تركيا اليوم هي "القوة الناعمة" الصاعدة في منطقة الشرق الأوسط. تتقدم بخطى مدروسة وثقة قوية وهدوء لافت وفق استراتيجية مرسومة بدقة. تركيا ذات الاقتصاد القوي الذي يمكنها من منافسة الصناعة النسيجية الصينية مثلاً، تعرف انها قادرة على البناء والاستثمار بدلاً من الاقتحام واستخدام الضد ضد ضده، وتفكيك القوى لكي تصبح كلها ضعيفة وهي القوية المطلوبة. هذا الدور التركي الايجابي يشجع الآخرين خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط على مقابلة كل خطوة منها بخطوة مماثلة لها وأحياناً بخطوتين. المنطقة بحاجة لقوة موازنة لإيران وإسرائيل في وقت واحد.
غياب الدور العربي هو الذي جعل مهمة تركيا أسهل. طالما انها لا تلعب لتقود المنطقة وانما لتدعمها ولتخفف من مواطن الضعف فيها، فانها دائماً على الرحب والسعة. هذا الترحيب العربي، طبيعي أيضاً خصوصاً وأن تركيا تقدم نفسها اليوم دولة اسلامية "اسلامها نموذج للاعتدال" في زمن الاصوليات المتطرفة. وهي وان كانت مذهبياً سنية الا انها لا تعمل لقيام محور سني في المنطقة، بما يعني ذلك من مجابهة مع محور شيعي تقوده ايران. أنقرة تتحرك كما هو واضح حتى الآن خارج الانتماء المذهبي ووفقاً لقراءات استراتيجية تقوي أطراف المنطقة. بهذا المعنى تعمل تركيا على رأب الصدع الواقع منذ فترة بين المسلمين الممزقين بسكين المذهبية.
تركيا لا تعطي فقط وانما هي تأخذ أيضاً. من الطبيعي جداً وجود مثل هذه المعادلة. الدول ليست "كاريتاس" وهي تتحرك دائماً وفق مصالحها. ما تعطيه من قوة دفع في المنطقة تستثمره في مواجهة الاوروبي الذي أبعدها عن الانتماء اليه. المعادلة واضحة جداً. تركيا تقول للاتحاد الاوروبي "لا تريدوننا، انتم الخاسرون لأنكم لا تستطيعون اللعب بدوننا".
فلسطين شكلت "الرافعة" الصلبة للدور التركي. عرفت أنقرة أن أقرب الطرق الى قلب العرب والمسلمين فلسطين فوقفت مع شعبها. حتى الآن لم تخسر أنقرة حليفتها "السابقة". من الضروري حسب استراتيجيتها المعلنة المحافظة على العلاقات مع تل أبيب، لأن في التوازن المستحدث، يرتفع رصيد دورها الفاعل في المستقبل مع انفتاح مسارات الحل السياسي للصراع العربي ـ الإسرائيلي.
المهم في هذا التحول باتجاه فلسطين، أن أردوغان وحكومته يعملان وفق "نبض" الشارع التركي. يعرفان جيداً أن هذه السياسة تلاقي ترحيباً وتأييداً في قلب هذا الشارع العائد الى جذوره الشرقية والمسلمة والمتآخي مع جراح الشعب الفلسطيني.
"الصلح" والمصالحة
قبل أن يقع هذا التحول في "البوصلة" التركية باتجاه فلسطين، نجح أردوغان في عقد "صلح" إذا صح التعبير مع جيرانه العرب. انفتح على دمشق وركب "قطار" التطبيع حتى وصل الى محطة التحالف الاستراتيجي. هذه العملية جعلت من طرقه "للباب الفلسطيني" طبيعياً وليس مصطنعاً. فيما يفعل ذلك، طور تحالفه مع دمشق باتجاه تنفيذ سياسة أكثر ايجابية منه ومن حليفته الجديدة دمشق.
هذه الايجابية تثبتت في العلاقات مع لبنان. أردوغان يتابع بدقة وشفافية تطور العلاقات السورية ـ اللبنانية. يعمل على إزالة أي "لغم" على مسار التطبيع بين بيروت ودمشق. يعرف أردوغان أن من الخطأ اقامة بناء غير متوازن في العلاقات مع دمشق وبيروت. لكل واحدة من العاصمتين موقفها، الأهم أنه يدرك جيداً ان "استقرار لبنان جزء من استقرار منطقة الشرق الأوسط".
ما يشجع أردوغان على اقامة العلاقات المتوازنة مع بيروت ودمشق، انه لا يمكن اطلاق تعاون استراتيجي اقتصادي وسياسي في المنطقة مع واحدة دون الاخرى. إلغاء التأشيرات يؤشر نحو مشروع أكبر عنوانه يشبه بطريقة أو أخرى تجمع "شينغن" الأوروبي، بدايته تركيا وسوريا والأردن ولبنان. فتح الحدود هو الخطوة الاولى نحو اقامة سوق شرق أوسطية واسعة. الاقتصاد هو عمود بناء علاقات سياسية مقاومة للهزات.
تركيا لا تريد التخلي عن تحالفها أو على الأقل علاقاتها المتينة مع إسرائيل، لان ذلك يفقدها الدور. أيضاً تركيا لا تريد أو هي لا تتقصد مزاحمة إيران وضرب موقعها. لكن السياسة التركية التي تنفذ اليوم ستؤدي حكماً، الى التباعد مع إسرائيل. كلما اقتربت تركيا من "نبض" القضية الفلسطينية كلما ابتعدت حكماً عن تل أبيب.
الحل السياسي للصراع العربي ـ الإسرائيلي وحده يشكل "خشبة الخلاص" للعلاقات التركية ـ الإسرائيلية القديمة.
أيضاً كلما اقتربت تركيا من العرب خارج المذهبية والتحركات الايجابية ومن فلسطين وقضيتها، كلما سحبت عملياً "البساط" من تحت اقدام إيران في المنطقة.
هذا التطور هل ترجمته أن تركيا تريد وراثة إيران ودورها؟
أحلام الدول وطموحاتها تقوم في كثير من الأحيان على حيثيات تاريخية. "صحيح أن تركيا اليوم ليست عثمانية وإيران ليست صفوية". لكن كون كل واحدة منها دولة مسلمة وإسلامية وقوة عظمى إقليمية فان تقدم الواحدة منهما يكون دائماً على حساب الأخرى.
"خارطة الطريق" التركية الجديدة ما زالت في صياغاتها الاولى. التطورات هي التي ستلغي أو تؤكد المسارات الحقيقية والنهائية لها.
ما يشجع أردوغان على اقامة العلاقات المتوازنة مع بيروت ودمشق، يفتح الطريق نحو تحقيق حلم عظيم وهو اقامة تجمع شرق أوسطي اقتصادي.
-----------------------------------
المستقبل
غياب الدور العربي هو الذي جعل مهمة تركيا أسهل. طالما انها لا تلعب لتقود المنطقة وانما لتدعمها ولتخفف من مواطن الضعف فيها، فانها دائماً على الرحب والسعة. هذا الترحيب العربي، طبيعي أيضاً خصوصاً وأن تركيا تقدم نفسها اليوم دولة اسلامية "اسلامها نموذج للاعتدال" في زمن الاصوليات المتطرفة. وهي وان كانت مذهبياً سنية الا انها لا تعمل لقيام محور سني في المنطقة، بما يعني ذلك من مجابهة مع محور شيعي تقوده ايران. أنقرة تتحرك كما هو واضح حتى الآن خارج الانتماء المذهبي ووفقاً لقراءات استراتيجية تقوي أطراف المنطقة. بهذا المعنى تعمل تركيا على رأب الصدع الواقع منذ فترة بين المسلمين الممزقين بسكين المذهبية.
تركيا لا تعطي فقط وانما هي تأخذ أيضاً. من الطبيعي جداً وجود مثل هذه المعادلة. الدول ليست "كاريتاس" وهي تتحرك دائماً وفق مصالحها. ما تعطيه من قوة دفع في المنطقة تستثمره في مواجهة الاوروبي الذي أبعدها عن الانتماء اليه. المعادلة واضحة جداً. تركيا تقول للاتحاد الاوروبي "لا تريدوننا، انتم الخاسرون لأنكم لا تستطيعون اللعب بدوننا".
فلسطين شكلت "الرافعة" الصلبة للدور التركي. عرفت أنقرة أن أقرب الطرق الى قلب العرب والمسلمين فلسطين فوقفت مع شعبها. حتى الآن لم تخسر أنقرة حليفتها "السابقة". من الضروري حسب استراتيجيتها المعلنة المحافظة على العلاقات مع تل أبيب، لأن في التوازن المستحدث، يرتفع رصيد دورها الفاعل في المستقبل مع انفتاح مسارات الحل السياسي للصراع العربي ـ الإسرائيلي.
المهم في هذا التحول باتجاه فلسطين، أن أردوغان وحكومته يعملان وفق "نبض" الشارع التركي. يعرفان جيداً أن هذه السياسة تلاقي ترحيباً وتأييداً في قلب هذا الشارع العائد الى جذوره الشرقية والمسلمة والمتآخي مع جراح الشعب الفلسطيني.
"الصلح" والمصالحة
قبل أن يقع هذا التحول في "البوصلة" التركية باتجاه فلسطين، نجح أردوغان في عقد "صلح" إذا صح التعبير مع جيرانه العرب. انفتح على دمشق وركب "قطار" التطبيع حتى وصل الى محطة التحالف الاستراتيجي. هذه العملية جعلت من طرقه "للباب الفلسطيني" طبيعياً وليس مصطنعاً. فيما يفعل ذلك، طور تحالفه مع دمشق باتجاه تنفيذ سياسة أكثر ايجابية منه ومن حليفته الجديدة دمشق.
هذه الايجابية تثبتت في العلاقات مع لبنان. أردوغان يتابع بدقة وشفافية تطور العلاقات السورية ـ اللبنانية. يعمل على إزالة أي "لغم" على مسار التطبيع بين بيروت ودمشق. يعرف أردوغان أن من الخطأ اقامة بناء غير متوازن في العلاقات مع دمشق وبيروت. لكل واحدة من العاصمتين موقفها، الأهم أنه يدرك جيداً ان "استقرار لبنان جزء من استقرار منطقة الشرق الأوسط".
ما يشجع أردوغان على اقامة العلاقات المتوازنة مع بيروت ودمشق، انه لا يمكن اطلاق تعاون استراتيجي اقتصادي وسياسي في المنطقة مع واحدة دون الاخرى. إلغاء التأشيرات يؤشر نحو مشروع أكبر عنوانه يشبه بطريقة أو أخرى تجمع "شينغن" الأوروبي، بدايته تركيا وسوريا والأردن ولبنان. فتح الحدود هو الخطوة الاولى نحو اقامة سوق شرق أوسطية واسعة. الاقتصاد هو عمود بناء علاقات سياسية مقاومة للهزات.
تركيا لا تريد التخلي عن تحالفها أو على الأقل علاقاتها المتينة مع إسرائيل، لان ذلك يفقدها الدور. أيضاً تركيا لا تريد أو هي لا تتقصد مزاحمة إيران وضرب موقعها. لكن السياسة التركية التي تنفذ اليوم ستؤدي حكماً، الى التباعد مع إسرائيل. كلما اقتربت تركيا من "نبض" القضية الفلسطينية كلما ابتعدت حكماً عن تل أبيب.
الحل السياسي للصراع العربي ـ الإسرائيلي وحده يشكل "خشبة الخلاص" للعلاقات التركية ـ الإسرائيلية القديمة.
أيضاً كلما اقتربت تركيا من العرب خارج المذهبية والتحركات الايجابية ومن فلسطين وقضيتها، كلما سحبت عملياً "البساط" من تحت اقدام إيران في المنطقة.
هذا التطور هل ترجمته أن تركيا تريد وراثة إيران ودورها؟
أحلام الدول وطموحاتها تقوم في كثير من الأحيان على حيثيات تاريخية. "صحيح أن تركيا اليوم ليست عثمانية وإيران ليست صفوية". لكن كون كل واحدة منها دولة مسلمة وإسلامية وقوة عظمى إقليمية فان تقدم الواحدة منهما يكون دائماً على حساب الأخرى.
"خارطة الطريق" التركية الجديدة ما زالت في صياغاتها الاولى. التطورات هي التي ستلغي أو تؤكد المسارات الحقيقية والنهائية لها.
ما يشجع أردوغان على اقامة العلاقات المتوازنة مع بيروت ودمشق، يفتح الطريق نحو تحقيق حلم عظيم وهو اقامة تجمع شرق أوسطي اقتصادي.
-----------------------------------
المستقبل