عندما خرج رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير من الحكم، كتبت مقالا تحت عنوان "بلير.. الخروج من الباب الخلفي". فهو لم يستطع الخروج من الباب الأمامي الذي دخل منه، كواحد من أقوى رؤساء الوزراء برلمانيا و"شبابيا" في التاريخ البريطاني، بعدما فشل في العثور على من يتفق معه في سياسته الخارجية ( لاسيما المرتبطة بالولايات المتحدة الأميركية). فقد أراد أن يكون قائدا دوليا، لكنه اختار أسوأ الأدوات لتحقيق أمله هذا. فخسر "حلمه الدولي" في القيادة، قبل أن يخسر "حلمه الوطني" في الاستمرار أطول فترة ممكنة حاكما. ومع ذلك.. فالرغبة في الاستمرار على مسرح الأحداث لم تتراجع عند رئيس الوزراء البريطاني السابق. فقد اقتنص موقعا دبلوماسيا على ساحة الصراع العربي – الإسرائيلي، لكن عيناه لم تغب عن منصب رئيس الاتحاد الأوروبي. فهو موقع مرموق جديد، سيُدخل بلا شك شاغله التاريخ من بابه الواسع، لا من "مخرج الفرار" الضيق، وسيكرس الفائز به، كشخصية سياسية جامعة، لا كشخصية مفكِكة. لكن توني بلير خرج من أرفع منصب أوروبي، قبل أن يدخل إليه أصلا، بل قبل أن يُعتمد هذا المنصب في الهيكلية الإدارية والسياسية للاتحاد الأوروبي!.
وإذا كان "الالتصاق" البريطاني في عهد بلير، بالولايات المتحدة الأميركية في عهد جورج بوش الابن، سببا رئيسيا في رفض قبول ترشح الأول لموقع رئيس الاتحاد الأوروبي، فإن هناك عوامل أخرى، ساهمت في بقاء بلير مندوبا لـ "الرباعية الدولية" إلى مفاوضات الشرق الأوسط فقط. فلم تشفع له "توسلات" خلفيته جوردون براون أمام صناعي قرار التوظيف الأوروبي. وأحسب أن هذا الأخير، ما كان ليتوسل، إلا لكي يتخلص من "شبح" بلير على ساحة حزب العمال البريطاني الحاكم، الذي خرج من زعامته رئيس الوزراء السابق، كـ "اقتلاع الضرس" من دون تخدير. وقبل أن أتحدث عن العوامل الأخرى، التي أبقت بلير بعيدا عن رئاسة الاتحاد الأوروبي، لابد من الإشارة هناك، إلى التأثيرات السلبية لما قاله وزير الخارجية الأميركي الأسبق كولن باول، عن علاقات بلير ببوش الابن، وعن المرحلة التي اختلط فيها على العامة، إذا ما كان بوش يحكم بريطانيا بالفعل!.
كان هناك من يرى، أن "التلاحم" بين الرجلين، لم يكن خاطئا، بل على العكس، كان ضروريا، لماذا؟. لأن وجود شخص كتوني بلير، مع آخر أحمق وأمي سياسي كجورج بوش الابن، يشكل توازنا مطلوبا، ويقلل من الحماقة "البوشية" التي شملت كل شيء خارج الولايات المتحدة وداخلها. ولكن ماذا يقول باول هنا :" لقد حاولت ومعي زميلي وزير خارجية بريطانيا آنذاك جاك سترو، أن نجعل بلير يُقدم على مراجعة بوش الابن". ويضيف قائلا:" لقد وجدنا أن رئيس الوزراء البريطاني السابق، جاهز لمراجعة بوش حول العديد من القضايا، وفي مقدمتها الشأن العراقي. لكن ما أن يرى بلير الرئيس الأميركي حتى يفقد عزمه"!!.
إذن.. لم تكن العلاقة ضرورية بين الاثنين، إذا لم تصل إلى مستوى، يمكن توني بلير "الحكيم والسياسي المحنك" من مراجعة بوش " الأحمق والسياسي الجاهل". ويضاف إلى "قنبلة" باول التي انفجرت في وجه بلير، أن الاتجاه لتقديم رئيس الوزراء البريطاني السابق إلى محاكمة بسبب حربه في العراق، أو على أقل تقدير استجوابه "بعنف تحقيقي" - غير جسدي بالطبع- لإشراك بلاده في حرب غير مبررة من الناحية القانونية أو لنقل: من الناحية المعلوماتية، لاسيما فيما يتعلق بالقدرات النووية العراقية التي لم تكن موجودة أصلا، هذا الاتجاه، ساهم هو الآخر في إبقاء بلير خارج المنصب الأوروبي الأكبر.
أما من الناحية الأخرى، فيرى الأوروبيون الموالون للاتحاد الأوروبي، أن توني بلير، لم يقم بما يكفي من خطوات عملية، لدمج بلاده بالاتحاد، خلال فترة حكمه التي دامت قرابة العشر سنوات. فلا تزال بريطانيا خارج نطاق منطقة اليورو، ولم تقم – حتى الآن – بإقرار الدستور الأوروبي، ولا تزال تعمل على بعض " الجبهات"، كبريطانيا لا كدولة عضو في اتحاد يتكرس يوما بعد يوم، ويتحول شيئا فشيئا إلى دولة واحدة. والأوروبيون الذين رفضوا توني بلير رئيسا للاتحاد، يعتقدون بأن هذا الأخير، يمثل الماضي ولا يرتبط بالمستقبل. وهذا لوحده سببا كافيا، لإبقاء بلير في أي مكان، إلى المكان الأوروبي.
والحقيقة، أن هؤلاء يمسكون بمبررات لا تقهر في هذا المجال. فكيف يمكن أن يأتي شخص من بلد ليس مندمج تماما مع وتيرة اندماج الاتحاد الأوروبي، ليكون رئيسا لهذا الاتحاد؟!. وكيف يمكن القبول بهذا الشخص، بينما لا تزال شوائب علاقاته مع إدارة بوش السابقة، على الساحة، بتداعياته وتبعاتها؟.
إنها مسألة فيها الكثير من النظر، والكثير من المنطق، والكثير من الحكمة. كما أنها ستكون مثالا يحتذى لأي زعيم أوروبي، يسعى في المستقبل للخروج عن "النص الأوروبي". فالاتحاد الأوروبي أصبح مثل الحزب السياسي، من يخرج عن نطاقه، يخرج منه.. وإلى الأبد، أو في أحسن الأحوال، يتعرض إلى تقليص نفوذه، بكل الوسائل المتاحة.
--------------------
m@karkouti.net
وإذا كان "الالتصاق" البريطاني في عهد بلير، بالولايات المتحدة الأميركية في عهد جورج بوش الابن، سببا رئيسيا في رفض قبول ترشح الأول لموقع رئيس الاتحاد الأوروبي، فإن هناك عوامل أخرى، ساهمت في بقاء بلير مندوبا لـ "الرباعية الدولية" إلى مفاوضات الشرق الأوسط فقط. فلم تشفع له "توسلات" خلفيته جوردون براون أمام صناعي قرار التوظيف الأوروبي. وأحسب أن هذا الأخير، ما كان ليتوسل، إلا لكي يتخلص من "شبح" بلير على ساحة حزب العمال البريطاني الحاكم، الذي خرج من زعامته رئيس الوزراء السابق، كـ "اقتلاع الضرس" من دون تخدير. وقبل أن أتحدث عن العوامل الأخرى، التي أبقت بلير بعيدا عن رئاسة الاتحاد الأوروبي، لابد من الإشارة هناك، إلى التأثيرات السلبية لما قاله وزير الخارجية الأميركي الأسبق كولن باول، عن علاقات بلير ببوش الابن، وعن المرحلة التي اختلط فيها على العامة، إذا ما كان بوش يحكم بريطانيا بالفعل!.
كان هناك من يرى، أن "التلاحم" بين الرجلين، لم يكن خاطئا، بل على العكس، كان ضروريا، لماذا؟. لأن وجود شخص كتوني بلير، مع آخر أحمق وأمي سياسي كجورج بوش الابن، يشكل توازنا مطلوبا، ويقلل من الحماقة "البوشية" التي شملت كل شيء خارج الولايات المتحدة وداخلها. ولكن ماذا يقول باول هنا :" لقد حاولت ومعي زميلي وزير خارجية بريطانيا آنذاك جاك سترو، أن نجعل بلير يُقدم على مراجعة بوش الابن". ويضيف قائلا:" لقد وجدنا أن رئيس الوزراء البريطاني السابق، جاهز لمراجعة بوش حول العديد من القضايا، وفي مقدمتها الشأن العراقي. لكن ما أن يرى بلير الرئيس الأميركي حتى يفقد عزمه"!!.
إذن.. لم تكن العلاقة ضرورية بين الاثنين، إذا لم تصل إلى مستوى، يمكن توني بلير "الحكيم والسياسي المحنك" من مراجعة بوش " الأحمق والسياسي الجاهل". ويضاف إلى "قنبلة" باول التي انفجرت في وجه بلير، أن الاتجاه لتقديم رئيس الوزراء البريطاني السابق إلى محاكمة بسبب حربه في العراق، أو على أقل تقدير استجوابه "بعنف تحقيقي" - غير جسدي بالطبع- لإشراك بلاده في حرب غير مبررة من الناحية القانونية أو لنقل: من الناحية المعلوماتية، لاسيما فيما يتعلق بالقدرات النووية العراقية التي لم تكن موجودة أصلا، هذا الاتجاه، ساهم هو الآخر في إبقاء بلير خارج المنصب الأوروبي الأكبر.
أما من الناحية الأخرى، فيرى الأوروبيون الموالون للاتحاد الأوروبي، أن توني بلير، لم يقم بما يكفي من خطوات عملية، لدمج بلاده بالاتحاد، خلال فترة حكمه التي دامت قرابة العشر سنوات. فلا تزال بريطانيا خارج نطاق منطقة اليورو، ولم تقم – حتى الآن – بإقرار الدستور الأوروبي، ولا تزال تعمل على بعض " الجبهات"، كبريطانيا لا كدولة عضو في اتحاد يتكرس يوما بعد يوم، ويتحول شيئا فشيئا إلى دولة واحدة. والأوروبيون الذين رفضوا توني بلير رئيسا للاتحاد، يعتقدون بأن هذا الأخير، يمثل الماضي ولا يرتبط بالمستقبل. وهذا لوحده سببا كافيا، لإبقاء بلير في أي مكان، إلى المكان الأوروبي.
والحقيقة، أن هؤلاء يمسكون بمبررات لا تقهر في هذا المجال. فكيف يمكن أن يأتي شخص من بلد ليس مندمج تماما مع وتيرة اندماج الاتحاد الأوروبي، ليكون رئيسا لهذا الاتحاد؟!. وكيف يمكن القبول بهذا الشخص، بينما لا تزال شوائب علاقاته مع إدارة بوش السابقة، على الساحة، بتداعياته وتبعاتها؟.
إنها مسألة فيها الكثير من النظر، والكثير من المنطق، والكثير من الحكمة. كما أنها ستكون مثالا يحتذى لأي زعيم أوروبي، يسعى في المستقبل للخروج عن "النص الأوروبي". فالاتحاد الأوروبي أصبح مثل الحزب السياسي، من يخرج عن نطاقه، يخرج منه.. وإلى الأبد، أو في أحسن الأحوال، يتعرض إلى تقليص نفوذه، بكل الوسائل المتاحة.
--------------------
m@karkouti.net