كان الغضب والأسى واضحين على مُحيّا الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وهو يوجّه كلماته إلى المشائخ المصطفين حوله على الأرائك، في يوم الجمعة، الأول من أغسطس/آب، وقد ران على رؤوسهم الصمت. كان غضبا حاول الملك الصبور أن يكتمه في صدره، ولكنه لم يستطع إلا أن يُنفّس عن بعضه، فبقاؤه كله في الصدر كاتم للأنفاس، موجع للقلب، ولذلك لم يستطع الملك الشيخ، الذي خبر الأيام وخبرته، إلا أن يتوجه إلى المشائخ من حوله بالقول، وهو يحاول أن يتماسك من فرط ما يُحسّ به من غضب وأسى: “ما أقدر أتكلم الذي في صدري، لأن الذي في صدري أعتقد أنكم أنتم أدرى به، وما يسفطه قلبي ونفسي وأخلاقي ومبدئي إلا شيء أحسه من صغيركم وكبيركم ومشايخكم وهذا هم يسمعون كلهم، وأطلب منهم أن يطردوا الكسل عنهم، ترى فيكم كسل وفيكم صمت، وفيكم أمر ما هو واجب عليكم. واجب عليكم دنياكم ودينكم، دينكم، دينكم. وربي فوق كل شيء”.
فالملك يرى كيف يُختطف الإسلام أمام عينيه، وأمام أعين هؤلاء المشائخ، الذين يُفترض بهم أن يكونوا هم العالمون بحقيقة الدين وجوهره، وبالتالي هم الأقدر على الدفاع عنه وتفنيد حجج مختطفيه، ومقدمي الحل لدولة كانت كريمة معهم، وأغدقت عليهم كل غال ونفيس، ورفعتهم فوق كل الأكتاف والرؤوس.
هؤلاء المشائخ الفضلاء الذين توقع منهم الملك الشيخ فكّ أسر الدين من آسريه ذوي الغايات التي لا تمت للدين بصلة، ومن مُعيدي تفسيره وتأويله، سواء من قبل الانتهازيين والمتسلقين من أصحاب الغايات الخاصة، أو من قبل جهلة لا يفقهون، أو من قبل شباب حلموا بكل جميل في الحياة، وغضبوا حين تحطمت أحلامهم على صخرة واقع لا يرحم، فارتموا في أحضان يأس أخذهم في أحضانه إلى حيث يعلمون ولا يعلمون، فمنهم من رفض الدين جملة وتفصيلا، ومنهم من رمى نفسه في أحضان تنظيمات ظنها حانية، ومنهم من هو تائه لا يدري كيف أصبح وإلى أين المصير.
من هاوية اليأس تلك، استغلهم هؤلاء وأولئك، فغسلوا أدمغتهم بحديث البطولة والجهاد ونعيم الدنيا وجنة الآخرة، بما فيها من ملذات تهفو إليها نفس شاب محروم في دنيا ظالمة شحيحة. والملك يرى عجز هؤلاء المشائخ والعلماء والدعاة عن استيعاب عقول هذه الآلاف المؤلفة من بني وطنه الذين تحولوا إلى مطايا لداعش والقاعدة والنصرة وأنصار شريعة، تنظيمات وتفسيرات ما أنزل الله بها من سلطان، وغيرها من كل ناعق بالجهاد وسفك الدم، وضارب على أوتار غريزة عمياء، وفي النهاية فإن هؤلاء الشباب هم الضحايا، فيما غيرهم من الناعقين يرفلون بالدمقس وبالحرير، يأكلون من الطعام أطيبه وألينه، ومن الشراب أمرأه وأسيغه، ويتزوجون من النساء مثنى وثلاث ورباع، ناهيك عمّا ملكت اليمين، فيما يفقد الشباب أحلامهم وواقعهم معا، فلا أرضا في النهاية أقلتهم، ولا سماء أظلتهم.
أساس الأزمة
يرى الملك وطنه مهددا بجماعات ترفع راية مختومة باسم الله والرسول، وتنطلق في أفعالها من قال الله وقال الرسول، فيما هذا الجمع الغفير من القيمين على دين الله لا يحركون ساكنا، وهم إن فعلوا، لا يُقنعون ولا يكون لكلماتهم أثر، فيما دعاة جهنم وجماعات جحيم الأرض والسماء، تجد آذانا صاغية وأفئدة مائلة إليهم، فهم يبشّرون بنعيم الدنيا وحور الآخرة، فإن فاتتك واحدة فلن تفوتك الثانية، وما عليك إلا أن تقتل أو تُقتل للفوز بإحدى الحسنين، في استغلال لئيم لبشرى جميلة كانت أيام نبي الهدى، فإذا هي اليوم تُحوّل إلى لعنة على المؤمنين الصادقين القابضين على دينهم كما الجمر في الأيدي، بل وعلى البشر أجمعين، فما السبب وأين تكمن العلة؟ يلوم الملك الشيخ هذه الصفوة من المشائخ بالكسل والتقاعس، بل وعدم الجدية في مواجهة من صادروا كلمة الله، واختطفوا راية الرسول، وأصبحوا يهددون وطنهم قبل أي شيء آخر، وأنا على يقين بأنهم سيصبحون على ما فعلوا نادمين في النهاية، ولكن ما نفع الصوت إذا فات الفوت، وما جدوى البكاء على الأطلال حين لا يبقى إلا الأطلال وغربان السوء الناعقة على مآذن البصرة.
من أجل ذلك كان الملك المُنهك بهمّ المسؤولية وعبء السنين، صريحا فيما قال في تلك الجمعة المشهودة من الزمان، ومن أجل ذلك يجب علينا بالتالي أن نكون صرحاء أيضا في تحديد أين تكمن العلة، وكيف يكون العلاج، أو جزء من العلاج، فالوطن على المحك هنا، فإذا ضاع الوطن ضاع كل شيء، ولن تفرّق الخسارة ساعتها بين ملك وشعب، أو أسرة حاكمة وأخرى محكومة، بل ولا تفرق بين كل من دبّ على أرضه وسار على رماله، فالضياع مآل الجميع في هذه الحالة، لا قدر الله، وهو ما عبّر عنه الملك عبدالله بكلماته الفطرية البسيطة، موجها كلامه للحضور بأسى: “وأنا واحد منكم، وفرد منكم، ولا تحسبون إنني قاعد هنا، لو الله لا يقدر بيصير شيء أولهم أنا. أنا على ما فيكم”.
من هذا المنطلق يمكن القول يا خادم الشريفين، إن القضية لا تكمن في تكاسل مشائخنا الأجلاء، والأزمة ليست في تقاعس دعاتنا الفصحاء، والمسألة لا تكمن في عدم الحركة والنشاط، ففتاوى مشائخنا الفضلاء تملأ صفحات الكتب وكافة وسائل الإعلام، والدعاة لدينا، الصالح منهم والطالح، والطامع منهم والطامح، وعلى اختلاف مشاربهم وغاياتهم، يملأون مساجدنا، ومدارسنا، وجامعاتنا، ومراكزنا الصيفية والشتوية، وحلقات الدرس والتحفيظ لدينا، ومؤسسات الدولة، بل وحتى أجهزتنا الأمنية، ودخلوا علينا البيوت من خلال أولادنا وبناتنا، وهم في نشاط لا يكل، ولا توجد قناة تلفزيونية أو إذاعية إلا وتجد لهم فيها نصيب. ليسوا كسالى يا خادم الحرمين، بل هم في غاية النشاط، ولكنه حرث في بحر، ورسم على الرمال، إلا أولئك ممن خطفوا دين محمد عليه الصلاة والسلام، وحوّروا كلمة الله، فأصبح الإسلام في نظر العالم، بل وكما هو مفهوم وممارس من قبل الكثيرين، رديف العنف والدم والخراب، وأصبح شرع الله لا يعني أكثر من حزّ للأعناق، وتقطيع للأطراف، وتمزيق للأجساد بالسياط.
الأزمة كل الأزمة يا سيدي الكريم تقبع في ذات الفكر، وذات الخطاب، ومفردات الفقه الذي يحمله هؤلاء عبر القرون والسنين، ولا يستطيعون النظر من منظار غيره، ولذلك هم غير قادرين على التصدي لجماعات العنف والتطرف وحزّ الأعناق، لا لكسل أو تكاسل، بل لكون الجميع يشتركون في ذات الفكر وفي ذات المقولات، وينطلقون من ذات الفقه، ويقولون بذات الخطاب، ولذلك كيف يمكن لهم أن يتصدوا لفكر هم أنفسهم يحملون أسسه في دواخلهم، وتلافيف أدمغتهم؟ هذا ليس قدحا في مشائخنا الفضلاء، ولا في نواياهم أو مواقفهم أو نقاء عقيدتهم، حاشا لله من ذلك، ولكنه تقرير لواقع فكري كلنا نعيشه، وها هو اليوم يلقي بظلاله الكئيبة علينا، ويُنيخ بكلكله على مستقبلنا، ويقيد حركة وطننا.
في حقيقة الإسلام
يا سيدي الملك الكريم، الأساس الفكري ومنطلقات الخطاب واحدة لدى الجميع، فإن تفرقت بهم سبل الفعل، فإنهم لا يستطيعون الانفكاك من خيوط الخطاب، فمثلا في فتوى صادرة عن هيئة كبار العلماء في المملكة، وموقعة من كبار علماء الدين لدينا (فتوى رقم 21413، في 1/4/1421)، وهي غيض من فيض وما أوردناها هنا إلا كضرب للمثل، يتفق الجميع على القول: “ولهذا أجمع العلماء على تحريم بناء المعابد الكفرية مثل: الكنائس في بلاد المسلمين، وأنه لا يجوز اجتماع قبلتين في بلد واحد من بلاد الإسلام، وألا يكون فيها شيء من شعائر الكفار لا كنائس ولا غيرها، وأجمعوا على وجوب هدم الكنائس وغيرها من المعابد الكفرية إذا أحدثت في أرض الإسلام، ولا تجوز معارضة وليّ الأمر في هدمها بل تجب طاعته”. وفي ذلك أجد تناقضا مع وصية أبي بكر الصديق مثلا، الذي كان يجري راجلا خلف جيش أسامة بن زيد، موصيا بعدم قطع شجرة أو الاعتداء على امرأة أو طفل أو هدم صومعة، أو إيذاء ناسك متعبد فيها. وأين ذلك من فعل عمر بن الخطاب الذي رفض أن يُصلى في كنيسة القيامة وصلى خارجها، كي لا يتخذها المسلمون من بعده مسجدا. لم يهدم الفاروق الكنيسة، بل رضخ لشروط نصارى القدس من أجل الدخول إلى “إيلياء”، ولم يجز حتى تحويلها إلى مسجد، وهو ذات عمر الذي أمر بصرف إعانة ليهودي عجوز كان يتسول في أسواق المدينة لجمع الجزية المستحقة عليه، وقال له: “والله ما أنصفناك، نأخذ منك شابا، ثم نضيعك شيخا”، وهو ذات عمر الذي جعل القبطي المصري يقتص من ابن عمرو بن العاص، أمير مصر وواليها، حين ضرب ابن عمرو القبطي لأن فرسه سبقت فرس “ابن الأكرمين”، في القصة المعروفة، ولا أظن أحدا منا، بل وأجزم أنه لا أحد منا يصل إلى قامة الشيخين في الورع والتقوى وحب الإسلام والمسلمين. وعندما دخل صلاح الدين الأيوبي القدس فاتحا، لم يهدم الكنائس، ولا نحر النصارى أو هجّرهم، بل كان حاميا لهم وراعيا، وهذا هو إسلام نبي الهدى، صلى الله عليه وسلم، الذي مات ودرعه مرهونة عند يهودي، يا سيدي الملك، كما فهموه وكما أفهمه، وليس ما أسموه إسلاما ورفعوا رايته هذه الأيام، من الأوصياء والحراس والتنظيمات، وهو إسلام أجزم بأنه أبعد ما يكون عن حقيقة الإسلام. حديث يطول يا سيدي الملك، ولكن كل ما يهمني هذه الأيام، بل وكل الأيام، هو وطني وبلدي وأهلي، الذي أرى أنه إلى الهاوية يسير، ما لم يتداركنا الله برحمته، ولن يتداركنا الله جلت قدرته برحمته إلا إذا كنا من المستحقين لهذه الرحمة، فالله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
بمثل الفكر والخطاب الديني، ولا أقول الدين، الذي يحمله مشائخنا ودعاتنا، والذي تلخصه الفتوى آنفة الذكر دون ذكر المزيد، فليس المراد فتح باب الجدل والنقاش مع مشائخنا الأجلاء، كيف يمكن لنا أن نردّ على خطاب داعش والقاعدة وجبهة النصرة وأنصار الشريعة، وكل تلك الطفيليات التي انبثقت على هامش الإسلام، وكانت جرثومتها تنمو بيننا وفي ديارنا، ونحن من حضن فكرها وخطابها صغيرا حتى نما، وكانت الدولة خير معين في ذلك في فترة من الفترات، وخاصة من بعد كارثة جهيمان وأفغانستان وحديث الصحوة، فكانت في النهاية وبالا علينا؟ كيف لنا أن نطلب من “مواطنينا” أن يهبّوا لردع مثل هذه الآفات الفكرية التي أسميناها “ضالة”، ونحن من غض الطرف في كثير من الأحيان عن نفي المواطنة عن مواطنينا، فكان منا الكافر والمشرك والزنديق والعلماني والرافضي، وكل ذلك باسم إسلام أجزم بأن محمدا، صلى الله عليه وسلم، منه براء.
بأي منطق وبأي حجة يمكن أن نشجب قتل أناس من أهل القبلة في العراق والشام مثلا، أو تهجير أناس من ديار كانوا فيها لقرون عديدة، وقتلهم لأنهم مختلفون عنا في دينهم، وفيروس كل ذلك نجده كامنا ومختبئا في تلافيف خطابنا؟ بل وكيف لنا أن نتعامل مع عالم نحن بحاجة إليه أكثر مما هو بحاجة إلينا، ونحن نصمهم بالكفر والشرك وأنهم من أصحاب النار وبئس القرار؟ أنت تدعو يا سيدي الملك إلى حوار بين الأديان، وهي دعوة مخلصة وجميلة ونابعة من قلب فطري، والفطرة هي أساس الإسلام، رغم أني أرى أن التعايش بين الأديان هو الأهم، فعش ودع غيرك يعيش، فكيف يمكن يا سيدي أن تتحاور مع من يقول من مشائخنا بصريح العبارة أنهم كفرة ولن يُقبل منهم عمل، ومآلهم الدرك الأسفل من النار، في الوقت الذي يقول فيه رب الكون والناس أجمعين: “إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ” (البقرة، 62)، أم أننا أصبحنا، لا قدر الله، ممن ينطبق عليهم قول الحق جلت قدرته: “ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ” (البقرة، 74). أجل يا سيدي الملك، لقد أصبح الكثير منا، إلا من رحم ربي، ينطبق عليهم قول الجليل: “فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ” (البقرة، 79).
أحكام لا تصلح لزماننا
سيدي الملك الكريم، لا شك في أن ربنا هو الله الواحد الأحد سبحانه وتعالى، وديننا هو الإسلام، ونبينا هو محمد بن عبدالله، صلى الله عليه وسلم، ولا يُماري في ذلك أحد، فلسنا سلفيين أو صوفيين أو سنة أو شيعة، بل نحن مسلمون أولا وآخرا وكفى. نبينا محمد، وليس ابن حنبل أو ابن تيمية أو ابن القيم أو ابن عبدالوهاب، نبي الهدى هو محمد بن عبدالله وكفى، و”كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر”، كما قال الإمام مالك بن أنس، وهو يشير إلى قبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم. مشكلتنا التي أوردتنا المهالك يا ملك القلوب تكمن في خطابنا الثقافي الذي لا يتناسب مع معطيات العصر وتغيراته وعلاقات البشر مع بعضهم البعض فيه. ومشكلتنا تكمن في فقهنا الذي نستمده من هذا وذاك من سلف عاش أيامه واجتهد مشكورا في استنباط أحكام قدسناها رغم أنها تخص ذاك الزمان ومشكلاته، ولكنها أحكام لا تصلح لزماننا. نحن اليوم نعيش في دولة حديثة ذات مؤسسات قادرة على سنّ قوانينها وأحكامها من خلال مؤسسات قادرة على تلمس مشكلاتنا المعيشة، ووضع القوانين المناسبة لتنظيم العلاقة بين قاطني الدولة، وبين ذات الدولة وبقية دول العالم، دون تصنيف أو فرز وفق أسس وضعها سلف نجلّهم ونحترمهم ونستفيد من تجاربهم، ولكنهم ليسوا بأوصياء علينا، ولا نتلمس الحلول من فكرهم، بل نتلمّسه من ظروف الإنسان في هذا الزمان، وإلا تحول القول بالسلفية إلى نوع من عبادة الأسلاف والعياذ بالله، وهذا دين يختلف عن دين الإسلام، الذي هو دين فطري بسيط فهمه الأعرابي البسيط في صحراء الجزيرة وتعبّد به، دون حاجة إلى وسيط أو وسيلة خارج الذات، فالله موجود في كل مكان، وهو معنا في كل حين، وإلا تحولنا إلى ما حذرنا منه خالق الخلق وهو يقول في محكم كتابه: “وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ” (البقرة، 170). السلفية الناجحة والقادرة على إخراجنا من مأزقنا الحضاري هي ما يمكن أن نسميه “سلفية المنهج”، وليست سلفية المُنتج، ووفق هذه السلفية، إن كان لنا أن نسميها سلفية، قام العلم الحديث الذي على أساسه قامت حضارة الإنسان في هذا الزمان. نستفيد من منهج هذا وذاك في الوصول إلى الأحكام مثلا، دون تقديس أو القول بعصمة ليست إلا لنبيّ مرسل، ولكننا لا نقدس الأحكام المنتجة ونجعلها حكما علينا ومحددا لحلول مشكلاتنا.
ميزة دين الإسلام يا سيدي الملك هي أنه دين لا يعترف بالكهنوت والكهنوتية وطبقة خاصة من رجال الدين، بل إنه يمقت ذلك ويأمر بالحذر مما وقعت فيه الأديان السابقة في هذا الأمر. وميزة الإسلام يا سيدي، تلك الميزة التي انتشر من خلالها وساد حضاريا في فترة من الفترات، هي أن قائمة محرماته قليلة، بل نكاد نعدها على أصابع اليد الواحدة، وكل ما عدا ذلك فإن الأصل فيه الإباحة، ولكن هناك من يريد، بل وجعله واقعا، من أن يكون الإسلام دينا كهنوتيا له رهبانه وأحباره وبطاركته، ومن أجل ذلك اختطف الإسلام، سواء من قبل تلك الجماعات التي أصبح دينها قائما على حز الرقاب وسفك الدماء، أو على يد أفراد جعلوا من أنفسهم أوصياء على دين تعهد صاحبه بأنه له من الحافظين حتى يوم يُبعثون، فكانوا له أيضا من الخاطفين، حتى وهم لا يشعرون، أو كان ذلك بنيّة طيبة، فغابت سماحة الدين، وغابت قيمه السامية التي أرادها الحق لخلقه من البشر أجمعين، دون فرز أو تصنيف جعل من البشر أعداء، وجعل من الكثير منا رسل خوف وعنف ودمار لكل ما هو إنساني، رغم أن خالق الجميع يقول: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” (الحجرات، 13). خلقنا الله شعوبا وقبائل، أي أن تعدد الجماعات واختلافها أمر فطري أراده رب السماوات والأرض. وخلق الله تلك الشعوب والقبائل لتتعارفوا لا لتتناحروا أو تتقاتلوا. وأكرمكم عند الله أتقاكم، لا أعنفكم أو أكثركم سفكا للدماء، ولب التقوى هو ليّن العريكة وحسن الخلق، ولنا في المصطفى الأمين أسوة حسنة، وهو الذي وصفه الرحمن بقوله: “وإنك لعلى خلق عظيم”.
وطننا اليوم يمر بأزمة وجود حقيقة، فهناك من المشكلات والأزمات الشيء الكثير، وهي مشكلات وأزمات صنعنا الكثير منها بأيدينا ونحن عن عواقبها غافلون، ولكن وكما خلقت في الماضي بأيدينا، فإنه لا يزال في أيدينا مفاتيح الحل أيضا، قبل أن يفوت أوان الحل، ويضيع الصوت مع فوات الفوت. الدولة السعودية الأولى يا سيدي الكريم قامت في شرعيتها السياسية على أساس دعوة طهرانية دينية، هي دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب في القرن الثامن عشر الميلادي، وأهم ما في هذه الدعوة ليس ما قالت به، رغم أهميته للمسلمين في ذاك الزمان، بل في كونها دعوة “تجديدية “، وفي مفهوم “التجديد ” يكمن الحل لكل حل. شرعية الدولة السعودية قائمة إذن على التجديد، وإلا فإن دين الإسلام لكل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وليس لجماعة من المسلمين دون جماعة أخرى أو على حسابها، وقد قال نبي الرحمة، صلى الله عليه وسلم، في الحديث الصحيح عن أبي هريرة: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها”، وقد آن أوان التجديد يا سيدي الملك.. آن أوان التجديد، والخروج من عباءة أصبحت ضيقة علينا، ومعيقة لحركتنا، دون سند من دين أو عقل، بل هو التقليد المميت بخيره وشره. وقانا الله شر الأزمات، ما ظهر منها وما بطن، ولكن لنتذكر دائما أن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد، وإليه عاقبة الأمور.
---------------
العرب