إن قيم المروءة عميقة الجذور في الشخصية العربية... وحتى هي سابقة على قيم الإسلام، فقد تحدى (هشام بن عمرو) وهو رجل من بني عبد مناف، الحصار الذي فرضته قريش على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه من المسلمين وأقربائه من بني هاشم وبني عبد المطلب، والذي سمي بحصار الشُّعب... فكان يأتي بالبعير ليلاً وقد حمّله طعاماً، حتى إذا أقبل به فـم الـشِّـعـب خلع رسنه من رأسه، ثم ضربه على جنبه فيدخل الحصان إلى الشعب راكضاً.. حاملا الطعام إلى الجوعى المحاصرين. وقد أمسك به كفار قريش غير مرة، وضربوه إلا أن هشاماً لم يرتدع عن مروءته، رغم أنه لم يكن مسلماً ولم يؤمن برسالة محمد (ص)... لكنه كان ذا شرف في قومه، فأبت عليه مروءته أن يتفرج على أخواله وقد منع عنهم الطعام... حتى ضاق به الحال فمشى إلى زهير بن أبي أمية بن المغيرة، وكانت أمه من بني عبد المطلب فقال: يا زهير... أقد رضيت أن تأكل الطـعـام وتلبس الثياب وتنكح النساء وأخوالك حيث قد علمت لا يباعون ولا يبتاع منهم... إلى آخر القصة الشهيرة التي انتهت بنقض هذا الحصار، بعد أن شاعت مروءة الرجال وانتقلت من فرد إلى آخر... فاجتمعوا على نقض هذا الحلف الجائر!
يحدث هذا قبل أكثر من أربعة عشر قرناً... وتستيقظ المروءة بين أناس مختلفين دينياً وقيمياً... أناس لا تجمعهم هوية وطن، ولا يعرفون شيئاً عن شرعة حقوق الإنسان، ولا عن الحضارة في زمن كان يصارع من أجل الاعتراف بوحدانية الله... لكن مجرمي هذا العصر، من جنودنا البواسل، ومن أشبال القائد الخالد، وخريجي مدرسته النضالية، لا يرقون بكل ما يحملون من قيم صنعتها عصور الحضارة، إلى أن يلامسوا إنسانية ومروءة كفار قريش قبل أربعة عشر قرناً... فيحكمون الحصار على معضمية الشام في الغرب، وعلى دوما وزملكا وعربين وكفربطنا في الشرق... ويحاصرون منذ أكثر من عام حمص القديمة حيث تعاني آلاف الأسر من الجوع ونقص المواد الطبية والغذائية... ويخوضون معركة القتل والتدمير، ليس بمروءة الرجال في نزال الشرف ومعركة الحق كما يدعي إعلامهم، بل بخسة ونذالة من يشهر سلاح الجوع في وجه الأطفال والنساء من المدنيين، كورقة ضغط وابتزاز للتغطية على خسائره، وانهيار معنويات جنوده!
ليست المشكلة فقط، في إشهار سلاح الجوع كواحد من أسلحة الحرب على الشعب السوري المطالب بحريته... لكن الوجه الأكثر إثارة للاشمئزاز، هو تحويل الجوع إلى لعبة استبداد وإذلال واجتراء على نعم الله.. ومارواه الزميل الصحفي محمود الزيبق في زيارته الأخيرة لغوطة دمشق على صفحته على الفيسبوك كان صافعاً ومدهشاً في مستوى انحطاطه إلى درجة لا يتخيلها عقل بشري، حيث كتب يقول:
(تتفنن حواجز النظام في امتهان ربطات الخبز المصادرة من العجائز الذين يحاولون ادخالها إلى الغوطة ، فيجمعونها تارة ككراسي يجلسون عليها ، ويلقونها تارة في الارض كممرات لهم ، وبين الحين والاخر يحرقونها جماعيا امام اعين الناس الذين يمضي احدهم ست ساعات على الحاجز في بعض الاوقات. بالأمس فتشوا كهلا يقود سيارته بحثا عن خبز .. قالوا له أخيرا "معقول ما معك خبز لنصادره " فأقسم لهم بذلك.. قالوا اذا سنعطيك نحن ربطة .. أخذها فرحا وبعد أن مشى قليلا تفاجأ برائحتها النتنة في سيارته.. فتحها ليجد أن أحدهم قد تغوط داخلها)!
فاجعة أهالي المعمضية في جيرانهم من سكان الحي الشرقي من الطائفة العلوية، تتجاوز ما يفعله جنود نظاميون على جواحز عسكرية... فقد ساهم جيران الأمس، في إحكام الحصار على أهالي المدينة التي استوطنوا أراضيها بقوانين الاستملاك التي انتزعت الأراضي بقروش من أصحابها الأصليين وجيرت لصالحهم، فنهبت خيرة أراضي المدينة التي كانت تشتهر بزيتونها وتينها. صور الأطفال السبعة الذين ماتوا من الجوع حتى الآن، لم تحرك فيهم شيئا... فما هي إلا استكمال لعمليات القصف التي تطال المدينة من جبال الفرقة الرابعة، ومن كرنفال الموت الجماعي الذي يهدى للمدينة تباعاً على طبق من شراكة وطنية لا مثيل لها في التاريخ!
إنني لا أشك أنه لو تم فك الطوق العسكري على المعضمية لساعات قليلة، وأعلنت عن حملة تبرعات إغاثية، لهب أهالي الريف الدمشقي والكثير من أبناء العاصمة أو سواها من مدن سورية، لتقاسم طعامهم مع أهالي الغوطتين، اللتين كانتا على مر التاريخ خزاناً من الخير والعطاء لدمشق وأهلها... وهي صور طالما رأيناها على مدار الثورة. فكم تبرع أهالي إدلب لحمص، وكم جمع أهالي السلمية من مؤن وسلل غذائية لأهالي ولاجئي حماه... وكم مشى أهالي الريف في حوران، حاملين أكفانهم على أكتافهم وأغصان الزيتون في أيديهم، يريدون إيصال الخبز والحليب لأهالي درعا المحاصرة في الأسابيع الأولى للثورة... فمات منهم من مات في مجزرة مساكن صيدا، واعتقل من اعتقل، وعذب من عذب... حتى كان من بين هؤلاء الطفل حمزة الخطيب الذي لن ينسى السوريون جسده المسجى على طاولة العذاب الوحشي في أقبية مساكن ضباط صيدا الطائفية، دافعاً ثمن مروءته في محاولة فك حصار الجوع عن أطفال درعا!
لكن معركة التجويع ستبقى فصلاً مهماً من فصول معركة الشعب السوري مع كل الأسلحة المحرمة التي استخدمها نظام الأسد... وستبقى عنواناً لفئة ترضى عليها نذالتها ووضاعة منبيتها القيمي تجويع الأطفال والنساء، وفئة أخرى تتخلق بأخلاق شعب حر معطاء خاض معركة البقاء بمروءة حتى النهاية... فلم يعمل نظام الأسد خلال أربعة عقود من حكمه على استهداف شيء في أخلاق الشعب السوري، قدر استهدافه لقيم المروءة والشهامة والمعاقبة عليها بعقلية انتقامية حاقدة... ولم يخش من شيء خشيته أن تشيع المروءة بين الناس، ولهذا سعى بكل ما أوتي من بطش ووحشية لأن يجعل من هذه المروءة جريمة... ومن الخوف من مقاربتها سلوكاً اجتماعياً لا يلوم فيه أحدٌ أحداً... لأنه يعرف الثمن الذي سيدفعه الجميع في أقبية التعذيب وفروع المخابرات.
نعم... إنها المروءة تستيقظ بشجاعة في نفوس السوريين، لتصنع حداً فاصلا بين نذالة ووحشية عبيد الأسد... ونبل وشهامة طلاب الحرية والكرامة. المروءة التي تطلق اليوم حملة إضراب عن الطعام اسمها: (إضراب لا للركوع) لتقول للأسد وأشباهه ما قالته منذ الهتافات الأولى للثورة: الموت ولا المذلة.
--------------------- * - أورينت نت