها لحركة المجرّات في الكون، فلا شيء ثابت البتَّة.
ولتوضيح مفهوم النسبية افترض العلماء المثال الآتي: لو أن توأمين ولدا في نفس الوقت فبقي أحدهما على الأرض وغادر الآخر الكوكب على متن مركبة تنطلق بسرعة الضوء لمدّة سنة، ثم عاد بنفس السّرعة مرّة أخرى للأرض، سيجد أن توأمه قد صار بعمر خمسين سنة وهو مازال بعمر سنتين، نتيجة تمدّد الزّمن لدى التّوأم المُسافر أثناء تحرّكه بسرعة الضّوء. فإن اعتقد شخص يجلس أمام التلفاز دون حراك أن “المسافة بيننا ثابتة، فكيف لا نكون ثابتَين في المكان؟” سيكون اعتقاده صحيحاً بالنسبة للمكان المحدود الموجود به، لكنه ليس صحيحاً بالنسبة للكون الذي هو في حركة مستمرة.
فإذا أخذنا قيمة أخلاقيّة مطلقة كالصدق أو الوفاء أو النزاهة أو العدل… وحاولنا تصنيف أنفسنا لنرى إن كنّا داخل منظومتها أم خارجها، فسوف يصعب تخيّل شخص يقيّم نفسه بالقول “أنا كذاب” وبالوقت نفسه يصعب تخّيل كائن بشري، صادق بالمطلق.
كذلك إن أخذنا العدل بين الأبناء، فهي صفة كلّنا يدّعيها، فيما هناك على الغالب ابن يميل القلب نحوه، وتميل معه العطايا سواء كانت عينيّة أم معنويّة.
مثلما ننصتُ أحيانا لشكوى مظلومٍ في نزاعٍ مع طرفٍ تجمعنا به مصلحة أو مودّة فندعي التزام الحياد، ونتوجّه باللومِ لزيد فيما نغضُّ الطرف عن انتقاد عمرو.
وقد نحتدُّ مطالبين بالعدل حين يتجاوزنا أحد في طابور انتظار، لكننا لا نمانع أن نصادف موظفاً يعرفنا فيسيّر أمورنا قبل المنتظرين الآخرين.
وهكذا تراوح ممارساتنا بين ما هو ثابت وما هو نسبيّ، فمن يحدد الخط الفاصل بين الصدق والكذب؟ بين الوفاء والخيانة؟ بين الإنصاف واتباع الهوى؟ حيث لا حدود واضحة، ولا تدرجات بين الأبيض والأسود نموضع على سلّمها ما درجنا على تسميّته كذبة بيضاء أو ملوّنة.
إذن فالنفس البشرية والعلاقات الإنسانية، سواء على المستوى الفرديّ أو مستوى الجماعات والدول، أعقد من أن توضع لها خريطة واضحة المعالم ظاهرة الحدود، وكل ما نتبنّاه من أفكار أو ما نقاربه من قيم يخضع لقانون النسبيّة والتي تتأثر بدورها بعوامل شخصيّة وبيئية وظرفيّة.
حتى في الدِّين هناك إلى جانب الثوابت، مساحة مرنة تحت مسمى “الجائز” أو “المشتبه”، وقد جاء في الحديث الشريف “الحلال بيّنٌ والحرام بيّنٌ وبينهما أمور مشتبهات”.
وهناك ما تؤخذ أحكامه بالقياس والاجتهاد. ولمّا كان سعي الإنسان قاصراً عن بلوغ الكمال أو إتيان ما هو وافٍ وتام الأركان جاءت القاعدة الفقهيّة الأشمل “سدّدوا وقاربوا” هذه المقاربة للكمال نشأت من نسبية الاستطاعة على تمثل القيم، فقدرات الأفراد تتفاوت.
وإذا كانت النسبية في التعاطي مع القيم النظرية قد أعطت مساحة من المرونة في التعاملات، لكنها في الوقت نفسه فتحت الباب للباحثين عن الثغرات لتبرير تجاوزاتهم فأساؤوا توظيفها في مجالات عدة أبرزها السياسات الدولية.
يكفي أن نلقي نظرة على قرارات الهيئات الأمميّة والمحاكم الدوليّة، واستخدام حقّ النقضِ فيها، لندرك كميّة المداورة والمناورة في المواقف والتصريحات والإدانات، وكله تحت مظلة القوانين والدساتير وقوائم حقوق الإنسان وادّعاء مساعدة الشعوب الفقيرة ونصرة المظلوم، فيما القانون الأوحد لعبة أجاد مستخدموها المراوحة بين ما هو ثابت وما هو نسبي حسب مقتضيات المصلحة.
والذي أراه في حال تعذر تبيان حدود فاصلة لما هو نظري وقيمي للبتِّ في قضيّة إشكاليّة، فالأحرى أن نحتكم للعقل وللإنسانيّة، لعل ما نعتقد جازمين أنه الصواب يحتاج لقول الشافعي “رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب” لا أن نغرق في مهاترات أحالت اغتيال مناضلة كرّست حياتها المهنيّة لمناصرة شعب مستلب الحقوق برصاصِ احتلالٍ غادر لم يراعِ يوماً القوانين الدوليّة كي يقيم اعتباراً للقيم الإنسانيّة، إلى سجال بعيد عن جوهر القضية الأساس، ليصير لسان حالنا، ما قاله البياتي:
“طحَنَتنا في مقاهي الشَّرقِ حربُ الكلمات … شغلتنا الترهات”
متناسين أن الوعي يستلزم تجاهل القضايا الهامشية التي يسعى البعض من خلال نبشها، قصداً أو جهلا، لجرِّ القضيّة المحوريّة إلى مستنقع الجدل العقيم.
في الخلاصة: الثوابت قوانين ضابطة تنظّم حياتنا، ومن دونها تتحول الحياة لغابة حقوق ضعيفها مُضيّعة، لكننا لسنا روبوتات مسيّرة وفق برمجة ثابتة.
ومَن يعتقد بصواب أفكاره بالمطلق، ويرفض بشكل قطعي تقبّل فكر مغاير هو بطريقة أو بأخرى مثل الرجل والتلفاز الذي يصرُّ أنهما ثابتان، ولو قُيّضَت له مركبة تنطلق به خارج الكوكب لرأى أن ثباته جزء من متغيّر في حركة الكون الدائبة.
------------
الناس نيوز